(١) يظن بعض الناس أن الكلمة تحمل معنًىً واحدً أو مدلولا واحدا مستقلا عن أى سِياقٍ أُستُخدمت فيه.. وبصرف النظر عن البيئة الثقافية الى تُستخدم فيها.. وهذا مجرد وهْم، أبعد ما يكون عن الحقيقة.. وقد يدلّ على قصور فكري كما سنتبيّن.. وأضرب لهذا بمثال بسيط هو كلمة: "عيْن"؛ فقد يُقصد بها أداة النظر، وقد يُقصد بها عين الماء، وقد تدل على المكانة الإجتماعية لشخصٍ مَـا "فهوعينٌ من الأعيان" .. وقد تُستخدم للتأكيد: " عين الشيء بمعنى نفس الشيء لا سواه".. وفى الاستخدامات المجازية والتعبير عن المشاعر تُذكر "العين" فى دلالات ومعاني مختلفة: العين الصفراء (للحقد واللؤم والغلّ) والعين الحمراء (للتهديد بالعنف واستخدام القوة) .. وفى القرآن: "ولتُصنع على عينى" للتعبير عن الرعاية والعناية الإلهية .. وأصابته "عين" للتعبير عن الحسد .. وهو "عين لإسرائيل" أى جاسوس.. و "ياعينى عليه...!" للتعبير عن الاستحسان أو الإشفاق والتعاطف.. "وياليل ياعين..." رومانسية للتعبير عن الأسى والأرق والهموم التى تنزل مع حلول الليل الحزين...! وهناك استعمالات كثيرة لكلمة "عين" تؤكد أن الكلمة فى حد ذاتها لا تحمل مدلولا واحدا ثابتا إذا ذُكرت مجرّدةً، بعيدًا عن سياقها.. فهى مجرد رمز لا يمكن فهم المقصود منه إلا فى سياقه.. فالسياق هو الذى يحدد معنى الكلمة .. ويكشف عن مدلولها...
(٢) مثال آخرمن القرآن الكريم لكلمة "سلطان" فقد وردت فى سبعة وثلاثين موقعا بمعانى مختلفة باختلاف السياق الذى وردت فيه: فى ستة وعشرين موقعًا جاءت بمعنى "الدليل والحجة" من قبيل [الذين يجادلون فى آياتِ اللهِ بغير سلطانٍ أتاهم] و [لولا يأتون عليهم بسلطانٍ بيّن...] ووردت بمعنى القدرة أوالقوة على التأثير.. كما فى الإشارة إلى نفوذ الشيطان على البشر فى آية [ إن عبادى ليس لك عليهم سلطان إلا من اتّبعك من الغاوين] ويتأكّد المعنى فى اعتراف الشيطان نفسه فى آية [وما كان لى عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لى...] واستُخْدم اللفظ بمعنى الحق القانوني أو الشرعي فى الآية [ومن قُتل مظلوما فقد جعلنا لوليّه سلطانًا فلا يسرف فى القتل إنه كان منصورًا].. ولم ترد بمعنى السلطة أو الحكم إلا فى آية واحدة رقم٢٩ من سورة الحاقة: [ ما أغْنى عنّى مالِيَهْ، هلَكَ عنّى سُلْطانِيَهْ] ربما نطق بها حاكمٌ يواجه مصيره فى جهنم، و كان قد ظلم وأفسد بماله وسلطانه فى الدنيا فاستحق العذاب فى الآخرة.. ويوجد استخدام واحد ورد فى الآية رقم٣٣ من سورة الرحمن: [يامعْشر الجِنِّ والإنْسِ إن استطعتم أن تنفذوا من أقطارِ السماواتِ والأرض فانْفذوا، لا تنفُذون إلا بسلطان] يرى بعض المفسرين المعاصرين أن المقصود "بالسلطان" فى هذه الآية هو العلم والتكنولوجيا .. والله أعلم...
