من مفارقات هذا الزمان وغرائبه أنه فى حين تتقدم تركيا بخطى حثيثة وحاسمة باتجاه إخراج العسكر من السياسة، فإن بعض المثقفين المصريين يتحمسون لإدخالهم فيها.
(1)
أحدث خطى الحسم فى تركيا وقعت فى الأسبوع الماضى. حين أعلن فجأة أن قادة الجيش قدموا استقالاتهم من مناصبهم احتجاجا على ما اعتبروه تدخلا من جانب الحكومة فى شئون القوات المسلحة. الأمر الذى أحدث دويا تردد صداه فى العديد من عواصم الدنيا. أحد أسباب الدوى أن قادة الجيش التركى كانت لهم لغة أخرى فى مخاطبة حكومة أنقرة. فقد كانوا يقيلون ولا يستقيلون، ويوجهون الإنذارات ويطلقون المدرعات فى الشوارع ولا يتخلون عن مناصبهم وينسحبون إلى بيوتهم. هذا المعنى عبر عنه المعلق التركى المعروف جنكيز شاندار بقوله إن الأيام التى كان الجيش يصدر فيها الأوامر ولت. وأن كل من راهن على أن الجيش يمكن أن يسجل نقطة فى الشأن السياسى عليه أن ينسى ذلك، لأن المعادلة اختلفت عما قبل.
لأن المفاجأة كانت كبيرة، فقد راقب الجميع تداعياتها، وقرأتها الأطراف المعنية كل من زاوية حساباته ومصالحه. ورغم أن الحدث يظل شأنا داخليا من وجهة النظر المصرية، إلا أننى وجدت أنه ينبغى أن يقرأ فى القاهرة بعناية شديدة من جانب المعنيين بوضع النظام الجديد للبلاد. لسبب مختلف تماما. ذلك أن ثمة أصواتا ارتفعت فى مصر خلال الأسابيع الأخيرة داعية إلى عسكرة ذلك النظام. وطالبت بالنص فى الدستور على توسيع اختصاصات القوات المسلحة، بحيث تقوم بدور فى حراسة النظام الديمقراطى والدولة المدنية. ومن ثم تحويلها من درع الوطن إلى وصى غير مباشر عليه. ومن حارس لأمنه وحدوده إلى حكم فى السياسة وصانع لها.
(2)
«زلزال أربع نجوم» ــ كان ذلك عنوانا رئيسيا لصحيفة «الصباح» الموالية للحكومة الصادرة يوم السبت 30/7. التى وصفت به الحدث الاستثنائى وغير المسبوق فى التاريخ التركى المعاصر. وبمقتضاه تمت استقالة رئيس الأركان الجنرال آسيك كوشانير، وقادة الأسلحة الأخرى البرية والجوية والبحرية إضافة إلى رئيس الأكاديمية العسكرية من مناصبهم. ولأن رائحة الخلافات بين الحكومة والجيش قد تسربت منذ أكثر من عام. بسبب اتهام بعض كبار الضباط فى مؤامرة للاطاحة بالحكومة فقد سارع المحللون إلى القول بأن تطورات ملف أولئك الضباط هو الذى فجر الأزمة وأوصلها إلى تلك النهاية.
ذكرت التقارير الصحفية أن ثمة 43 جنرالا محبوسين على ذمة قضية المؤامرة، إضافة إلى 165 ضابطا وجنديا. وحبس الجنرالات وتحقيق النيابة العمومية معهم أمر ليس مألوفا فى تركيا، لأن خصوصية وضعهم والهالة التى أحاطت بهم جعلت من الإقدام على خطوة من ذلك القبيل مغامرة تحرص أى حكومة على تجنب الدخول فيها. لذلك فالاتفاق منعقد على أن التوتر فى علاقة الجيش بالحكومة ازداد خلال السنوات الأخيرة، وان كان له وجود منذ تولى حزب العدالة والتنمية للسلطة فى عام 2002. وبدأ فى تقليص نفوذ العسكر الذين كانوا يباشرون وصايتهم على الحكومة من خلال مجلس الأمن القومى بأغلبية العسكريين من أعضائه. ولكن رئيس الوزراء رجب أردوغان استصدر قرارا جعل الأغلبية فيه للمدنيين. الشاهد أن غضب العسكر ظل كامنا وحذرا،، حتى بعد احتجاز الجنرالات وتولى السلطات المدنية استجوابهم. ولكن العلاقة انفجرت مؤخرا حين حل موعد ترقيات ضباط الجيش، وطلبت رئاسة الأركان ترقية بعض الجنرالات المحتجزين بحجة أنه لم تصدر ضدهم أحكام بالإدانة، وهو ما رفضه رئيس الوزراء الذى وجد أن ترقية ضباط متهمين بتدبير انقلاب والاطاحة بالسلطة، أمر غير مستساغ خصوصا أن التهمة جسيمة. ومنظمة «أرجنكون» التى اتهم الجنرالات بالتواطؤ معها أو الضلوع فيها تمثل اخطبوطا خطرا ظل يعبث بالساحة السياسية التركية طوال العقود التى خلت، دون أن تتمكن الحكومات المتعاقبة من وقف أنشطتها أو إجهاض عملياتها.
