مشكلة السوريين مع نظامهم أنهم اقتنعوا بأن السلطة التى تحاول حل المشكلة هى أصل المشكلة. ذلك أن المرء لو تابع القرارات التى أصدرتها السلطة طوال الأشهر الخمسة الماضية سيجد أنها ظلت طول الوقت تحاول امتصاص غضب الناس واسترضاءهم. ففى شهر أبريل الماضى ــ بعد شهر من بدء الاحتجاجات فى درعا وظهور بوادر الاحتجاجات فى عدة محافظات أخرى ــ أصدر الرئيس بشار الأسد قرارا بإلغاء قانون الطوارئ المعمول به منذ سيطر حزب البعث على السلطة عام 1963، وفى ظله وتطبيقا له كانت تتم عمليات الاعتقال التعسفى والاحتجاز وحظر المعارضة. ومن الناحية الشكلية والقانونية فإن إلغاء الطورئ بدا خطوة للأمام، كان يفترض أن تنهى جميع الإجراءات الاستثنائية التى يتعرض لها الناشطون فى سوريا.
بعد أيام قليلة من إنهاء الطوارئ أصدر الرئيس الأسد مرسوما بمنح الجنسية للمواطنين الأكراد فى شرق البلاد، الذين يشكلون عشرة فى المائة من مجموعة السكان الذين يقدر عددهم بنحو 22 مليون نسمة، وكان 150 ألف من الأكراد قد سلجوا باعتبارهم أجانب فى تعداد عام 1963.
فى منتصف شهر مايو أعلنت الحكومة أنها ستجرى حوارا وطنيا فى مختلف أنحاء البلاد فى غضون أيام، لمعالجة القضايا التى فجرت الاحتجاجات. وأجرت لهذا الغرض جولات من المشاورات مع قوى المعارضة فى دمشق.
فى آخر شهر مايو أصدر الرئيس السورى عفوا عاما عن السياسيين المسجونين والمعتلقين. وقالت وسائل الإعلام إن العفو سيسرى على أصحاب كل الاتجاهات السياسية، بما فى ذلك أعضاء جماعة الإخوان المسلمين الذين يطبق القانون عقوبة الإعدام على كل من يثبت بحقه الانتماء إليها.
فى خطوة تالية اتخذت الحكومة مبادرات لاسترضاء الإسلاميين، فرفعت الحظر المفروض على ارتداء النقاب وتحدثت إحدى الصحف الرسمية عن إغلاق كازينو القمار الوحيد الموجود بالبلاد.
بدعوى التفاعل مع معاناة الجماهير أعلنت الحكومة عن تخفيض أسعار الوقود، بحيث خفض سعر الديزل بمقدار الربع للتخفيف عن المواطنين ولاعتبارات اقتصادية واجتماعية وإلى جانب ذلك أعلنت الحكومة أنها بصدد تشكيل لجان لدراسة الإصلاح الاقتصادى وأخرى لإصدار قانون جديد يضمن حرية الإعلام.
فى شهر مارس استقال رئيس الوزراء ناجى عطرى، وعين الرئيس السورى مكانه رئيسا جديدا هو عادل سفر، الذى ينتمى إلى حزب البعث وكان وزيرا للزراعة فى الحكومة السابقة، ولم يقف التغيير عند ذلك الحد، ولكنه شمل أيضا وزير الدفاع وقبله محافظ درعا ومحافظ حمص. ولمحاولة تغيير صورة النظام وإبعاد الأشخاص الذين ساءت سمعتهم، أعلن رجل الأعمال النافذ رامى مخلوف، الذى يمت بصلة قرابة للرئيس. وقال الرجل الذى يعتبره السوريون رمزا للفساد واستغلال النفوذ أنه سيترك الأعمال التجارية وسيتفرغ للعمل الخيرى. حيث أوضح أنه سوف يتنازل عن أرباح أسهمه فى شركة «سيرياتل» للاتصالات للأعمال الخيرية. وسيطرح جزءا من الأسهم للاكتتاب العام.
أخيرا فى أواخر يوليو الماضى أقر مجلس الوزراء مشروع قانون تشكيل الأحزاب السياسية، لكى تنضم سوريا إلى مجموعة الدول الديمقراطية التى تطبق التعددية السياسية. وفى الوقت ذاته أقر مجلس الوزراء مشروع قانون الانتخابات العامة، الذى يستهدف تنظيم عملية الانتخابات التشريعية والمحلية وضمان سلامتها.
حين يطالع المرء على الورق هذه «الإنجازات» فقد يخطر له السؤال التالى: ماذا يريد الناس أكثر من ذلك؟ ــ وقد يتملكه التعجب من أن غضب السوريين مستمر، وإن تظاهراتهم تنتشر من محافظة إلى أخرى ومن مدينة إلى أخرى، إلا أنه سيجد فى سيل الأخبار المنشورة ما يبدد دهشته. ذلك أن كل ما صدر من قرارات ومراسيم لم يلمس الناس أثرا له على الأرض. وإنما كان من قبيل الخدع والمخدرات السياسية. دل على ذلك إصرار السلطة على محاصرة المدن واقتحامها بالدبابات والمدرعات، واستمرارها فى قتل المتظاهرين وتصفية المعارضين. من ثم فإنهم فقدوا ثقتهم فى كل ما يقال ويعلن، وصعدوا من هتافاتهم التى بدأت مطالبة بالإصلاح، ثم تطورت بسرعة إلى مطالبة بإسقاط النظام.
لقد نفد رصيد السلطة لدى الجماهير، منذ اللحظة التى سال فيها الدم السورى على الأرض، وكلما غرقت البلاد فى الدم ازداد إصرار الناس على تحدى النظام. لأن ممارساته أقنعت الجميع بأنه هو المشكلة وأنه لا يؤتمن على أى حل بل إن رحيله هو الحل.
مقالات للكاتب
فضيحة فى المحكمة من يكره ميدان التحرير لن يهتم بإبادة السوريين