(٣) لا تعجب إذنْ إذا قلت لك: إنّ استخدام كلمة واحدة فى سياقين مختلفين قد بكون الفرق بينهما كالفرق بين الإيمان و الكفر .. كلام يبدو صادِمًا ولكنه الحقيقة التى قد لا تلفت النظر.. ومثال هذا كلمة "خَاتًمْ" فى آية: [ما كان محمدٌ أبا أحدٍ من رِجالِكمْ ولكن رسولَ اللهِ وخَـاتَمَ النّبيِّين...] بمعنى "آخِرهم" فهو النبيّ الذى لا نبيّ بعده، ورسالته هى الرسالة الأخيرة "الخاتمة".. ولكن يأتى أناس ينتسبون زورًا للإسلام، ختم الله على قلوبهم وعقولم فادّعوا أن كلمة "خاتم" فى هذه الآية لا تعنى الختام والنهاية، ولكن تعنى "الخاتم الذى يلبسه الناس فى أصابعهم للزينة".. ثم انظر ماذا ترتب على هذا التحريف: ظهر نبيّ مزيّف ودين مزيّف أصبح له أتباع فى كل مكان.. الكلمة واحدة ولكن استخدامها فى سياقها الصحيح يؤدى إلى الإيمان.. وفى سياق آخر مُفْتعل يؤدى إلى الكفر والعياذ بالله.
لعل الفكرة قد أصبحت الآن واضحة تماما وهى أن كلمات اللغة لا تحمل معانيها ودلالاتها -قدرا مقدورا- كما يتوهّم أكثر الناس.. إذ يعتقدون أنه يكفى أن تنطق بالكلمة لتدل على ما حدّدتَه لها من معنى فى ذهنك .. ولكنها فى الحقيقة تظــلّ (بدون سياق معين) معلّقة فى الفراغ .. فالسياق وحده هو الذى يمنحها المعنى والدلالة.. كلمات اللغة (أي لغة) هى فى حد ذاتها -بالتعبير المنطقي- مجرد فئة فارغة لا دلالة لها .. ولا تكتسب أي معنى محدّدا إلا إذا وُضعت فى سياق لغويٍّ مَا.. هو الذى يحدد معناها ويُكْسِبُها دلالتها المحدّدة.. وهذا بعض ما تعلّمناه من علم الدلالات اللغوية.. علم له جذوره العربية الأصيلة .. وقد تطوّر فى الغرب.. ويدرّس الآن تحت إسم Semiotics .. وأصبحت له تطبيقات فى شتى فروع المعرفة الإنسانية..
(٤) أحد الذين يدافعون عن الإسلام بحماسة جاهلة يتحدّى أن نذكر له "مثالا واحداً يبين أن الإسلام قد قال بالحرية الشخصية أو حرية التملك أو حرية العقيدة أو حرية الرأى!! " وهذا يعنى –ببساطة- أن الإسلام فى نظره دين ضد الحرية.. ويمكن أن تستنتج تبعا لهذا أنه مصمم هكذا لكي يكون أداة استبداد شرعية فى قبضة أي طاغية أو دكتاتور.. والقائل بذلك إنما يضع نفسه بجدارة فى صف أعداء الإسلام...
و من كلام صاحبنا تفهم أن مصدر هذه الحريات ليس الإسلام "البرئ" ولكن "الديمقراطية" الشريرة .. ولذلك يزعم أن "عدم وجود هذه الحريات فى الإسلام لايسىء إلى الإسلام بأى شكل من الأشكال".. والحقيقة أن مثل هذا الكلام يعتبر من عجائب آخر الزمان وغرائبه...! لأنه لا يستند إلى دليل شرعي ولا منطقي ولا فهم صحيح لإسلام.. ولا شك أن النقاش مع صاحب هذه العقلية مستحيل.. بل هو ضرب من الجدل العقيم .. وإهدار للوقت فى العبث.. لأنك لا تدرى إن كان جاهلا بالاسلام فتبيّن له خطأه.. أم هو عدوّ للإسلام فتصرف النظر عنه...!
ولجهل بعض المسلمين بالإسلام أسباب عِدّة، اعتاد الكُتّااب أن يخوضوا فيها.. ولكن فى الموضوع جانب لم يتطرق إليه أحد إلا فى إشارات عابرة.. ونحاول هنا أن نكشف عن بعض أعماقه، و نتبيّن أبعاده: فهناك صنف من الناس لديهم حساسية مَرَضِيَّة من كلمة "الحرية" فهى موصومة فى عقولهم ومخيّلاتهم بكل خلق سيئ .. وانحراف مشين.. ولذلك تراهم حريصين على نفيها واستبعادها من الإسلام كشيء ملوث .. ومصدر تلوّثها أنها من مستحدثات الديمقراطية .. والديمقراطية كلمة أخرى خبيثة من منتجات الغرب الخبيث...!
