ليس سهلا أن تفقد رفيقا عاشرته طيلة أربعين عاما، فلم تر فيه إلا نبلا فى الخلق واستقامة فى السلوك وسعة فى المعرفة وإخلاصا للمهنة ومحبة للجميع. وفى عالم الصحافة بوجه أخص، فقد كان صعبا ولايزال أن يمضى شخص تلك المدة دون أن يتلوث أو يتلون. وقد كان زميلنا مصطفى نبيل الذى اختطفه الموت منا أمس الأول هو ذلك الشخص النادر الذى أبكى كل من عرفه، وأحدث غيابه فراغا فى قلوب الذين احترموه وبادلوه الحب والتقدير.
كنا قد تواعدنا على أن نلتقى فى المصيف، وأن نتبادل الكتب التى لم نتمكن من قراءتها وسط شواغل العمل الرتيب. وكان قد أعطانى مسودة كتاب أعده للنشر تضمن عرضا سياسيا وتاريخيا للسير الذاتية التى كتبها سبعة عشر مثقفا مصريا. واختار للكتاب عنوانا هو: الحرية والطغيان فى سيرتهم الذاتية.
كنت قد فرغت من قراءة المسودة يوم السبت 16/7 وسجلت ملاحظاتى التى كنت سأناقشه فيها مساء السبت أو يوم الأحد. لم يرد على الهاتف يوم السبت، ولأنه مثلى ممن يستيقظون مبكرا، فقد اتصلت هاتفيا به صبيحة الأحد لكنه لم يرد. وتكرر الاتصال بعد ساعتين فلم أتلق ردا أيضا، لا الهاتف الأرضى أجاب ولا المحمول. رجحت أن شيئا شغله فى القاهرة، وقد فشلت محاولاتى الاتصال حتى بعد ظهر الاثنين، حتى زوجته وصديقة الجميع «منى» لم تجب. حينئذ ساورنى بعض القلق، فكلفت من يتحرى الأمر من محيط العائلة، وأخيرا أبلغت فى التاسعة مساء بأنه تعرض لأزمة قلبية شديدة وأنه نقل إلى العناية المركزة فى حالة خطرة. ولم يطل أجل عدم تصديقى لما سمعت حتى حتى رن الهاتف المحمول فى الحادية عشرة مساء لينعى آخر خبر فى مسيرته.
كان أسبقنا وأقربنا إلى الأستاذ أحمد بهاء الدين الذى اكتشف ذكاءه ونقاءه وموهبته فى وقت مبكر، فأخذه من وكالة أنباء الشرق الأوسط وضمه إلى دار الهلال، التى أصبح فيها أحد الصحفيين الخبراء فى الشئون العربية. كان ذلك فى بداية الستينيات، وهى المرحلة التى لمع فيها اسم مصطفى نبيل وانتخب عضوا فى مجلس نقابة الصحفيين. لكن لجنة النظام بالاتحاد الاشتراكى قررت فصله وحرمانه من عضوية النقابة هو وستة آخرين، لأنهم أيدوا التظاهرات التى خرجت احتجاجا وغضبا على هزيمة 67. وهو القرار الذى لم ينفذ فى حينه لأن الأستاذ هيكل اعترض على فصل صحفيى الأهرام، فحذت بقية المؤسسات الصحفية حذوه.
فى السبعينيات استدعاه الأستاذ بهاء لينضم إلى فريق العاملين فى مجلة العربى الكويتية. وكنت قد سبقته إلى هناك بعدما غضب علىّ الرئيس السادات ومنعنى من الكتابة فى الأهرام ثم فصلنى منه فى وقت لاحق. وفى الكويت تزاملنا فى العمل وتجاورنا فى السكن، وكان لمصطفى نبيل وقتذاك إبداعاته الصحفية وإشراقاته الشخصية والإنسانية. وحين عاد إلى القاهرة عين رئيسا لتحرير مجلة الهلال التى انطلق بها وأعادها إلى زمن مجدها حين كانت منبرا ثقافيا راقيا ورفيع المستوى. وخلال سنوات رئاسته للمجلة أصدر كتاب الهلال الذى قدم للقارئ المصرى والعربى مجموعة من أهم الإصدارات الأدبية والسياسية.
حين أحيل مصطفى نبيل إلى التقاعد بعد بلوغه الخامسة والستين، وأصبح كاتبا حرا ومنتظما فى المصور، صادف ما لم يخطر له على بال، حيث دفع ثمن نظافته ونزاهته وكبريائه، ذلك أنه لم يكن ذيلا لأحد، ولا بصاصا لأى جهة. وحين تولى أمر المجلة أحد البصاصين الذين ربَّتهم الأجهزة الأمنية وتعهدتهم بالرعاية حتى دفعتهم إلى الصدارة، فإن أول قرار أصدره صاحبنا هو أنه لا يستطيع التعاون مع مصطفى نبيل. فأبعده من المجلة لكنه ظل فى إطار الدار ويكتب أحيانا فى مجلة الهلال.
وأخيرا ـ بعد الثورة ـ جرت «غربلة» للعاملين فى الدار فتقرر الاستغناء عن عدد من الناس كان مصطفى نبيل أحدهم، فى حين تم الإبقاء على من هم أدنى منه قامة وأقل قيمة.
الأدهى من ذلك والأَمَر أن مصطفى نبيل فى آخر عمره أقصى إلى الشارع فى حين بقى ربيب الأجهزة الأمنية فى موقع الصدارة يمارس التهليل للثورة بعدما ظل طيلة السنوات التى خلت يهلل لنظام مبارك وابنه. وبقى الأخير شاهدا على أن العملة الرديئة لا تطرد العملة الجيدة فحسب، لكنها تقتلها أيضا.
المزيد من المقالاتالماضوية العلمانية بين الشعب والجيش من أنتم ؟!! أنا الوزير