أسباب رفع العقوبة عن العبد لشيخ الإسلام ابن تيميةحققه وعلق عليه
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد المرسلين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
وبعد :
لقد خلق الله تعالى الإنسان ، وهو أعلم بخلقه وطبيعته ، ومن طبيعته الوقوع في المعاصي ، وارتكاب الذنوب ، كما قال صلى الله عليه وسلم " كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ "(1)
و عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ » (2).
ومنْ ثمَّ ، فلا يخلو الإنسان من الوقوع في الذنوب ، ففتح الله تعالى له باب التوبة منها ، فقال تعالى : {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} (25) سورة الشورى
وقال تعالى : {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } (53) سورة الزمر .
وهذه الرسالة التي بين يدينا ، هي من الرسائل النادرة لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، ألا وهي الأسباب الموجبة لرفع العقوبة ، وقد بين أنها عشرة أسباب و ذكر أمثلة عليها ، وهذه الرسالة - على صغر حجمها - من أروع ما كتب في هذا الباب ، وهي غزيرة الفوائد .
وهذه هي اللأسباب العشرة :
" أَحَدُهَا " التَّوْبَةُ …
" السَّبَبُ الثَّانِي " الِاسْتِغْفَارُ :
" السَّبَبُ الثَّالِثُ " : الْحَسَنَاتُ الْمَاحِيَةُ :
( السَّبَبُ الرَّابِعُ الدَّافِعُ لِلْعِقَابِ ) : دُعَاءُ الْمُؤْمِنِينَ لِلْمُؤْمِنِ :…
( السَّبَبُ الْخَامِسُ ) : مَا يُعْمَلُ لِلْمَيِّتِ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ :…
( السَّبَبُ السَّادِسُ ) : شَفَاعَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرُهُ فِي أَهْلِ الذُّنُوبِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ:
( السَّبَبُ السَّابِعُ ) : الْمَصَائِبُ الَّتِي يُكَفِّرُ اللَّهُ بِهَا الْخَطَايَا فِي الدُّنْيَا:…
( السَّبَبُ الثَّامِنُ ) : مَا يَحْصُلُ فِي الْقَبْرِ مِنْ الْفِتْنَةِ وَالضَّغْطَةِ وَالرَّوْعَةِ :…
( السَّبَبُ التَّاسِعُ ) : أَهْوَالُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَكَرْبُهَا وَشَدَائِدُهَا .…
( السَّبَبُ الْعَاشِرُ ) : رَحْمَةُ اللَّهِ وَعَفْوُهُ وَمَغْفِرَتُهُ بِلَا سَبَبٍ مِنْ الْعِبَادِ .…
===============
أما عملي في هذه الرسالة فهو كما يلي :
*وضع نص الرسالة من مجموع الفتاوى مشكلة ، ومن أحدث نسخة
*تصحيح الأخطاء المطبعية وهي قليلة جدا
*تخريج الآيات القرآنية كلها وتشكيلها بالرسم العادي ، وشرح غالب الآيات من كتب التفسير المعتمدة
*تخريج الأحاديث كلها وتشكيلها ، والحكم عليها إذا لم تكن في الصحيحين ، بما يناسبها باختصار ، وهناك مشكلة في كثير من الأحاديث حيث يرويها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من حفظه ، وليس بالنص فتكون بالمعنى وليست باللفظ ، فنقلت النص بحرفيته من مصدره ، وقمت بشرحها من مصادرها الرئيسة .
*ذكر الأدلة من القرآن والسنة لأشياء أشار إليها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، دون أن يذكر دليلها صراحة ، فذكرت هذه الأدلة بالهامش
شرح ما يحتاج لشرح من كلامه ،سواء من كتبه الأخرى أو من كتب غيره
*فهرسة الموضوع بشكل دقيق
*ذكر أهم المصادر في آخر هذه الرسالة
قال تعالى :{وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ} (54) سورة الزمر .
وأرجو من الله تعالى أن ينفع بها محققها ، وناقلها وقارئها والدال عليها في الدارين آمين
وكتبه
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
9 رجب 1428 هـ الموافق ل 23/7/2007 م
**************************
أسباب رفع العقوبة عن العبد لشيخ الإسلام ابن تيمية(3)
قال شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
قَدْ دَلَّتْ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ : عَلَى أَنَّ عُقُوبَةَ الذُّنُوبِ تَزُولُ عَنْ الْعَبْدِ بِنَحْوِ عَشَرَةِ أَسْبَابٍ :
" أَحَدُهَا " التَّوْبَةُ (4)
__________
(1) -المستدرك على الصحيحين للحاكم برقم(7725 ) والترمذي برقم( 2536 ) وهو صحيح لغيره
(2) - صحيح مسلم برقم(7141 )
(3) - مجموع الفتاوى - (ج 7 / ص 487) فما بعدها ومجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 2 / ص 151و152)
(4) - 1 - التّوبة في اللّغة العود والرّجوع ، يقال : تاب إذا رجع عن ذنبه وأقلع عنه.
وإذا أسند فعلها إلى العبد يراد به رجوعه من الزّلّة إلى النّدم ، يقال : تاب إلى اللّه توبة ومتابا : أناب ورجع عن المعصية ، وإذا أسند فعلها إلى اللّه تعالى يستعمل مع صلة ' على يراد به رجوع لطفه ونعمته على العبد والمغفرة له ، يقال : تاب اللّه عليه : غفر له وأنقذه من المعاصي.
قال اللّه تعالى : «ثمَّ تَابَ عَلَيهمْ لِيَتُوبُوا إنَّ اللَّهَ هو التَّوَّابُ الرَّحيمُ» .
وفي الاصطلاح التّوبة هي : النّدم والإقلاع عن المعصية من حيث هي معصية لا ، لأنّ فيها ضررا لبدنه وماله ، والعزم على عدم العود إليها إذا قدر.
وعرّفها بعضهم بأنّها الرّجوع عن الطّريق المعوجّ إلى الطّريق المستقيم.
وعرّفها الغزاليّ بأنّها : العلم بعظمة الذّنوب ، والنّدم والعزم على التّرك في الحال والاستقبال والتّلافي للماضي ، وهذه التّعريفات وإن اختلفت لفظا هي متّحدة معنى.
وقد تطلق التّوبة على النّدم وحده إذ لا يخلو عن علم أوجبه وأثمره وعن عزم يتبعه ، ولهذا قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم « النّدم توبة » والنّدم توجّع القلب وتحزّنه لما فعل وتمنّي كونه لم يفعل.