(٥) لقد تحدّثنا عن العلاقة بين كلمات اللغة وبين معانيها ودلالاتها.. وتطبيقا لهذا على كلام صاحبنا وأمثاله، سنجد أننا أمام شخصيات قد حمّلت كلمة الحرية دلالات ومعاني خاصة، ثم وضعوها فى صندوق أسود، وحبسوها فى ركن مظلم من أركان الدماغ.. وأصبح من المستحيل على الواحد منهم أن يقبل مناقشتها أوتعديلها مهما سُقت إليه من أدلة على خطئها..
وبنفس المعنى هو لا يستطيع أن يتصوّر مطلقا أنه بتجريد الإسلام من الحرية لا يسيئ إلى الإسلام فقط ولكنه يهدم أهم الأسس التى قام عليها الإسلام .. ومثل هذا الشخص من الناس لا يهمه أن يتحدى الآيات الواضحة الدلالة على حرية الاعتقاد التى تميّز بها الإسلام وسَمَا بها على غيره من المعتقدات.. كما فعل صاحبنا فى آية "لا إكراه فى الدين" وهى واضحة وبسيطة فى تأكيد حرية الاعتقاد.. إلا أنها فى نظره لا تدل على أي حرية.. وما أظنه يفعل غيرذلك فى آيات أخرى مثل: "وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"
من سمات هذا النوع من الشخصيات أن صاحبها يتوحد مع أفكاره بحيث يشعر أن إنتقادها من جانب الآخرين هو هجوم على وجوده وكيانه الشخصي وانتقاص من ذاته.. ومن ثَـمَّ يستميت فى الدفاع عنها بلا حجة ولا دليل ولا منطق.. وهذه حالة مرضية لا يصلح فيها النقاش المنطقى.. لأنها تقع فى نطاق علم آخر هو علم النفس المرضيّ..
(٦) لقد عرفنا أن الخليفة عمر بن الخطاب -وهو فى تاريخ الإسلام ماهو- لم يكن لديه حساسية من الحرية بل اعتبرها خصوصية جوهرية للإسلام.. والقصة تذهب إلى أن شابا قبطيا من مصر شكى للخليفة اعتداء ابن (عمرو بن العاص) عليه بالضرب لمجرد أنه داس على ثوبه.. فاستدعى بن الخطاب المعتدى مع أبيه (حاكم مصر).. لمحاكمتهما.. وأطلق عبارته الشهيرة قال: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا.." وطلب من الشاب المسيحي أن يقتص لنفسه ويضرب المذنب كما ضربه.. لقد كان درسا للمسلمين وللعالم، يؤكد إن الحرية والعدالة والمساواة قيم لا تنفكُّ إحداها عن الأخرى.. وهى -فى الدولة الإسلامية- ليست حكرا على المسلمين وحدهم بل شاملة لكل مواطن فى الدولة بصرف النظر عن دينه أو جنسه أو لونه، أو طبقته الآجتماعية..
أعرف أن قِلّةً من المسلمين يعيشون منغلقين على أنفسهم وأفكارهم المحنّطة.. لديهم حساسية مرضية ضد الحرية.. صنعوا بأفكارهم ومواقفهم عائقا من عوائق النهوض والتقدّم.. وقد لا حظ هذه الظاهرة علماء التجديد و النهضة الإسلامية فتصدوا لها.. وصنفوا فى الدفاع عن الحرية كتبا مشهورة .. ذكرت بعضا من أسمائهم فى مقالى السابق.. ولكنى أعرض لواحد منهم لم يرد ذكره فى ذلك المقال وأعنى به العلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور التونسي المـولد (١٨٧٩-١٩٧٢م).