بعد يومين من إعلان الاستقالة الجماعية (فى 31/7) نشرت صحيفة «حريت» التركية القصة العجيبة التالية: فى عام 2000 اشترت رئاسة الأركان عددا من المواقع الإخبارية الإلكترونية، التى استخدمتها فى وقت لاحق فى نشر الأخبار الكاذبة وشن حملات التضليل التى استهدفت الإساءة إلى سمعة حكومة حزب العدالة والتنمية التى تشكلت فى سنة 2002. واستنادا إلى تلك الأخبار بادر المدعى العام فى المحكمة الدستورية عام 2007 إلى رفع دعوى لحظر الحزب الحاكم بحجة عدائه للعلمانية. واعتبرت المحكمة أن ما بثته المواقع أدلة لا يرقى إليها الشك. فأدانت حزب العدالة فى تهمة معاداة العلمانية، لكنها لم تحظر الحزب. وبعد عامين أميط اللثام عن الفضيحة وانكشف أمر تلك المواقع وعلاقتها بقيادة الأركان. لكن العسكر سارعوا إلى احتواء الموضوع والتستر عليه.
محاولة الانقلاب التى حملت اسم «المطرقة» كان مقدرا لها أن تتم فى عام 2003، أى بعد عام واحد من تولى حزب العدالة والتنمية كانت الأسوأ والأخطر. إذ أثبتت التحقيقات أنها كانت تستهدف إشاعة الفوضى على نحو مفاجئ، بما يؤدى إلى استدعاء الجيش للتدخل بسرعة ومن بين ما كان مدبرا فى هذا الصدد. تفجير بعض المساجد التاريخية فى اسطنبول. وإشعال حرب مع اليونان، واستنفار قوى التطرف العلمانى للخروج فى مظاهرات تدعو إلى إنقاذ البلاد من الانهيار. وهى المخططات التى لم ينكرها الضباط المحتجزون، وان كانوا قد برروها باعتبارها مجرد ترتيبات ومناورة عسكرية لمواجهة الطوارئ، ولم تكن تستهدف القيام بانقلاب فى البلاد.
(3)
من المقولات الشائعة فى أوساط الطبقة السياسية أنه إذا كانت القاعدة أن لكل بلد جيشا فثمة استثناء فى منطقة الشرق الأوسط. ففى تركيا والجزائر هناك جيشان لكل منهما دولة، فالجيش التركى انقذ البلد من الانهيار حين أعلن السلطان وحيد الدين الاستسلام للدول الحليفة فى نهاية الحرب العالمية الأولى
واصبحت البلاد مستباحة للفرنسيين والإنجليز والإيطاليين واليونانيين، ولكن الجنرال مصطفى على رضا قاد حركة للمقاومة السرية نجحت فى التصدى للقوات الأجنبية، حتى أجبرتها على التراجع، مما أدى إلى انسحابها فى عام 1923، فعلا نجم الرجل وتولى رئاسة البلاد منذ ذلك الحين. وحتى وفاته فى سنة 1938. وخلال تلك الفترة ألغى الخلافة العثمانية وحول قبلة البلد من الشرق إلى الغرب مستلهما فى ذلك مختلف قيم المنظومة الغربية وعلى رأسها العلمانية. كما أنه وجه عناية خاصة للجيش الذى دافع عن شرف وكرامة الأمة التركية. ومنذ ذلك الحين تحولت العلمانية إلى عقيدة أقرب إلى الدين، وأصبح الجيش هو القابض على زمام الدنيا.
لأن الدولة العثمانية عرفت نظام «الملل» الذى سمح بتقنين التعددية الدينية واستفادت منه التجربة الغربية فى إفساح المجال للتعددية السياسية، فإن المجتمع التركى لم يستسلم لهيمنة العسكر رغم هالة القداسة التى أحاطت بهم طوال الوقت، وظل يقاوم تلك الهيمنة منذ اجريت أول انتخابات نيابية فى سنة 1950 التى خسر فيها حزب الشعب الذى أسسه الجنرال مصطفى بعدما أصبح أتاتورك (أبو الأتراك) وكان الفوز من نصيب الحزب الديمقراطى.
هذا التطور لم نعرفه فى الجزائر لأسباب يطول شرحها، حيث لايزال الجيش مختطفا السياسة وقابضا على زمام البلد، متكئا فى ذلك على شرعية وإنجاز جبهة التحرير، منذ حصلت الجزائر على الاستقلال فى سنة 1962 وحتى هذه اللحظة.
