عندى سبعة أسباب للحزن أعانى منها منذ فوجئت ذات صباح بصدور قرار يقضى بإغلاق مكتب الجزيرة مباشر فى القاهرة. السبب الأول يتعلق بورود فكرة المصادرة والقمع على بال صاحب القرار، وهى الفكرة التى ظننا أننا تجاوزناها وانها سقطت من قاموس حياتنا. ولكن ما جرى أعطى انطباعا بأن عقلية القمع لازالت باقية، وأن بصمات صفوت الشريف وأنس الفقى لاتزال حاضرة فى الساحة الإعلامية. حتى خيل إلى اننا إذا دققنا جيدا فى القرار الصادر فسوف نلمح توقيع أنس الفقى عليه، ولكن اسمه محى ووضع مكانه اسم آخر.
السبب الثانى أن قرار المصادرة الذى ذكرنا بالشريف والفقى، جرى تنفيذه باسلوب بوليسى أعاد إلى أذهاننا أساليب حبيب العادلى وزير الداخلية الأسبق. ذلك أنه ما كان يتصور أحد بعد الثورة أن تتم مداهمة مقر أى قناة تليفزيونية بقوة من رجال الأمن بدعوى انتسابهم إلى المصنفات الفنية، وأن يصطحب هؤلاء نحو 40 شخصا من المخبرين وأمناء الشرطة. وان يقتحموا المقر ويصادروا أحد الأجهزة المهمة. دون أن يقدموا للقائمين على المكان أى أوراق رسمية تبين هويتهم أو هدفهم، ويدعون أن أحد الجيران اشتكى من الإزعاج الذى يسببه الجهاز المذكور له، دون أن يحددوا من الشاكى ولا أن يبرزوا صورة الشكوى. ثم يتبين أن مقرا آخر للإذاعة البريطانية الـB.B.C موجود فى البناية ذاتها ولديه نفس الجهاز، لكن الأول يسبب الإزعاج ويستحق المصادرة، فى حين أن الثانى مسكوت عليه ومرحب به. إلى غير ذلك من الملابسات التى خبرناها وشبعنا منها قبل الثورة، ثم اكتشفنا أنها مازالت قائمة لم يتغير منها شىء وأن الكتاب المرجعى الذى استخدمه الأولون لايزال مطبقا بحذافيره من جانب الآخرين، وان «ريمة لم تغير شيئا من عاداتها القديمة».
السبب الثالث للحزن أننا انتبهنا من متابعة القصة أن مصلحة الاستعلامات، وهى الجهة المنوط بها إصدار التراخيص للمراسلين الصحفيين فى ظل الثورة، مازالت فى قبضة فريق مبارك وأنس الفقى الذى كان يتحكم فى المراسلين والصحفيين قبل الثورة. وإن الذين كانوا مشغولين طول الوقت بتسويق النظام السابق من خلال التضليل والتهليل هم أنفسهم الذين يتلاعبون الآن بعملية التراخيص، فيمنحون ويمنعون استنادا إلى نفس المعايير التى كان معمولا بها فى السباق، والتى تقدم الأمن على القانون كما تقدم النظام على الوطن.
السبب الرابع أن القرار شوه صورة الثورة وأصبح بمثابة نقطة سوداء فى سجلها. وأعطى انطباعا يؤيد شكوك البعض فى أن عقلية النظام السابق لازالت حاضرة وأن فلوله لم يختفوا، ولكنهم صاروا يطلون برءوسهم بين الحين والآخر، بما يزيد من نفوذهم وتأثيرهم. بل إن القرار، قرار إغلاق المحطة، أصبح بمثابة تكذيب لما توقعناه أو تمنيناه بالنسبة لحرية الإعلام وحملة مشاعل الديمقراطية المنشودة.
السبب الخامس أن الخطوة التى اتخذت جاءت دالة على غياب الرؤية السياسية والانحياز إلى القهر والتكميم من خلال إجراءات السلطة وحيلها. ففيما فهمت فإن وزارة الإعلام أو مصلحة الاستعلامات لم تخاطبا المسئولين عن القناة بأية ملاحظات أو تحفظات. وإذا صح ما قيل من أن بعض انشطتها كانت بحاجة إلى تراخيص، فإنها لم تنبهها إلى ذلك، علما بأننا فهمنا أن التراخيص التى جرت الإشارة إليها لم تصدر لأن الجهة الرسمية (الاستعلامات) هى التى ظلت تسوف فى إصدارها طوال أربعة أشهر، وبدلا من أن يتم التواصل مع المسئولين عن القناة من خلال التفاهمات الحضارية، فإن الجهة الرسمية، سواء كانت وزارة الإعلام أو مصلحة الاستعلامات، آثرت أن تلجأ إلى المداهمة والمصادرة وإلقاء القبض على مهندس البث المباشر.
السبب السادس أن وزير الإعلام الذى تصدى لتبرير الإجراء المتخذ رجل اشتغل بالصحافة ويفترض أنه يقدر أهمية حرية التعبير، ويعرف كيف ينبغى أن تعامل المكاتب الإعلامية، وعلى دراية بالأساليب المتحضرة الواجب اتباعها فى التعامل مع الإعلاميين.
أما السبب السابع الذى أحزننى فى المشهد فهو أن وزير الإعلام والجهات الرسمية التى حاولت تبرير القرار تعاملوا مع الرأى العام بدرجة مستغربة من الاستهانة، حيث افترضوا فى الناس البلاهة والغباء. حتى أنهم تصوروا أنهم سوف يصدقونهم إذا قالوا إن أحد الجيران اشتكى من إزعاج القناة، أو إذا قالوا إن القرار لا علاقة له بالمحتوى الإعلامى الذى تقدمه. إذ من العيب أن يقال هذا الكلام ويصبح العيب مضاعفا ومشينا إذا تصور القائلون إننا يمكن أن نصدقه. ليس عندى دفاع عن القناة، لكننى أرجو من أولى الأمر أن يحترموا عقولنا وألا يتعاملوا معها بذلك القدر من الازدراء.
مقالات فهمى هويدى
حكايتان مع الأخ العقيد فى الاحتشام والشجاعة المجانية استلام الرسالة التركية واجب الوقت رق مسكوت عليه احذروا ثورة المحرومين