قال ابن قيّم الجوزيّة : التّوبة في كلام اللّه ورسوله كما تتضمّن الإقلاع عن الذّنب في الحال والنّدم عليه في الماضي والعزم على عدم العود في المستقبل ، تتضمّن أيضا العزم على فعل المأمور والتزامه ، فحقيقة التّوبة : الرّجوع إلى اللّه بالتزام فعل ما يجب وترك ما يكره ، ولهذا علّق سبحانه وتعالى الفلاح المطلق على التّوبة حيث قال :
«وَتُوبُوا إلى اللَّهِ جَمِيعَاً أيُّهَا المُؤمِنونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» .
الألفاظ ذات الصّلة
«أ - الاعتذار»
2 - الاعتذار في اللّغة مصدر اعتذر أصله من العذر ، وأصل العذر إزالة الشّيء عن جهته يقال : اعتذر عن فعله أي أظهر عذره ، واعتذر إليّ أي طلب قبول معذرته ، واعتذر إلى فلان فعذره أي : أزال ما كان في نفسه عليه في الحقيقة أو في الظّاهر.
وفي الاصطلاح : الاعتذار إظهار ندم على ذنب تقرّ بأنّ لك في إتيانه عذراً ، والتّوبة هي النّدم على ذنب تقرّ بأنّه لا عذر لك في إتيانه فكلّ توبة ندم ولا عكس.
وقد يكون المعتذر محقّا فيما فعله ، بخلاف التّائب من الذّنب.
«ب - الاستغفار»
3 - الاستغفار في اللّغة طلب المغفرة ، وأصل الغفر التّغطية والسّتر ، يقال : غفر اللّه ذنوبه أي سترها.
وفي الاصطلاح طلب المغفرة بالدّعاء والتّوبة أو غيرهما من الطّاعة.
قال ابن القيّم : الاستغفار إذا ذكر مفردا يراد به التّوبة مع طلب المغفرة من اللّه ، وهو محو الذّنب وإزالة أثره ووقاية شرّه ، والسّتر لازم لهذا المعنى ، كما في قوله تعالى : «فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إنَّه كَانَ غَفَّارَاً» ، فالاستغفار بهذا المعنى يتضمّن التّوبة.
أمّا عند اقتران إحدى اللّفظتين بالأخرى فالاستغفار طلب وقاية شرّ ما مضى ، والتّوبة الرّجوع وطلب وقاية شرّ ما يخافه في المستقبل من سيّئات أعماله ، كما في قوله تعالى :
«وَأَن اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثمَّ تُوبُوا إليه» .
«أركان وشروط التّوبة»
4 - ذكر أكثر الفقهاء والمفسّرين أنّ للتّوبة أربعة شروط : الإقلاع عن المعصية حالاً ، والنّدم على فعلها في الماضي ، والعزم عزما جازما أن لا يعود إلى مثلها أبدا.
وإن كانت المعصية تتعلّق بحقّ آدميّ ، فيشترط فيها ردّ المظالم إلى أهلها أو تحصيل البراءة منهم.
وصرّحوا كذلك بأنّ النّدم على المعصية يشترط فيه أن يكون للّه ، ولقبحها شرعاً.
وهذا معنى قولهم : النّدامة على المعصية لكونها معصية ' ، لأنّ النّدامة على المعصية لإضرارها ببدنه ، وإخلالها بعرضه أو ماله ، أو نحو ذلك لا تكون توبة ، فلو ندم على شرب الخمر والزّنا للصّداع ، وخفّة العقل ، وزوال المال ، وخدش العرض لا يكون تائبا.
والنّدم لخوف النّار أو طمع الجنّة يعتبر توبة.
واعتبر بعض الفقهاء هذه الشّروط أو أكثرها من أركان التّوبة فقالوا : التّوبة النّدم مع الإقلاع والعزم على عدم العود ، وردّ المظالم ، وقال بعضهم : النّدم ركن من التّوبة ، وهو يستلزم الإقلاع عن الذّنب والعزم على عدم العودة ، وأمّا ردّ المظالم لأهلها فواجب مستقلّ ليس شرطا في صحّة التّوبة.
ويؤيّد هذا الرّأي ما ورد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « النّدم توبة » .
وعلى جميع الاعتبارات لا بدّ من التّنبيه على أنّ الإقلاع عن الذّنب لا يتمّ إلا بردّ الحقوق إلى أهلها ، أو باستحلالهم منها في حالة القدرة ، وهذا كما يلزم في حقوق العباد يلزم كذلك في حقوق اللّه تعالى ، كدفع الزّكوات ، والكفّارات إلى مستحقّيها.
وردّ الحقوق يكون حسب إمكانه ، فإن كان المسروق أو المغصوب موجودا ردّه بعينه ، وإلا يردّ المثل إن كانا مثليّين والقيمة إن كانا قيميّين ، وإن عجز عن ذلك نوى ردّه متى قدر عليه ، وتصدّق به على الفقراء بنيّة الضّمان له إن وجده.
فإن كان عليه فيها حقّ ، فإن كان حقّا لآدميّ كالقصاص اشترط في التّوبة التّمكين من نفسه وبذلها للمستحقّ ، وإن كان حقّا للّه تعالى كحدّ الزّنى وشرب الخمر فتوبته بالنّدم والعزم على عدم العود ، وسيأتي تفصيله في آثار التّوبة.
«إعلان التّوبة»
5 - قال ابن قدامة : التّوبة على ضربين باطنة وحكميّة ، فأمّا الباطنة : فهي ما بينه وبين ربّه تعالى ، فإن كانت المعصية لا توجب حقّا عليه في الحكم كقبلة أجنبيّة أو الخلوة بها ، وشرب مسكر ، أو كذب ، فالتّوبة منه النّدم والعزم على أن لا يعود وقد روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « النّدم توبة » وقيل : التّوبة النّصوح تجمع أربعة أشياء ، النّدم بالقلب ، والاستغفار باللّسان ، وإضمار أن لا يعود ، ومجانبة خلطاء السّوء ، وإن كانت توجب عليه حقّا للّه تعالى أو لآدميّ كمنع الزّكاة والغصب ، فالتّوبة منه بما ذكرنا ، وترك المظلمة حسب إمكانه بأن يؤدّي الزّكاة ويردّ المغصوب أو مثله إن كان مثليّا ، وإلّا قيمته.
