أكذوبة أن "الشعب المصري مازال قاصرا ونحن أدرى بمصالحه"، التي قالها في السابق جمال مبارك، ورددها من بعده أحمد نظيف، يبدو أنها ما تزال عالقة في أذهان البعض، ممن يضعون أنفسهم موضع الأوصياء على الشعب... فبالرغم من الملايين التي خرجت إلى الشوارع والميادين في جمعة الـ 29 من يوليو الماضي معلنة رفضها لما يسمى بـ "الضوابط الحاكمة" أو "المباديء فوق دستورية" إلا أن الإصرار يبدو واضحا على إتمامها وتمريرها.
صحيح أن من يقفون خلفها لا يمثلون إلا أنفسهم، وأنهم قلة مقارنة بالملايين التي صوتت للتعديلات الدستورية في الاستفتاء الأخير وكل هذه الجموع الرافضة، إلا أنها قلة متنفذة، لأنها تملك المال والإعلام، وموجودة في الحكومة، بل واستطاعت أن تجذب المجلس العسكري إلى صفها، على ما يبدو، إذ لم تكتف بتحييده بل دفعت جهودها في اتجاه محدد لتسفر في النهاية عن إعلان رسمي من قبل العسكري الحاكم بالعمل على إخراج مثل هذه المباديء.
لست أدري حقيقة ما يُخيف هؤلاء إذا ترك المصريون ليختاروا لأنفسهم ما يشاءون ؟! ومن أعطى هذه القلة الحق في أن تُفوض نفسها من نفسها نيابة عن المصريين؟، ومن أخبرهم أن الشعب يمكن أن يقبل بهذا العبث؟ سواء جاء من نائب لرئيس الوزراء أو حتى من عضو بالمجلس العسكري، فلا الحكومة لها الحق ولا العسكري له السلطة القانونية.
لم يعد يخفى على أحد أن هذه "الضوابط" التي استباحوا لها حق الشعب في الاختيار ليس الهدف منها سوى الالتفاف على إرادة الأمة في أن تختار بحرية كاملة، لأنهم سيفرضون وصايا على المجتمع المصري، بحيث إذا أراد أن يحدد مصيره عليه أن يختار بشرط ألا يخرج اختياره عما سيضعه الأوصياء، كأننا نستعبد من جديد لكن هذه المرة بأيدي مصرية، صحيح أنها ليست مصرية خالصة لكن المحتل اكتفى بتحريك الخيوط من بعيد هذه المرة وتوارى هو خلف الظلام.
لم نسمع أن دولة من دول العالم الديمقراطي، التي طالما تغنوا بها في السابق، عندها ما يسمى بالمباديء فوق دستورية، حتى يقولوا لنا أننا نقتدي بمن سبقنا إلى الحريات، فلماذا يراد لنا نحن أن نكون أقل من غيرنا من أمم الأرض.. صحيح أن العسكر في تركيا كان لهم نوع من الوصايا على الشعب التركي، بوصفهم حماة للعلمانية ـ التي فرضها مصطفى كمال أتاتورك قصرا على الأمة التركية حتى يفصلها عن دينها ـ لكن الله أكرم الأتراك بعد ذل عقود، شبيها بالذل الذي عشناه في ظل النظام البائد، وها هم الآن يتحررون من وصاية العسكر، فهل يعقل أن تكون الشعوب مقدمة على هذه الحالة التاريخية من الخلاص ونحن نطوق أنفسنا بهذه القيود، فقط لأن قلة من بيننا تريد أن تجبرنا قصرا على هواها.
إذا كان "الدستور أبو القوانين" كما يقولون، وهو يحتوي من المباديء ما تتفق عليه إرادة الأمة، فما الضير في أن ينتخب الشعب نوابه بحرية كاملة، ويضع البرلمان المنتخب دستور البلاد، كما هو سائد ومتعارف عليه في دول العالم... هنا يتحجج الأوصياء بأنهم يخشون من فوز تيار بعينه (وهم يقصدون التيار الإسلامي) فيوكل له وحده وضع الدستور.. ولا يدري هؤلاء أنهم بذلك يضعون أنفسهم في حرج شديد، فإما أنهم يعترفون بأن المصريين جميعا تيار واحد، وأنهم لا يمثلون إلا أنفسهم، وهنا الرد المنطقي عليهم: إذا فما شأنكم أنتم إذا كان المصريون كلهم ينتمون لتيار واحد، وأنتم لا تمثلون أحدا، من أعطى الحق لفرد أن يتحدث باسم شعب بل ويضع نفسه موضع الوصي عليه ولا يوجد من أفراد هذا الشعب من يؤيده... من تمثلون؟
وإما أنهم لا يقرون بأن المصريين ينتمون لتيار واحد، بل يتوزعون بين التيارات السياسية والدينية الموجودة، وهنا سيقال لهم إنكم تعبثون بمصير البلاد، وتجرونها إلى معارك جانبية في واحدة من أصعب المراحل التي تمر بها.. وعليهم أيضا أن يقولوا لماذا هذه المعارك إذا كان الوضع سينتهي إلى منتخبين انتخاب حر من كل هذه التيارات؟
هذا العبث لا بد وأن تكون له نهاية، وهي النهاية المشروعة التي أقرها استفتاء شعبي خرج له ما يقرب من 20 مليون مصري، وأن يتوقف العابثون عن عبثهم الذي لن يقبل به أحد، فالشعب في غنى عن هذه المعارك، وهم في غنى عن تضييع أوقاتهم فما لا طائل منه.
المزيد من المقالاترمضان...وإسقاط النظام عصام شرف يكيل بمكيالين؟ فضيحة فى المحكمة من يكره ميدان التحرير لن يهتم بإبادة السوريين