أكمل ما بدأته أمس عن «الواقعية الجديدة» فى مصر، حيث نعيش حالة من السيولة فى المفاهيم والتعريفات تنحو فى اتجاه التسطيح والابتزال لكل شىء باسم الواقعية.
وحقيقة الأمر فإن قضية الواقعية تطرح نفسها دائما مع كل مناسبة، بدءا مع نزول عمل سينمائى جديد، وليس انتهاء بإعلان موقف سياسى مائع ومرتعش ومن ثم يجرى تغليفه بسوليفان الواقعية.
والناس فيما يفهمون الواقعية مذاهب، فالبعض يتصور أنك لا تستطيع أن تستوعب الواقع وتتعامل معه إلا إذا التصقت بهذا الواقع وتمرغت فيه، وعجنت روحك فيه.
وأزعم أن هذه نظرية فيها الكثير من الخفة والانتهازية ودغدغة مشاعر المأزومين بواقع سيئ، فليس مطلوبا منك بالضرورة أن تجرب طعم مياه المجارى حتى تكون صالحا أو جاهزا لإيجاد حل لمشكلة الصرف الصحى.
ولست بمضطر أن تكون عائشا ومتعايشا فى أوكار الرذيلة حتى تكون قادرا على معالجة مشكلة مثل البغاء بدافع الفقر أو الانحراف الأخلاقى.
إن واقعية صلاح أبوسيف وعاطف الطيب السينمائية لم تكن مجرد عملية التصاق بالواقع المعاش، بل كانت اقترابا واعيا ومبدعا من همومه ومشكلاته، ما أتاح لهما قراءة أكثر عمقا له، ورؤية أكثر إنسانية لأزماته.
ويمكنك القياس على ذلك فى السياسة، فالسيد المخلوع الذى غنوا له باعتباره الفلاح الأصيل ابن القرية وابن الموظف الكادح، والخارج من طين الأرض، وبجملة واحدة المنقوع فى طمى مصر، هو نفسه الذى أذل عناق الفلاح المصرى وجعله يتجرع المهانة والفقر، وهو الذى جرف الأرض وقتل الخضرة وفى عهده السعيد تصحرت مصر على كل المستويات، وبيعت المصانع وشرد العمال، وكل ذلك تحت حكم زعيم سوقوه لنا باعتباره ابن الواقع العارف بأسرار الأرض والزرع والبشر، وتبين أن المسافة بينه وبين هموم الأمة المصرية أبعد مما بين المشرق والمغرب.
إن أخطر ما يقتل جوهر فكرة الواقعية أن تترك عرضة للابتذال والإسفاف، فنسمع بذاءات وسخائم على شاشات التليفزيون والسينما بحجة أنه النقل الحرفى والأمين لمفردات الواقع، الأمر الذى أفضى فى نهاية الأمر إلى أن المرشح لحكم مصر أصبح مطالبا بحكم قانون الواقعية الجديدة أن يكون خبيرا بعالم الحيوان والطيور ومعجونا فى روث الماشية.
وأخطر ما ينتجه الاستسلام لهذه النظرية هو ضياع الفرق بين الإبداع والقدرة على الابتكار وبين النقل الجاهل والتصوير الأصم للواقع كما هو، ما يجعل الأديب والمفكر المبدع سواء بسواء مع المصوراتى.
إن أديبة ومبدعة مثل أهداف سويف عاشت معظم سنوات عمرها مغتربة فى بريطانيا، ورغم ذلك قدمت أدبا رفيع المستوى وأكثر مصرية وتعبيرا واستلهاما للواقع المحلى من كثيرين عاشوا عمرهم يتكسبون من إشاعة أنهم أبناء الحارة المصرية ومعجونون فى ترابها، ورغم ذلك يكتبون أدبا على مقاس المتلقى الغربى الذى لا يريد سوى صورة نمطية أسطورية خرافية عن الواقع المصرى والعربى.
وأظن أن حضور أهداف سويف فى ثورة 25 يناير سواء بالكلمة المكتوبة أو بالوجود الفعلى فى ميادين الثورة كان أكثر سطوعا ووضوحا وصدقا من آخرين صدعوا رؤوسنا بحديث أجوف عن جذورهم الضاربة فى أعماق التربة المصرية، بينما هم مثل هالوك الحقول.
المزيد من المقالاتالمقاومة المدنية هى الحل معاني عمليات أم الرشراش "إيلات" اختبار على حدود فلسطين لننقل ميدان التحرير إلى سيناء