وإن عجز عن ذلك نوى ردّه متى قدر عليه ، فإن كان عليه فيها حقّ في البدن ، فإن كان حقّا لآدميّ كالقصاص وحدّ القذف اشترط في التّوبة التّمكين من نفسه وبذلها للمستحقّ ، وإن كان حقّا للّه تعالى كحدّ الزّنى ، وشرب الخمر فتوبته أيضا بالنّدم ، والعزم على ترك العود ولا يشترط الإقرار به ، فإن كان ذلك لم يشتهر عنه فالأولى له ستر نفسه ، والتّوبة فيما بينه وبين اللّه تعالى ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « من أصاب من هذه القاذورات فليستتر بستر اللّه تعالى ، فإنّه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب اللّه » « فإنّ الغامديّة حين أقرّت بالزّنى لم ينكر عليها النّبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك » ، وإن كانت معصية مشهورة فذكر القاضي أنّ الأولى الإقرار به ليقام عليه الحدّ ، لأنّه إذا كان مشهورا فلا فائدة في ترك إقامة الحدّ عليه ، والصّحيح أنّ ترك الإقرار أولى ، « لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم عرّض للمقرّ عنده بالرّجوع عن الإقرار فعرّض لماعز » ، وللمقرّ عنده بالسّرقة بالرّجوع مع اشتهاره عنه بإقراره ، وكره الإقرار حتّى إنّه قيل لمّا قطع السّارق كأنّما أسف وجهه رماداً ، ولم يرد الأمر بالإقرار ولا الحثّ عليه في كتاب ولا سنّة ،ولا يصحّ له قياس.
إنّما ورد الشّرع بالسّتر والاستتار والتّعريض للمقرّ بالرّجوع عن الإقرار.
« وقال لهزال وكان هو الّذي أمر ماعزاً بالإقرار يا هزال لو سترته بثوبك كان خيراً لك » .
وقال أصحاب الشّافعيّ : توبة هذا إقراره ليقام عليه الحدّ وليس بصحيح لما ذكرنا ، ولأنّ التّوبة توجد حقيقتها بدون الإقرار وهي تجبّ ما قبلها ، كما ورد في الأخبار مع ما دلّت عليه الآيات في مغفرة الذّنوب بالاستغفار وترك الإصرار.
وأمّا البدعة فالتّوبة منها بالاعتراف بها ، والرّجوع عنها ، واعتقاد ضدّ ما كان يعتقد منها.
«عدم العودة»
6 - لا يشترط في التّوبة عدم العود إلى الذّنب الّذي تاب منه عند أكثر الفقهاء ، وإنّما تتوقّف التّوبة على الإقلاع عن الذّنب والنّدم عليه والعزم الجازم على ترك معاودته ، فإن عاوده مع عزمه حال التّوبة على أن لا يعاوده صار كمن ابتدأ المعصية ، ولم تبطل توبته المتقدّمة ، ولا يعود إليه إثم الذّنب الّذي ارتفع بالتّوبة ، وصار كأن لم يكن وذلك بنصّ الحديث : « التّائب من الذّنب كمن لا ذنب له » .
وقال بعضهم يعود إليه إثم الذّنب الأوّل ، لأنّ التّوبة من الذّنب بمنزلة الإسلام من الكفر ، والكافر إذا أسلم هدم إسلامه ما قبله من إثم الكفر وتوابعه ، فإذا ارتدّ عاد إليه الإثم الأوّل مع الرّدّة.
والحقّ أنّ عدم معاودة الذّنب واستمرار التّوبة شرط في كمال التّوبة ونفعها الكامل لا في صحّة ما مضى منها.
هذا واشترط الشّافعيّة في ثبوت بعض أحكام التّوبة إصلاح العمل ، فلا تكفي التّوبة حتّى تمضي عليه مدّة تظهر فيها آثار التّوبة ويتبيّن فيها صلاحه على تفصيل يأتي في آثار التّوبة.
«التّوبة من بعض الذّنوب»
7 - تصحّ التّوبة من ذنب مع الإصرار على غيره عند جمهور الفقهاء ، فالتّوبة تتبعّض كالمعصية وتتفاضل في كمّيّتها كما تتفاضل في كيفيّتها ، فكلّ ذنب له توبة تخصّه ، ولا تتوقّف التّوبة من ذنب على التّوبة من بقيّة الذّنوب ، كما لا يتعلّق أحد الذّنبين بالآخر ، وكما يصحّ إيمان الكافر مع إدامته شرب الخمر والزّنى تصحّ التّوبة عن ذنب مع الإصرار على آخر.
ونقل ابن القيّم قولا بعدم قبول التّوبة من ذنب مع الإصرار على غيره ، وهو رواية عن أحمد ثمّ قال : والّذي عندي في هذه المسألة أنّ التّوبة لا تصحّ من ذنب مع الإصرار على غيره من نوعه ، وأمّا التّوبة من ذنب مع مباشرة ذنب آخر لا تعلّق له به ولا هو من نوعه فتصحّ ، كما إذا تاب من الرّبا ، ولم يتب من شرب الخمر مثلا فإنّ توبته من الرّبا صحيحة ، وأمّا إذا تاب من ربا الفضل ولم يتب من ربا النّسيئة أو بالعكس ، أو تاب من تناول الحشيشة وأصرّ على شرب الخمر أو بالعكس فهذا لا تصحّ توبته ، كمن يتوب عن زنى بامرأة وهو مصرّ على الزّنى بغيرها.
«أقسام التّوبة»
8 - صرّح بعض فقهاء الشّافعيّة والحنابلة أنّ التّوبة نوعان :
توبة في الباطن ، وتوبة في الظّاهر.
فأمّا التّوبة في الباطن : فهي ما بينه وبين اللّه عزّ وجلّ ، فينظر في المعصية فإن لم تتعلّق بها مظلمة لآدميّ ، ولا حدّ للّه تعالى ، كالاستمتاع بالأجنبيّة فيما دون الفرج ، فالتّوبة منها أن يقلع عنها ويندم على فعل ما فعل ، ويعزم على أن لا يعود إلى مثلها.
والدّليل على ، ذلك قوله تعالى : «وَالَّذِينَ إذا فَعَلُوا فَاحِشَةً أو ظَلَمُوا أنْفُسَهمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنوبَ إلا اللَّهُ وَلمْ يُصِرُّوا على مَا فَعَلُوا» الآية.
وإن تعلّق بها حقّ آدميّ ، فالتّوبة منها أن يقلع عنها ، ويندم على ما فعل ، ويعزم على أن لا يعود إلى مثلها ، وأن يبرأ من حقّ الآدميّ ، إمّا بأن يؤدّيه أو يسأله حتّى يبرئه منه ، وإن لم يقدر على صاحب الحقّ نوى أنّه إن قدر أوفاه حقّه.