ما يهمنا فى تتبع مسار التجربة التركية أن النص فى الدستور على أن الجيش هو المؤتمن على سلامة البلاد فى الخارج والداخل، حوله إلى سلطة أعلى من الحكومة تمارس الوصاية على المجتمع، التى مورست باسم حراسة العلمانية والذود عن حياضها. وبهذه الذريعة قام الجيش بثلاثة انقلابات عسكرية فى السنوات 60، 70، 80، كما قام بانقلاب سلمى فى عام 1997، اجبر فيه حكومة البرفيسور نجم الدين أربكان زعيم حزب الرفاه ذى التوجه الإسلامى على الاستقالة.
حين وصل حزب العدالة والتنمية إلى السلطة فى سنة 2002، وفتح ملف منظمة أرجنكون التى كانت بمثابة الحكومة السرية التى تدير البلاد بالتواطؤ مع غلاة العلمانيين وفى المقدمة منهم بعض القيادات العسكرية، انكشف أمر محاولة الانقلاب التى كان مقررا لها أن تتم فى سنة 2003.إزاء تعدد الانقلابات، وحين تكشف دور بعض القادة العسكريين فى عملية «المطرقة» فإن ذلك أدى إلى تشويه سمعة القوات المسلحة، التى أصبح الدور السياسى الذى تمارسه عقبة فى طريق مسيرة الديمقراطية. إذ حين صوتت الأغلبية لصالح حزب العدالة والتنمية ثم تبين أن بعض العسكر خططوا للانقلاب على الحكومة المنتخبة وحل الحزب الفائز، فمعنى ذلك أن القوات المسلحة لم تصبح طرفا فى الصراع السياسى الداخلى فحسب، وإنما صارت تتحدى الاختيار الشعبى وتسعى إلى مصادرته.
أكثر من ذلك فإن انخراط العسكر فى اللعبة السياسية واستغراقهم فى معارك الداخل، جعلهم يقصرون فى بذل الجهد الواجب للتصدى لهجمات المتمردين الأكراد، الذين كثفوا هجومهم خلال الأشهر الأخيرة. وهو ما ذكره تقرير خدمة «نيويورك تايمز» الذى نشرته صحيفة «الشرق الأوسط» فى 1/8 منسوبا إلى أحد المسئولين الأتراك.
هذه الخلفية عززت من مركز رئيس الوزراء أردوغان فى سعيه لاستصدار دستور جديد يعيد هيكلة الجيش ويخضعه للسلطة المدنية، بحيث يتحول إلى قوة من المحترفين المعنيين بالشأن العسكرى. والبعيدين عن القيام بأى دور سياسى. حتى أن الحكومة تعد الآن تشريعا جديدا يمنع القوات المسلحة من إصدار أية بيانات سياسية. ما يثير الانتباه فى هذا السياق أن صحيفة «يديعوت أحرونوت» ذكرت فى 31/8 أن المسئولين الإسرائيليين تابعوا بقلق مسألة استقالة قادة الجيش التركى. ونقلت عن أحد المسئولين قوله إن تلك الخطوة تعنى «سقوط آخر حصن ضد الإسلام فى تركيا»!
(4)
خبرة التجربة التركية ينبغى استيعابها من أكثر من وجه. فإقحام الجيش فى السياسة الداخلية الذى دعت أصوات بعض مثقفينا فى مصر إلى تضمينه فى الدستور ورطة احتاجت تركيا إلى أربعين سنة للخروج منها. والعلمانية التى فرضها أتاتورك ويظن أولئك البعض أنها طوق النجاة وسبيل إلى إقامة المجتمع المدنى المنشود لم تجلب معها الديمقراطية ولم تنقذ المجتمع من هيمنة العسكر، وإنما تحققت آمال الشعب فى ذلك من خلال النضال الديمقراطى بعد مضى نحو 80 عاما من فرض العلمانية على تركيا (أتاتورك مات فى سنة 1938). وبعد استقالة قادة الجيش وتقليم أظافره قرأنا مقالا فى «الشروق» لزميلنا الأستاذ جميل مطر كان عنوانه: «تحقق الحلم وأصبحت تركيا دولة مدنية»، فى إشارة إلى أن الديمقراطية نجحت فيما فشلت فيه العلمانية.
ويسمح لى سياق الاستفادة من التجربة التركية أن أكرر معنى سبقت الإشارة إليه. يهم الجماعات والأحزاب ذات المرجعية الإسلامية، خلاصته أن النجاحات التى حققها حزب العدالة والتنمية فى تركيا لم تتوفر له لأنه كان يعظ الناس، وإنما لأنه كان يخدمهم وأنه لم يتوقف عند العناية بعمارة الآخرة، ولكنه اعتبر عمارة الدنيا سبيلا إلى عمارة الآخرة.إن العبر كثيرة، لكن قليلين هم الذين يستوعبون الدروس ويعتبرون.
المزيد من المقالاتمن يكره ميدان التحرير لن يهتم بإبادة السوريين الحرية فى الإسلام [1] كوميديا إدارة الثورة أم سيد وأخواتها نهاية عصر الفراعنة..! سيادة الرئيس المخلوع " هل يؤلمك ذنبك ؟