(٧) أدرك هذا الشيخ الجليل أن الحرية من صميم الفطرة الإنسانية.. ومن ثم فهى شُعْبَةٌ من شُعبِ الإيمان.. إنه يستوعب قوله تعالى: [الذين يتَّبعون الرسول النبي الأميَّ الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويُحِلُّ لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصْرهم والأغلالَ التي كانت عليهم] ، ثم ينطلق من هذه الآية للحديث عن "الحريــة" باعتبارها أصل من أصول الإسلام؛ فالأسْر والأغلال هي التكاليف والقيود الاستبدادية التي كبّلت حريات أناسٍ من قبْلنا.. كانت قيودًا فرضها الكهنة بالتضامن مع الحكام والقادة على الشعوب المغلوبة على أمرها ..
مثّلت الفطرة إذن موقفا نظريا أساسيا انطلق منه ابن عاشور لصياغة نظريته في مقاصد الشريعة، مستندا إلى قوله تعالى: "فأقم وجهك للدين حنيفا فِطْرَةَ الله التي فطر الناس عليها" و الفطرة (عنده) هى المنظومة التى وهبها الله لكل إنسان.. بمعنى آخر هي منظومة من الإمكانات والطاقات الجسدية والعقلية يقتدر بها المُكَلَّفُ على أداء التكاليف..
(٨) فى حرية الاعتقاد و حرية الفكر والتفكير، يرى ابن عاشور أن الإسلام قد أسَّس حرية العقيدة من خلال إِبْطال العقائد المزيفة القائمة على الأساطير؛ تلك العقائد التي كانت تقوم على القوة والإكراه، بينما يقدّم الإسلام منظومته الاعتقادية في إطار استدلاليّ محكم، يسمح للناس بل يدعوهم إلى الاستنتاج الحر: [قل فانظروا ماذا في السماوات والأرض].. وهنا يلمس ابن عاشور الحس الإسلامي الرفيع ، ويبرز هذا الشكل المتميز للفكر الإسلامي في عرضه للأفكار والتصورات، عن طريق الحوار واستخدام آليات المناظرة والحجاج بدلا من المغالبة والقهر..
ويؤكد الشيخ بن عاشور حقيقة تاريخية هامة وهى أن الدولة الإسلامية في بدايتها ولمدة ثلاثة قرون على الأقل لم تسلك أبدًا مسلك إرغام الناس على تبني اعتقادات فكرية ومذهبية معينة، إلا ماتثبته الحجة والمناظرة ويكون اختيارا حرا لا إكراه فيه.. إلى أن اختلطت المصالح السياسية بالقضايا الفكرية فى مرحلة متأخرة اختلّت فيها معايير الحكمة عند بعض الحكام ..
(٩) وفى حرية العلم والتعليم التى جاء بها الإسلام يجعل ابن عاشور حرية التعبير مستوعبةً لحرية العلم والتعليم، من خلال بث العلم ونشره بحرية.. من باب "ليبلّغ عنى الشاهدُ الغائبَ".. وقد تحدث عن تجربة النبي صلى الله عليه وسلم الذي جعل يوما في الأسبوع لتعليم النساء، كما لاحظ تأسيس المكاتب لتعليم الصبيان في عهد أبي بكر وعمر، رضي الله عنهما..
ولحرية القول مجال آخر وهو إتاحة الفرصة لأهل العلم والمعارف لنشر آرائهم ومذاهبهم وتعليمها للناس بحرية، رغم اختلافهم في وجوه العلم، واحتجاج كل فريق لرأيه ومذهبه؛ فالحق مشاع.. وقد استشهد برفض الإمام مالك دعوة أبي جعفر المنصور لتعميم كتابه "المُوَطّأ" على الناس وإلزامهم به.. كان الإمام مالك واعيا بقيمة الاجتهاد والتعددية الفكرية فردّ بقولته الشهيرة: "إن الناس قد سبقت لهم أقاويل وسمعوا أحاديث وأخذ كل قوم بما سبق إليهم من اختلاف أصحاب رسول الله وغيرهم، وإنَّ ردّهم عن ذلك شديد.. فدع الناس وما هم عليه".. وهكذا تعددت المدارس والمذاهب الفقهية فى الدولة الإسلامية.. واستأنس كل قطربمذهب من المذاهب فلزمه واقتدى أهلُه به..