وإن تعلّق بالمعصية حدّ للّه ، كحدّ الزّنى والشّرب ، فإن لم يظهر ذلك ، فالأولى أن يستره على نفسه لقوله عليه الصلاة والسلام : « من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر اللّه » .
وأمّا التّوبة في الظّاهر - وهي الّتي تعود بها العدالة والولاية وقبول الشّهادة ، فإن كانت المعصية فعلا كالزّنى والسّرقة لم يحكم بصحّة التّوبة عند الشّافعيّة حتّى يصلح عمله ، وقدّروها بسنة أو ستّة أشهر ، أو حتّى ظهور علامات الصّلاح على اختلاف أقوالهم خلافا لجمهور الفقهاء فإنّهم لم يشترطوا إصلاح العمل بعد التّوبة ، وإن كانت المعصية قذفا أو شهادة زور فلا بدّ من إكذاب نفسه كما سيأتي.
«التّوبة النّصوح»
9 - أمر اللّه سبحانه وتعالى المؤمنين بالتّوبة النّصوح ليكفّر عنهم سيّئاتهم فقال : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إلى اللَّهِ تَوبَةً نَصُوحَاً عَسَى رَبُّكُمْ أنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ» .
واختلفت عبارات العلماء فيها ، وأشهرها ما روي عن عمر وابن مسعود وأبيّ بن كعب ومعاذ بن جبل رضي الله عنهم ، وروي مرفوعا أنّ التّوبة النّصوح هي الّتي لا عودة بعدها كما لا يعود اللّبن إلى الضّرع.
وقيل : هي النّدم بالقلب ، والاستغفار باللّسان ، والإقلاع عن الذّنب ، والاطمئنان على أنّه لا يعود.
«حكم التّوبة»
10 - التّوبة من المعصية واجبة شرعا على الفور باتّفاق الفقهاء ، لأنّها من أصول الإسلام المهمّة وقواعد الدّين ، وأوّل منازل السّالكين ، قال اللّه تعالى : «وَتُوبُوا إلى اللَّهِ جَمِيعَاً أيُّها المُؤمِنونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» .
«وقت التّوبة»
11 - إذا أخّر المذنب التّوبة إلى آخر حياته ، فإن ظلّ آملا في الحياة غير يائس بحيث لا يعلم قطعا أنّ الموت يدركه لا محالة فتوبته مقبولة عند جمهور الفقهاء ، وإن كان قريباً من الموت لقوله تعالى : «وَهو الَّذي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِه وَيَعْفُو عَن السَّيِّئاتِ» ولقوله عليه الصلاة والسلام : « إنّ اللّه يقبل توبة العبد ما لم يغرغر » .
وإن قطع الأمل من الحياة وكان في حالة اليأس - مشاهدة دلائل الموت - فاختلفوا فيه : قال المالكيّة - وهو قول بعض الحنفيّة : ووجه عند الحنابلة ، ورأي عند الشّافعيّة ، ونسب إلى مذهب الأشاعرة : إنّه لا تقبل توبة اليائس الّذي يشاهد دلائل الموت ، بدليل قوله تعالى : «وَلَيسَتِ التَّوبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حتَّى إذا حَضَرَ أحَدَهم المَوتُ قالَ إنِّي تُبْتُ الآنَ» الآية.
قالوا : إنّ الآية في حقّ المسلمين الّذين يرتكبون الذّنوب ويؤخّرون التّوبة إلى وقت الغرغرة ، بدليل قوله تعالى بعده : «وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ» لأنّه تعالى جمع بين من أخّر التّوبة إلى حضور الموت من الفسقة وبين من يموت وهو كافر ، فلا تقبل توبة اليائس كما لا يقبل إيمانه.
ولقوله صلى الله عليه وسلم : « إنّ اللّه يقبل التّوبة ما لم يغرغر » وهذا يدلّ على أنّه يشترط لصحّة التّوبة صدورها قبل الغرغرة ، وهي حالة اليأس وبلوغ الرّوح الحلقوم.
وعند بعض الحنفيّة - وهو وجه آخر عند الحنابلة - وعزاه بعضهم إلى مذهب الماتريديّة أنّ المؤمن العاصي تقبل توبته ولو في حالة الغرغرة ، بخلاف إيمان اليائس فإنّه لا يقبل ، ووجه الفرق أنّ الكافر غير عارف باللّه تعالى ، ويبدأ إيمانا وعرفانا ، والفاسق عارف وحاله حال البقاء ، والبقاء أسهل من الابتداء ولإطلاق قوله تعالى : «وَهوَ الَّذي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ» .
ولا خلاف بين الفقهاء في عدم قبول توبة الكافر بإسلامه في حالة اليأس بدليل قوله تعالى حكاية عن حال فرعون : «حَتَّى إذَا أَدْرَكَه الغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أنَّه لا إلهَ إلا الَّذي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسْرَائِيلَ وأنَا مِنَ المُسْلِمينَ الآنَ وَقَدْ عَصَيتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِن المُفْسِدينَ» .
«من تقبل توبتهم ومن لا تقبل»
12 - تقدّم أنّ اللّه سبحانه وتعالى يقبل التّوبة من الكافر والمسلم العاصي بفضله وإحسانه كما وعد في كتابه المجيد حيث قال : «وَهوَ الَّذي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِه وَيَعْفُو عَن السَّيِّئاتِ» لكن هناك بعض الحالات اختلف الفقهاء في قبول التّوبة فيها نظرا للأدلّة الشّرعيّة الخاصّة بها ومن هذه الحالات :
«أ - توبة الزّنديق»
13 - الزّنديق هو الّذي لا يتمسّك بشريعة ولا يتديّن بدين.
وجمهور الفقهاء - المالكيّة والحنابلة وهو ظاهر المذهب عند الحنفيّة ورأي عند الشّافعيّة- على أنّه لا تقبل توبة الزّنديق لقوله تعالى : «إلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا» الآية.
والزّنديق لا يظهر منه بالتّوبة خلاف ما كان عليه ، لأنّه كان يظهر الإسلام مسرّاً بالكفر ، ولأنّ التّوبة عند الخوف عين الزّندقة.
لكن المالكيّة صرّحوا بقبول التّوبة من الزّنديق إذا أظهرها قبل الاطّلاع عليه.
وفي رواية عند الحنفيّة وهي رواية عند الشّافعيّة والحنابلة أنّ الزّنديق تجري عليه أحكام المرتدّ فتقبل توبته بشروطها ، لقوله تعالى : «قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهمْ مَا قَدْ سَلَفَ» .
