عندما أراد أن يعدل السادات أحد بنود الدستور ليسمح ببقائه مدى الحياة تفتقت عبقرية ترزية دستوره مهونين على الشعب مشقة التغيير، فالمسألة لا تتعلق إلا بتغيير نص المادة من مدة جديدة إلى مدد جديدة، ما يعني أن التغيير لا يجاوز تحويل الـ ( ة ) إلى ( د )، والنتيجة أن السادات الذي وافاه الأجل قبل أن يهنأ بالدال قد خلّف لنا مبارك الذي جثم على صدورنا بسبب حرف واحد لثلاثة عقود تقريباً.
والآن، بعد أن ظن الثوار أنهم قد أنجزوا مهمتهم بعد أن عالجوا محناً كثيرة واعتداءات وجرائم صارخة من النظام السابق، بما فيها تلك التي شاهدها العالم على الهواء مباشرة والتي سُميت بـ"موقعة الجمل" (وإن كنت لا أستحسن هذا المسمى لمدلولاته التاريخية)، والتي قدموا فيها نماذج بطولية وفدائية رائعة، فاجأتهم الأقدار بتجدد تلك الموقعة لكن على نحو ناعم معولب يتدثر باحترام آراء الشعب، وهو يصادرها وينفيها، يستنبت الشقاق الاجتماعي ببساطة في كلمات تبدو هينة لأول وهلة غير أنها لا تختلف كثيراً عما فعل صاحب الـ ( ة )، بطله صاحب "موقعة الجمل" الجديدة الذي فجر فتنة ( الـ ) الذي يريد محوها لتحويل الشريعة الإسلامية في الدستور من "المصدر الرئيسي" إلى "مصدر رئيسي".
ما صرح به هذا المسؤول الرفيع في وزارة تسيير الأعمال، الذي لا ندري حقيقة من فرضه في الوقت مرتين على وزارتين تأسيسيتين تبدوان متعارضتين في التوجه، وتتحدان عند نقطة نائب رئيس الحكومة، ورمانة الميزان الموضوعة باحتراف في هذا المنصب لضبط إيقاعات محددة، عن الدستور الجديد يرفع سقف التخوفات إلى أعلى منسوب لها منذ وضعت الثورة أوزارها، وينعش التوجسات التي حاول البعض إخمادها عند الحديث عن المادة الثانية من الدستور؛ فحذف ( الـ ) من المادة الثانية من الدستور والتي قيل إن ثمة تهويلاً بشأنها لا يستند إلى ركن متين من الواقع وينطوي على مبالغات، لم يعد كذلك؛ فتعبير الرجل عن رأيه الرسمي كمسؤول لا يتحدث بطبيعة الحال كفقيه دستوري ولا خبير حقوقي ولم يطلب إليه، ليس أمراً يمكن أن يلقى هكذا كبالون اختبار في إحدى البرامج ذات الجماهيرية العالية، والتي يشاهدها قطاع عريض من الشعب المصري، ولا بالونات الاختبار يمكن أن يطلق من أحد أكبر ممثلي الساسة المدنيين في نظامنا السياسي الحالي المؤقت، ويشكل خرقاً بالغاً لجدار الثقة بين الشعب وحكومة تسيير الأعمال برمتها.
د. يحيى الجمل نجح بالفعل في إثارة انزعاج الكثيرين إلى حد بعيد حينما لوحت بسيناريو غاية في الغرابة يقضي بأن تلك الملايين التي اندفعت مزهوة بالديمقراطية وحرية الرأي إلى الصناديق، يمكن أن يتم تسفيه رأيها عبر تمرير مدسوس لتعديلات دستورية أخرى في غاية الدقة والحساسية خارج الأطر التي خرجت من أجل وضعها تلك الملايين عندما خرجت إلى الميادين ثائرة ضد مصادرة آرائها عبر آلية إملائية لا تختلف كثيراً عما تصنعه الأنظمة الشمولية في جنح ظلامها وظلمها.
