في وسط ميدان التحرير خلال الأيام الثلاثة الماضية نصبت خيمتان من بعض الشباب الذين قرروا أن يعتصموا في الميدان نيابة عن الشعب المصري ، وحرص أهل الخيمتين على رفع الشعارات التي تعبر عن رؤيتهم السياسية وعن موقفهم من أحداث مصر بعد الثورة ، ونقلت الفضائيات المصرية والأجنبية شعارا كبيرا كتب على إحدى الخيمتين بطباعة على ورق خاص وبالألوان يقول نصه "ممنوع دخول ضباط الشرطة والكلاب" ، استغربت كثيرا من لغة العبارة وقلت في نفسي أنها لا تعبر فقط عن "قلة أدب" وإنما الأهم من ذلك أنها تكشف عن ، وربما تختصر لنا ، طبيعة هؤلاء "الصبية" الذين يتصدرون المشهد حاليا في الشوارع .
لا أحد في مصر يرضى عن أداء المؤسسة الأمنية حتى الآن ، فالاتهامات متنوعة بين التقصير والليونة والتردد من جانب ، واستمرار الاتهام بالقسوة والأساليب غير القانونية من جانب آخر ، لكن "وطنيا" مصريا واحدا لا يمكنه أن يعلن العداء الكامل والمطلق للمؤسسة الأمنية أو أن يتحدث عن ضباطها ورجالها بمقارنتهم "بالكلاب" ، وهو تعبير لا يسيء فقط إلى هؤلاء الرجال الذين يضحي بعضهم بأرواحهم من أجل حماية ممتلكات الناس العامة والخاصة وحفظ الأمن ومتابعة الجريمة وحماية خلايا الوطن الداخلية المتشعبة بالهموم والجرائم والتحرشات ، ولكنه يسيء أيضا إلى ملايين المواطنين هم أسر هؤلاء الضباط والجنود وآبائهم وأمهاتهم وأولادهم وزجاتهم وأصدقائهم وعوائلهم ، كما أنه يسيء إلى الوطن كله في النهاية ، لأن هؤلاء الرجال هم ذراع الوطن لحماية أمنه الداخلي بالأساس ، وأي حكومة مقبلة ، سواء جاءت من اليمين أو اليسار أو الإسلاميين أو الليبراليين ، سوف تعتمد على سواعد وهمم هؤلاء الرجال أنفسهم في حماية الدولة والوطن والجبهة الداخلية ، فما معنى أن يحاول بعض المنتسبين إلى الثورة ، وهي منهم براء ، أن يهينوا هذه المؤسسة الوطنية بشكل مطلق ويستعدوا جميع رجالها ضد الثورة والشعب لمجرد أن يلفتوا أنظار بعض القنوات الفضائية لتصوير "إنجازاتهم" الثورية الكبيرة بشتيمة رجال الشرطة .
كل أبناء الثورة طالبوا بتطهير الشرطة من سوءاتها وانحرافاتها ، وعزل كل القيادات الأمنية الإجرامية التي عاثت في الأرض فسادا وإفسادا أيام نظام المخلوع ، ومحاكمة كل القيادات والضباط الذين أطلقوا النار على صدور المتظاهرين ، وما زلنا نطالب بذلك وندعو بشكل عاجل إلى وقف الضباط المتهمين بالقتل عن العمل لحين انتهاء قضاياهم ، لأن بقاءهم في الخدمة حتى الآن يؤثر على الشهود ويحولهم إلى طاقات ثأر ضد الشعب والثورة ، كما نؤكد على ضرورة الإعلان عن الوضع القانوني لعمل جهاز "الأمن الوطني" الجديد ، وصلاحياته حتى لا يصبح نسخة مطورة أو معدلة من مباحث أمن الدولة .
نطالب بكل ذلك ، ونتضامن جميعا من أجل تطهير البلاد ، وخاصة المؤسسة الأمنية ، ولكن هذا كله شيء ، وسباب تلك المؤسسة الوطنية بالكامل وبمثل هذا الأسلوب الرخيص والمنحط شيء آخر ، فمؤسسة الشرطة مثلها مثل كل مؤسسات الدولة ، أصابها من الفساد ما أصابهم بفعل المناخ العام الذي صنعه النظام السابق والذي يساعد على الفساد ويعلي من شأن المفسدين ويهمش الشرفاء ، ولكنها تحمل أيضا النماذج الطيبة والمشرفة ، وبعضهم ضحى بحياته من أجل حماية الوطن من العديد من الجرائم ، ومنهم من تشهد سيرتهم وسلوكهم وجيرتهم بطهارة يدهم وأخلاقهم العالية ، ومنهم من تراه في المساجد قانتا لله ، بل منهم من يؤم الناس في الصلوات ، ومنهم الذين تمردوا على الفساد والظلم فعوقبوا وهمشوا ، ومنهم من يخدم الوطن في قطاعات خدمية حيوية للغاية ولا صلة لها بأي نشاط سياسي ، فكيف استباح لنفسه "مصري" أن يسبهم بتسويتهم "بالكلاب" .
هذه الخيمة بعباراتها المفعمة بالسوء ، تكشف عن "نزق" هؤلاء الذين يحاولون جر الوطن إلى فوضى عامة ، وتكشف عن أن هذه القطاعات المنتسبة إلى الثورة لا تملك الحد الأدنى من الإحساس بالمسؤولية ولا الوعي الوطني بأبعاده الكاملة ، وليس في رأسهم بناء دولة جديدة أو إصلاح وتطهير ، في رأسهم فقط الفوضى وشهوة الإثارة في الشوارع والزعيق أمام الميكرفونات والفضائيات وشغل "أوقات فراغهم" الطويلة باصطناع بطولات مزيفة ، وهؤلاء ـ إذا تركوا لعشوائياتهم ـ سيكونون السبب الرئيس في تفريغ الثورة من وقودها الحيوي وقوة دفعها وتضامن الرأي العام الشعبي معها ، وما حدث في ميدان التحرير خلال الأيام الثلاثة الماضية وحتى نهار الجمعة خير شاهد على انصراف الناس عن هذا النزق المنسوب إلى الثورة المصرية الرائعة .
almesryoongamal@gmail.comالمزيد من المقالاتوجوه ثلاثة للعلمانية بقلم م محمد إلهامي قناة 25 بقلم: كمال رمزي إجهاض الثورة بالرخام التركى بقلم: عماد الدين حسين الأزهر الشريف والسلف.. بقلم محمد موافى د محمد جمال القاضى يكتب.. سرقة (الدستور) أولا كيف نستعيد العراق إلى أحضان العروبة والإسلام؟ بقلم محمد عمارة انتصار طالبان.. درس لعرب امريكا عبد الباري عطوان