وألحق الشّافعيّة بالزّنادقة الباطنيّة بمختلف فرقهم ، كما ألحق بهم الحنابلة الحلوليّة والإباحيّة وسائر الطّوائف المارقين من الدّين.
«ب - توبة من تكرّرت ردّته»
14 - صرّح الحنابلة - وهو رواية عند الحنفيّة ونسب إلى مالك بأنّه لا تقبل توبة من تكرّرت ردّته ، لقوله تعالى : «إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرَاً لَمْ يَكُن اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهمْ وَلا لِيَهْدِيهمْ سَبِيلاً» .
ولقوله سبحانه : «إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرَاً لَنْ تُقْبَلَ تَوبَتُهمْ» والازدياد يقتضي كفرا جديدا لا بدّ من تقدّم إيمان عليه.
ولما روي أنّ ابن مسعود رضي الله عنه أتي برجل فقال له : إنّه أتي بك مرّة فزعمت أنّك تبت وأراك قد عدت فقتله.
ولأنّ تكرار الرّدّة منه يدلّ على فساد عقيدته وقلّة مبالاته بالدّين فيقتل.
وقال الشّافعيّة وهو المشهور في مذهب الحنفيّة والمالكيّة : إنّه تقبل توبة المرتدّ ولو تكرّرت ردّته ، لإطلاق قوله تعالى : «قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهمْ مَا قَد سَلَفَ» ولقوله عليه الصلاة والسلام : « أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يقولوا لا إله إلّا اللّه ، فإذا قالوا لا إله إلّا اللّه عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلّا بحقّها وحسابهم على اللّه » .
لكنّهم صرّحوا بأنّ المرتدّ المتكرّرة منه الرّدّة إذا تاب ثانيا عزّر بالضّرب أو بالحبس ولا يقتل ، قال ابن عابدين : إذا ارتدّ ثانيا ثمّ تاب ضربه الإمام وخلّى سبيله ، وإن ارتدّ ثالثا ثمّ تاب ضربه ضربا وجيعا وحبسه حتّى تظهر عليه آثار التّوبة ويرى أنّه مخلص ثمّ خلّى سبيله ، فإن عاد فعل به هكذا أبدا ما دام حتّى يرجع إلى الإسلام.
وقد جاء مثل هذا عن المالكيّة والشّافعيّة.
«ج - توبة السّاحر»
15 - السّحر علم يستفاد منه حصول ملكة نفسانيّة يقتدر بها على أفعال غريبة بأسباب خفيّة.
وعرّفه ابن خلدون بأنّه علم بكيفيّة استعدادات تقتدر النّفوس البشريّة بها على التّأثيرات في عالم العناصر بغير معيّن.
واتّفق الفقهاء على أنّ تعليمه وتعلّمه حرام لقوله تعالى : «وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ» فذمّهم على تعليمه ، « ولأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم عدّه من السّبع الموبقات » .
قال ابن قدامة لا نعلم فيه خلافاً بين أهل العلم.
وقد صرّح الحنفيّة بأنّه لا تقبل توبة السّاحر فيجب قتله ولا يستتاب ، وذلك لسعيه بالفساد ولا يلزم من عدم كفره مطلقا عدم قتله ، لأنّ قتله بسبب سعيه بالفساد ، فإذا ثبت ضرره ولو بغير مكفّر يقتل دفعا لشرّه كالخنّاق وقطّاع الطّريق.
وهذا مذهب الحنابلة.
وحدّ السّاحر عند الحنابلة القتل ويكفر بتعلّمه وفعله سواء اعتقد تحريمه أو إباحته.
وفي رواية أخرى عن أحمد ما يدلّ على أنّه لا يكفر.
وقال المالكيّة : إذا حكم بكفره فإن كان مجاهرا به يقتل إلا أن يتوب فتقبل توبته ، وإن كان يخفيه فهو كالزّنديق لا تقبل توبته.
16 - والدّليل على عدم قبول توبة السّاحر حديث جندب بن عبد اللّه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « حدّ السّاحر ضربة بالسّيف » فسمّاه حدّاً والحدّ بعد ثبوت سببه لا يسقط بالتّوبة.
ولما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت : « إنّ السّاحرة سألت أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم - وهم متوافرون - هل لها من توبة ؟ فما أفتاها أحد » ، ولأنّه لا طريق لنا إلى إخلاصه في توبته لأنّه يضمر السّحر ولا يجهر به ، فيكون إظهار الإسلام والتّوبة خوفا من القتل مع بقائه على تلك المفسدة.
وقال الشّافعيّة : إن علّم أو تعلّم السّحر واعتقد تحريمه لم يكفر ، وإن اعتقد إباحته مع العلم بتحريمه كفر ، لأنّه كذّب اللّه تعالى في خبره ويقتل كما يقتل المرتدّ.
فالظّاهر من كلامهم أنّه تقبل توبة السّاحر كما تقبل توبة المرتدّ.
وهذا ما قرّره الحنابلة في الرّواية الثّانية عندهم حيث قالوا : إنّ السّاحر إن تاب قبلت توبته ، لأنّه ليس بأعظم من الشّرك ، والمشرك يستتاب ومعرفة السّحر لا تمنع قبول توبته ، فإنّ اللّه تعالى قبل توبة سحرة فرعون.
وفي الجملة ، فالخلاف في قبول توبة هذه الطّوائف ، إنّما هو في الظّاهر من أحكام الدّنيا من ترك قتلهم وثبوت أحكام الإسلام في حقّهم ، وأمّا قبول اللّه لها في الباطن وغفرانه لمن تاب وأقلع ظاهرا أو باطنا فلا خلاف فيه ، فإنّ اللّه تعالى لم يسدّ باب التّوبة عن أحد من خلقه وقد قال في المنافقين : «إلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهمْ لِلَّهِ فَأولئكَ مَعَ المُؤمنينَ وَسَوفَ يُؤتِي اللَّهُ المُؤمِنينَ أَجْرَاً عَظِيمَاً» .
وتفصيل ما يتّصل بالسّحر ينظر في مصطلح : « سحر » .
«آثار التّوبة»
«أوّلاً : في حقوق العباد»
17 - التّوبة بمعنى النّدم على ما مضى والعزم على عدم العود لمثله لا تكفي لإسقاط حقّ من حقوق العباد.
فمن سرق مال أحد أو غصبه أو أساء إليه بطريقة أخرى لا يتخلّص من المسائلة بمجرّد النّدم والإقلاع عن الذّنب والعزم على عدم العود ، بل لا بدّ من ردّ المظالم ، وهذا الأصل متّفق عليه بين الفقهاء.
