لا أعرف إلى أى مدى يحتمل المزاج العام فى مصر ــ خصوصا فى العيد ــ حديثا عن «التقشف»، ولكن الذى أعرفه أننا لابد أن نفتح هذا الملف يوما ما. وحين حدثت فى ذلك أحد كبار المسئولين فى الحكومة كان رده أن الأمر أكثر من ضرورى حقا، ولكنه يتطلب شجاعة لا تتوافر لدى كثيرين هذه الأيام.
كنت قد وقعت على تقرير عن خطة التقشف القاسية التى أقرتها الحكومة الإيطالية أخيرا لإنقاذ البلد من الإفلاس، واستهدفت توفير مبلغ 45.5 بليون يورو خلال عامين. وأثار انتباهى فيها أنها استحدثت ضريبة لا سابقة لها تطبق خلال العامين سميت ضريبة التضامن. وهى تستهدف أصحاب الدخول المرتفعة وحدهم. فتفرض ما نسبته 5 فى المائة على الذين تتجاوز دخولهم 90 ألف يورو سنويا، و10 فى المائة على الذين تتجاوز دخولهم السنوية 150 ألف دولار.
من التدابير الأخرى التى قررتها الخطة خفض نفقات الحكومة، وإلغاء 38 محافظة ودمجها مع محافظات أخرى. وكذلك إلغاء ودمج 1500 بلدية مع غيرها. وإلغاء 50 ألف وظيفة لمسئولين منتخبين على مستوى الدولة المركزية والبلديات المحلية. كما سيقتطع مبلغ 9.5 بليون يورو من موازنة المجالس المحلية. فى الوقت ذاته طلب من الوزارات أن تضغط مصروفاتها، بحيث توفر 8.5 بليون يورو خلال السنتين.
استهوتنى خطة التقشف، ووجدت أن «ضريبة التضامن» التى تفرض لمدة سنتين على أصحاب الدخول المرتفعة فكرة تستحق الدراسة والاقتباس.
وحين عرضت الأمر على المسئول الكبير وجدته يقول إن ثمة أفكارا للتقشف معروضة على الحكومة، لكنها تواجه مشكلات عدة، منها أن مطالبات المجتمع ممثلا فى فئاته المختلفة تضغط بشدة باتجاه تحسين الأوضاع المالية ورفع الأجور، حتى يبدو وكأن الثورة فى مصر حين أسقطت النظام السابق ليس فقط للخلاص من استبداده، وإنما أيضا لزيادة أجور العاملين فى مختلف القطاعات.
أضاف المسئول أن الناس معذورون وأن المظالم الاقتصادية التى عانى منها ألوف العاملين كثيرة وشديدة الوطأة، والحكومة تحتاج إلى وقت لتلبية تلك الاحتياجات. لكن أصحاب الحاجات لا يريدون أن يصبروا إلى جانب أن ثقة الناس فى وعود الحكومة ليست كافية.
حصيلة المناقشة كانت كالتالى: المطالبات بزيادة الأجور لا تتوقف والناس لم يعودوا يطيقون صبرا على الانتظار. والحكومة غير قادرة على الاستجابة لتلك الطلبات فى الأجل القصير. فى الوقت ذاته فإنها مترددة فى التعامل مع ذوى الدخول المرتفعة. فهى تقدم إلى بعضهم دعما لا مبرر له حين توفر لهم الطاقة بأسعار رخيصة، وكأنها تدفع إليهم ضرائب بذلك الدعم، ينسحب ذلك على الصناعات ذات الاستخدام الكثيف والربحية العالية. مثل الصلب والأسمنت والسيراميك. من ناحية ثانية فهى تخشى أن تتهم بالتضييق على الاستثمار الخاص فى حين أنها تسعى جاهدة إلى توفير المناخ المناسب لجذب تلك الاستثمارات.
النتيجة أن ذوى الدخول الضعيفة يعانون، وذوى الدخول العالية يمرحون مطمئنين. والحكومة حائرة بين الاثنين. فهى غير قادرة على حل مشكلة الأولين، ولا هى قادرة على ممارسة أى ضغط على الآخرين. لذلك فإننا لا نكاد نرى خطة شجاعة للتقشف تقنع الفقراء بأن لديهم أملا فى تحسين أوضاعهم، حين تبدأ الحكومة بنفسها فى ذلك وحين تلزم الأغنياء بأداء مسئولياتهم نحو المجتمع من خلال تضحيات بسيطة لأجل محدود. وتلك خلفية إذا صحت فإنها تضعنا بإزاء موقف معقد. فليست لدينا حكومة قوية تملك جرأة إعلان خطة التقشف، وليس لدينا برلمان يمثل المجتمع يتبنى تلك الخطة، وليس لدينا إعلام مسئول يعبئ الرأى العام لصالح قضية التقشف لإنقاذ المستقبل، بدلا من التنافس على فضح الماضى واجترار ذكرياته.
المزيد من المقالاتالخلاف حول «الصينية» لا يفسد للعيد فرحة بانوراما ربيع رمضان العربي صلح مع النفس...في وداع رمضان المقاومة المدنية هى الحل واقعية السباحة فى مياه المجارى