لقد قرأت بالوفد عن وعد بلفور جديد أطلقه الجمل للبابا شنودة يقضي باقتراح الأول على الثاني حذف الألف واللام من المادة الثانية، وسمعت المسؤول الأول عن الإعلام في مصر الآن الذي لم يزل يضبط إيقاعه على نحو لا يمكننا أن نلمس فيه اختلافاً في الشخصيات بين ما قبل وما بعد الثورة، وهو يقول لصاحبة حوار جمال مبارك، لميس الحديدي، " بأنه قد قدم بالفعل اقتراحاً بتعديل تلك المادة للجنة التي سبقت لجنة المستشار البشري، بما يشي بأن الرجل كان مشدوداً إلى هذا التعديل في وقت مبكر جداً، وقبل أن توضع أية قواعد تنظم حياة ديمقراطية سليمة!!
والحقيقة أنني لست وحدي الذي يلحظ بقلق بالغ هذا التأخير المتعمد وغير المبرر للإعلان الدستوري الذي كشف عن أنه سوف يعلن بعد ساعات من إعلان نتيجة الاستفتاء لكنه اليوم يمضي إلى قطع فترة مساوية تماماً لتلك التي استغرقتها لجنة المستشار البشري في تعديل مواد الدستور نفسها؛ فما الذي يستوجب مرور عشرة أيام أخرى لإعداده؟! وما الذي أرجأه كل هذا ولأي مصلحة حصل هذا؟! وأيضاً تأخير السماح بحرية تكوين الأحزاب بمجرد الإخطار والتي أصك اللائيون الإعلاميون، واللائكيون آذاننا بالحديث عن ضرورة إفساح المجال وترك مدة زمنية مناسبة لتكوين الأحزاب ونشاطها قبل الانتخابات البرلمانية ثم هم يضربون الذكر الآن عنها صفحاً وكأن هذا التعطيل "صحياً"، أو حرية إنشاء الصحف دون تلك القيود المطبقة الآن.
كما أنني لا أعتقد أني متفرد في اعتبار "الحوار الوطني" الذي يقوده الجمل أيضاً هو فخ جديد منصوب للديمقراطية الوليدة، حيث بدا من التمهيد له أنه آلية ثالثة بعد فشل الأولى عبر الاستفتاء، والثانية عبر اليقظة المتوقعة حيال تمرير إعلان دستوري يسير في اتجاه لا تقبله الجماهير، والثالثة عبر حشر 160 من ممثلي الأحزاب الكرتونية والقوى الهامشية والحركات والائتلافات الورقية، والفاشلة جماهيرياً، لتنسج لنا "عقداً اجتماعياً" جديداً ليس أبداً من صلاحيات ولا مهام حكومة انتقالية مؤقتة يناط بها في العالم كله تسيير شؤون البلاد لحين، ولإجراء، انتخابات نيابية صحيحة ينبثق عنها أي عقد اجتماعي، أو دستور جديد، أو قوانين رئيسية، أو سياسات عامة، واستراتيجيات كبرى.. هذه الديمقراطية التي يسلكون كل السبل للالتفاف عليها ووأدها من خلال أساليب براجماتية بغيضة.
وهذه الأساليب هي التي تجعلنا نسمع عن عدة محاولات لتغييب إرادة الشعب التي ينبغي أن تأتي عبر صناديق الانتخاب، لا عبر الإجراءات الزئبقية التي تهدف لتكريس أدوار لأطراف لا جذور لها في التربة الواسعة والقاعدة الجماهيرية العريضة لهذا الشعب، بما يؤشر إلى الاعتقاد بأن الحوار الذي أعلنه د.الجمل بالترافق مع ترشيحه من قبل نوادي الروتاري لخوض الانتخابات الرئاسية إثر تكريمه بها لم يكن ليفضي إلى تلبية طموحات طبقات هذا الشعب باستثناء تلك الطبقة المخملية التي يحتضنها الجمل وتحتضنه (كما في الصور "البديعة" التي نشرتها لها صحيفة "اليوم السابع"!!).
[] [] []
آخر الكلام: "الدولة الدينية أسوأ من الدولة البوليسية" [د.يحيى الجمل ـ قناة النيل ـ 20/3/2011]
"في العالم العربي والاسلامي البديل قد يكون أسوأ من الطغيان، حكم الدين". [افتتاحية صحيفة "إسرائيل اليوم" العبرية 23/3/2011]
توارد خواطر ليس إلا..
amirsaid@gawab.com مقالات إخرى
إعادة تأهيل الشعب المصري أول أعراس الحرية