قال النّوويّ : إن كانت المعصية قد تعلّق بها حقّ ماليّ كمنع الزّكاة والغصب والجنايات ، في أموال النّاس وجب مع ذلك تبرئة الذّمّة عنه بأن يؤدّي الزّكاة ، ويردّ أموال النّاس إن بقيت ، ويغرم بدلها إن لم تبق ، أو يستحلّ المستحقّ فيبرّئه ، ويجب أن يعلم المستحقّ إن لم يعلم بالحقّ وأن يوصّله إليه إن كان غائبا إن كان غصبه هناك.
فإن مات سلّمه إلى وارثه ، فإن لم يكن له وارث وانقطع خبره رفعه إلى قاض ترضى سيرته وديانته ، فإن تعذّر تصدّق به على الفقراء بنيّة الضّمان له إن وجده.
وإن كان معسرا نوى الضّمان إذا قدر.
فإن مات قبل القدرة فالمرجوّ من فضل اللّه تعالى المغفرة ، وإن كان حقّا للعباد ليس بماليّ كالقصاص وحقّ القذف فيأتي المستحقّ ويمكّنه من الاستيفاء ، فإن شاء اقتصّ وإن شاء عفا.
ومثله ما ذكره فقهاء الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة مع تفصيل في بعض الفروع حسب نوعيّة المعصية وتناسب التّوبة معها كما هو مبيّن في مواضعها.
«ثانياً : في حقوق اللّه تعالى»
18 - حقوق اللّه الماليّة كالزّكوات والكفّارات والنّذور لا تسقط بالتّوبة ، بل يجب مع التّوبة تبرئة الذّمّة بأدائها كما تقدّم.
أمّا حقوق اللّه تعالى غير الماليّة كالحدود مثلا فقد اتّفق الفقهاء على أنّ جريمة قطع الطّريق « الحرابة » تسقط بتوبة القاطع قبل أن يقدر عليه ، لقوله تعالى : «إلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أنْ تَقْدِرُوا عَلَيهمْ فَاعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» .
فدلّت هذه الآية على أنّ قاطع الطّريق إذا تاب قبل أن يظفر به سقط عنه الحدّ ، والمراد بما قبل القدرة في الآية أن لا تمتدّ إليهم يد الإمام بهرب أو استخفاء أو امتناع.
وتوبته بردّ المال إلى صاحبه إذا كان قد أخذ المال لا غير ، مع العزم على أن لا يعود لمثله في المستقبل.
فيسقط عنه القطع أصلا ، ويسقط عنه القتل حدّاً ، وكذلك إن أخذ المال وقتل حتّى لم يكن للإمام أن يقتله حدّا ، ولكن يدفعه إلى أولياء المقتول يقتلونه قصاصا إذا تحقّقت شروطه.
وإن لم يأخذ المال ولم يقتل فتوبته النّدم على ما فعل والعزم على التّرك في المستقبل.
ولا يسقط عن المحارب حدّ الزّنى والشّرب والسّرقة إذا ارتكبها حال الحرابة ثمّ تاب قبل القدرة عليه عند المالكيّة والشّافعيّة في الأظهر ، وهو احتمال عند الحنابلة ، ومفهوم إطلاق الحنفيّة في هذه الحدود.
والمذهب عند الحنابلة وهو خلاف الأظهر عند الشّافعيّة أنّها تسقط عن المحارب إذا تاب قبل القدرة عليه لعموم الآية.
أمّا حدّ القذف وما عليه من حقوق الآدميّين من الأموال والجراح فلا تسقط عن المحارب كغير المحارب إلا أن يعفى له عنها.
19 - أمّا في غير المحاربة فإنّ الحدود المختصّة باللّه تعالى كحدّ الزّنى والسّرقة وشرب الخمر فلا تسقط بالتّوبة عند الحنفيّة ، وهو المشهور عند المالكيّة ، والأظهر عند الشّافعيّة ، ورواية عند الحنابلة ، لقوله تعالى : «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ» وقوله سبحانه : «وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهمَا»
وهذا عامّ في التّائبين وغيرهم ، ولأنّ « النّبيّ صلى الله عليه وسلم رجم ماعزا والغامديّة ، وقطع الّذي أقرّ بالسّرقة ، وقد جاءوا تائبين يطلبون التّطهير بإقامة الحدّ ، وقد سمّى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فعلهم توبة فقال في حقّ المرأة : لقد تابت توبة لو قسّمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم » .
والرّأي الثّاني وهو خلاف الأظهر عند الشّافعيّة وهو رواية عند الحنابلة ورأي لبعض المالكيّة أنّه إن تاب من عليه حدّ من غير المحاربين يسقط عنه الحدّ لقوله تعالى :
«وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإنْ تَابَا وَأصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما» .
وذكر حدّ السّارق ثمّ قال : «فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيهِ» .
على أنّ بعض الفقهاء فرّقوا بين التّوبة من هذه الجرائم قبل الرّفع للإمام وبعده فيقولون بإسقاط التّوبة لها قبل الرّفع لا بعده.
كما فصّل في مصطلحاتها ، وقد تقدّم أنّ عقوبة الرّدّة تسقط بالتّوبة قبل الرّفع وبعده.
« ر : ردّة » .
«ثالثاً : في التّعزيرات»
20 - يسقط التّعزير بالتّوبة عند عامّة الفقهاء إذا لم يكن فيه حقّ من حقوق العباد ، كترك الصّلاة والصّوم مثلاً ، لأنّ المقصود من التّعزير التّأديب والإصلاح ، وقد ثبت بالتّوبة ، بخلاف حقوق العباد كالضّرب والشّتم ، لأنّها مبنيّة على المشاحّة كما مرّ.
وللتّفصيل انظر مصطلح : « تعزير » .
«رابعاً : في قبول الشّهادة»
21 - يشترط في قبول الشّهادة العدالة ، فمن ارتكب كبيرة أو أصرّ على صغيرة سقطت عدالته ولا تقبل شهادته إذا لم يتب ، وهذا باتّفاق الفقهاء.
وإذا تاب عن المعصية وقيل بقبول توبته تقبل شهادته عند جمهور الفقهاء ، سواء أكانت المعصية من الحدود أم من التّعزيرات ، وسواء أكانت بعد استيفاء الحدود أم قبله.