وأعطى ابن عاشور نموذجا آخر لحرية القول والتعلّم زمن الدولة العبيدية؛ فقد كان سكان البلاد مالكية يخالفون الدولة ذات المذهب الإسماعيلي الشيعي في أصول الدين وفروعه.. وكان علماء الفريقين ينشرون كتبهم ويدرّسون مذاهبهم من غير حرج.. وكذلك الأمر حصل عندما انتقال العبيديون إلى مصر و قاموا بتأسيس الدولة الفاطمية...! وتاريخ المذاهب زاخر بهذا النَّفَسِ الإيجابي (التسامح والقبول) المتبادل بين الملل والنحل والفِرق...! بل نرى الشيخ -بكل ثقة- يضمّن حرية القول لأهل الملل من الداخلين في ذمة الإسلام وسلطانه من يهود وغيرهم ضمن حرية القول فى ظل الدولة الإسلامية ..
(١٠) أما [حرية العمل] عند الطاهر ابن عاشور فتعني كل ما هو خصوصي بالنسبة لأي فرد؛ مثل تناول المباحات وممارساة العمل بحسب الكفاءة والموهبة.. وأن لا يُجبر أحد على أن يعمل لغيره، إلا إذا كان مصلحةً عامة، أو ما فيه ضرورة لتدخّل عاجلٍ لحفظ حياة الغير إذا كان في خطر؛ مثل الدفاع عن الوطن، وإنقاذ الغريق، وإعطاء الزكاة، ونفقة القرابة...
والإسلام يدعّم الحرية الإنسانية بتأكيده على قيمة المساواة وقيمة العدل: فالمساواة في الإنصاف بين الناس في المعاملات هي العدل، وكذلك المساواة في تنفيذ الشريعة؛ أي جريان أحكامها على وتيرة واحدة من دون تمييز بين الناس.. والمساواة في الأهلية أي الصلاحية للأعمال ، وتناول المنافع بحسب الأهلية، أو ما يطلق عليه فى هذا الزمن " تكافؤ الفرص" و "التوزيع العادل للثروة" و "العدالة اإجتماعية".. فالأصل في الأهلية عند ابن عاشور هو المساواة بين الداخلين تحت حكم الإسلام كلهم.. اعتمادا على حديث " لهم مالنا وعليهم ما علينا"؛ فالمساواة في المجتمع الإسلامي لاتقتصر على جنس أو قبيلة أو لغة أو لون أو نسب.. وقد استمد ابن عاشور تصوّره الفريد للمساواة من خطبة الوداع التي جاء فيها: "أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى".
(١١) حذر ابن عاشور من سلطة المال الذى يُستخدم لشراء حرية الناس.. وأعطى تصوّرا فريدا للربا؛ فهو فى نظره وسيلة لاستعباد المضطرين وسلب حريّاتهم.. ومن الوسائل التى ذكرها في حماية هذه الحرية إضافةً إلى تحريم الربا؛ أنه أبطل عقود الإكراه، وأبطل معظم الشروط التي تشترط على العامل في القرْض والإجارةِ والمُغارسةِ والمُساقاةِ والمزارعة..كما اعتبر الرشوة أداة للتأثير على حرية الناس، ولأنها محرمة حرصت الشريعة على إجراء أرزاق الحكام والمسؤولين لسد كفايتهم من بيت مال المسلمين، حتى لا يضطرون للنظر إلى المال الحرام... لقد أثار الشيخ هنا نقطة جديرة بالتوقف عندها والتأمّل فى حكمتها: فهو يؤكد أن الرشوة تشتري حرية الناس في العمل وتسخّرهم لأغراض غير شرعية وغير أخلاقية...
وهكذا ترى أن الحرية فى الإسلام عند الشيخ بن عاشور تمتد على مساحة هائلة من النشاط الإنساني لا يستطيع أن يراها أُناس ينظرون إلى الإسلام من خلال نظارات سوداء.. إما عن جهل جائر وإما عن عداء كافر...! ولمن أراد المزيد فى هذا المجال فلينظر كتاب "مقاصد الشريعة الإسلامية"، للإمام محمد الطاهر بن عاشور.. المنشور سنة ١٤٢٠هـ. ٢٠٠٥م.
myades34@gmail.com المزيد من المقالاتكوميديا إدارة الثورة أم سيد وأخواتها نهاية عصر الفراعنة..! سيادة الرئيس المخلوع " هل يؤلمك ذنبك ؟