واختلفوا في قبول شهادة المحدود في القذف بعد التّوبة :
فذهب جمهور الفقهاء - المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة - إلى أنّه إذا تاب المحدود في قذف تقبل شهادته ، وتوبته بتكذيب نفسه فيما قذف به ، واستدلّوا بأنّ اللّه سبحانه وتعالى قال : «فَاجْلِدُوهمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهمْ شَهَادَةً أَبَدَاً وَأولئكَ هم الفَاسِقُون إلا الَّذِينَ تَابُوا» ، فاستثنى التّائبين بقوله : «إلا الَّذِينَ تَابُوا» والاستثناء من النّفي إثبات ، فيكون تقديره «إلا الَّذينَ تَابُوا» فاقبلوا شهادتهم وليسوا بفاسقين ، لأنّ الجمل المعطوفة بعضها على بعض بالواو ، والواو للجمع فتجعل الجمل كلّها كالجملة الواحدة ، فيعود الاستثناء إلى جميعها.
ولأنّ القاذف لو تاب قبل إقامة الحدّ عليه تقبل شهادته عند الجميع ، ولا جائز أن تكون إقامة الحدّ عليه هي الموجبة لردّ الشّهادة ، لأنّه فعل الغير وهو مطهّر أيضا.
ولأنّه لو أسلم تقبل شهادته فهذا أولى.
ولما روي عن عمر رضي الله عنه أنّه كان يقول لأبي بكرة حين شهد على المغيرة بن شعبة : تب أقبل شهادتك.
ولم ينكر ذلك عليه منكر ، فكان إجماعا.
وقال سعيد بن المسيّب شهد على المغيرة بن شعبة ثلاثة رجال ، أبو بكرة ، ونافع بن الحارث ، وشبل بن معبد ، ونكل زياد ، فجلد عمر الثّلاثة وقال لهم : توبوا تقبل شهادتكم ، فتاب رجلان وقبل عمر شهادتهما وأبى أبو بكرة فلم تقبل شهادته.
وقال الحنفيّة : لا تقبل شهادة المحدود في قذف وإن تاب ، لقوله تعالى : «وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أبَدَاً وَأولئكَ هُم الفَاسِقُون» ، ووجهه أنّ اللّه تعالى ردّ شهادته على التّأبيد نصّا ، فمن قال هو مؤقّت إلى وجود التّوبة يكون ردّا لما اقتضاه النّصّ فيكون مردودا.
والقياس على الكفر وغيره من الجرائم لا يجوز ، لأنّ القياس المخالف للنّصّ لا يصحّ.
ولأنّ ردّ الشّهادة معطوف على الجملة المتقدّمة إلى «فَاجْلِدُوهمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً» وهي حدّ فكذا هذا ، فصار من تمام الحدّ ، ولهذا أمر الأئمّة به ، والحدّ لا يرتفع بالتّوبة.
وقوله تعالى : «وَأُولَئِكَ هُم الفَاسِقُون» ليس بحدّ ، لأنّ الحدّ يقع بفعل الأئمّة- أي الحكّام - ، والفسق وصف قائم بالذّات ، فيكون منقطعا عن الأوّل ، فينصرف الاستثناء بقوله تعالى : «إلا الَّذِينَ تَابُوا» إلى ما يليه ضرورة ، لا إلى الجميع.
فالمحدود في القذف إذا تاب لا يسمّى فاسقا لكنّه لا تقبل شهادته وذلك من تمام الحدّ.
توثيق
التّعريف
1 - التّوثيق لغة : مصدر وثّق الشّيء إذا أحكمه وثبّته ، وثلاثيّه وثق.
يقال وثق الشّيء وثاقة : قوّى وثبت وصار محكما.
والوثيقة ما يحكم به الأمر ، والوثيقة : الصّكّ بالدّين أو البراءة منه ، والمستند ، وما جرى هذا المجرى والجمع وثائق.
والموثّق من يوثّق العقود.
ولا يخرج استعمال الفقهاء عن هذا المعنى.
الألفاظ ذات الصّلة
«التّزكية والتّعديل»
«التّزكية»
2 - التّزكية : المدح والثّناء ، يقال : زكّى فلان بيّنته أي مدحها ، وتزكية الرّجل نسبته إلى الزّكاء وهو الصّلاح ، وفي الاصطلاح : الإخبار بعدالة الشّاهد.
والتّعديل مثله وهو نسبة الشّاهد إلى العدالة.
فالتّزكية والتّعديل توثيق للأشخاص ليؤخذ بأقوالهم ، وعلى هذا فالتّوثيق أعمّ لأنّه يشمل التّزكية وغيرها من الرّهن والكفالة وغيرهما.
«البيّنة»
3 - البيّنة من بان الشّيء إذا ظهر ، وأبنته : أظهرته ، والبيّنة اسم لكلّ ما يبيّن الحقّ ويظهره ، وسمّى النّبيّ صلى الله عليه وسلم الشّهود بيّنة لوقوع البيان بقولهم وارتفاع الإشكال بشهادتهم وعلى ذلك فالتّوثيق أعمّ من البيّنة لأنّه يتناول البيّنة والرّهن والكفالة.
«التّسجيل»
4 - هو الإثبات في السّجلّ وهو كتاب القاضي ونحوه.
وفي الدّرر : المحضر : ما كتب فيه ما جرى بين الخصمين من إقرار أو إنكار والحكم ببيّنة أو نكول على وجه يرفع الاشتباه ، والصّكّ : ما كتب فيه البيع والرّهن والإقرار وغيرها.
والحجّة والوثيقة يتناولان الثّلاثة.
وقال ابن بطّال : المحاضر : ما يكتب فيها قصّة المتحاكمين عند حضورهما مجلس الحكم وما جرى بينهما وما أظهر كلّ واحد منهما من حجّة من غير تنفيذ ولا حكم مقطوع به ، والسّجلّات : الكتب الّتي تجمع المحاضر وتزيد عليها بتنفيذ الحكم وإمضائه.
وعلى ذلك فالتّسجيل هو إثبات الأحكام الّتي يصدرها القاضي وتختلف مراتبها في القوّة والضّعف.
فهو من أنواع التّوثيق.
«حكمة مشروعيّة التّوثيق»
مجموع الفتاوى - (ج 7 / ص 22)ومجموع الفتاوى - (ج 7 / ص 683) ومجموع الفتاوى - (ج 10 / ص 317) ومجموع الفتاوى - (ج 10 / ص 322) ومجموع الفتاوى - (ج 10 / ص 325) ومجموع الفتاوى - (ج 11 / ص 670) ومجموع الفتاوى - (ج 14 / ص 291)ومجموع الفتاوى - (ج 15 / ص 51) ومجموع الفتاوى - (ج 15 / ص 55) ومجموع الفتاوى - (ج 16 / ص 20) ومجموع الفتاوى - (ج 34 / ص 171) وفتاوى الأزهر - (ج 6 / ص 43) وفتاوى الأزهر - (ج 8 / ص 55) وفتاوى الأزهر - (ج 9 / ص 153) وفتاوى الأزهر - (ج 10 / ص 201) وفتاوى الأزهر - (ج 10 / ص 222) وفتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - (ج 1 / ص 87) وفتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - (ج 7 / ص 311)وفتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - (ج 7 / ص 328) وفتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - (ج 16 / ص 60) وفتاوى السبكي - (ج 4 / ص 441)وفتاوى الرملي - (ج 6 / ص 248) والفتاوى الثلاثية - (ج 1 / ص 39) والمنتقى من فتاوى الفوزان - (ج 21 / ص 1) ولقاءات الباب المفتوح - (ج 5 / ص 25) ولقاءات الباب المفتوح - (ج 14 / ص 19) ولقاءات الباب المفتوح - (ج 43 / ص 11) ولقاءات الباب المفتوح - (ج 64 / ص 23) ولقاءات الباب المفتوح - (ج 124 / ص 4)ولقاءات الباب المفتوح - (ج 124 / ص 6)ولقاءات الباب المفتوح - (ج 153 / ص 3)وفتاوى يسألونك - (ج 1 / ص 178) وفتاوى يسألونك - (ج 2 / ص 179) ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 2 / ص 116) ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 4 / ص 143) ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 4 / ص 220) ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 4 / ص 409) ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 5 / ص 383) ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 5 / ص 393) ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 6 / ص 319) ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 6 / ص 322)ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 6 / ص 327) ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 6 / ص 328) ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 6 / ص 332) ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 6 / ص 407) ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 9 / ص 282) ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 10 / ص 219) ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 11 / ص 226) ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 14 / ص 16) ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 15 / ص 95) ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 15 / ص 103) ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 15 / ص 225) ونور على الدرب - (ج 1 / ص 97) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 260) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 925) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 1212) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 1311) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 1401) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 1430) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 1531) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 1689) والموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 4950) وغيرها
أسباب رفع العقوبة عن العبد لشيخ الإسلام ابن تيمية(3)
وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ قَالَ تَعَالَى : {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }(1)
__________
(1) - ذكر المفسرون فى سبب نزول قوله - تعالى - { قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ } روايات منها : ما رواه محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر عن أبيه عمر بن الخطاب قال : لما اجتمعنا على الهجرة . تواعدت أنا وهشام بن العاص بن وائل السَّهْمى وعيَّاش بن أبى ربيعة بن عتبة ، فقلنا : الموعد أضَاةَ بنى غفار - أى : غدير بنى غفار - وقلنا : من تأخر منا فقد حبس فليمض صاحبه فأصبحت أنا وعياش بن عتبة ، وحبس عنا هشام ، وإذا به قد فُتِن فافتَتنَ ، فكنا نقول بالمدينة : هؤلاء قد عرفوا الله - عز وجل - وآمنوا برسوله صلى الله عليه وسلم ، ثم افتتنوا لبلاء لحقهم لا نرى لهم توبة ، وكانوا هم - أيضاً - يقولون هذا فى أنفسهم . فأنزل الله - عز وجل - فى كتابه : { قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ . . } إلى قوله - تعالى - { أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ } قال عمر : فكتبتها بيدى ، ثم بعثتها إلى هشام . قال هشام : فلما قدمت على خرجت بها إلى ذى طوى فقلت : اللهم فهمنيها ، فعرفت أنها نزلت فينا ، فرجعت فجلست على بعيرى فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم .
والأمر فى قوله - تعالى - : { قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله } موجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وإضافة العباد إلى الله - تعالى - للتشريف والتكريم .
والإِسراف : تجاوز الحد فى كل شئ ، وأشهر ما يكون استعمالا فى الإِنفاق ، كما فى قوله - تعالى - : { يابني ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ واشربوا وَلاَ تسرفوا } والمراد بالإِسراف هنا : الإِسراف فى اقتراف المعاصى والسيئات ، والخطاب للمؤمنين المذنبين . وعدى الفعل " أسرفوا " بعلى ، لتضمنه معنى الجناية ، أى جنوا على أنفسهم .
والقُنُوط : اليأس ، وفعله من بابى ضرب وتعب . يقال : فلان قانط من الحصول على هذا الشئ ، أى يائس من ذلك ولا أمل له فى تحقيق ما يريده .
والمعنى : قل - أيها الرسول الكريم - لعبادى المؤمنين الذين جنوا على أنفسهم باتكابهم للمعاصى ، قل لهم : لا تيأسوا من رحمة الله - تعالى - ومن مغفرته لكم .
وجملة { إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً } تعليلية . أى : لا تيأسوا من رحمة الله - تعالى - لأنه هو الذى تفضل بمحو الذنوب جميعها . لمن يشاء من عباده المؤمنين العصاة .
{ إِنَّهُ } - سبحانه - { هُوَ الغفور الرحيم } أى : هو الواسع المغفرة والرحمة لمن يشاء من عباده المؤمنين ، فهم إن تابوا من ذنوبهم قبل - سبحانه - توبتهم كما وعد تفضلا منه وكرما ، وإن ما توا دون أن يتوبوا ، فهم تحت رحمته ومشيئته ، إن شاء غفر لهم ، وإن شاء عذبهم ، ثم أدخلهم الجنة بفضله وكرمه
أما غير المؤمنين ، فإنهم إن تابوا من كفرهم ودخلوا فى الإِسلام ، غفر - سبحانه - ما كان منهم قبل الإِسلام لأن الإِسلام يَجُبّ ما قبله .
وإن ماتوا على كفرهم فلن يغفر الله - تعالى - لهم ، لقوله : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ } قال الإِمام الشوكانى : واعلم أن هذه الآية أرجى آية فى كتاب الله ، لاشتمالها على أعظم بشارة ، فإنه أولا : أضاف العباد إلى نفسه لقصد تشريفهم ، ومزيد تبشيرهم ، ثم وصفهم بالإسراف لى المعاصى . . ثم عقب على ذلك بالنهى عن القنوط من الرحمة . . ثم جاء بما لا يبقى بعده شك ولا يتخالج القلب عند سماعه ظن فقال : { إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب . . } فالألف واللام قد صيرت الجمع الذى دخلت عليه للجنس الذى يستلزم استغراق أفراده ، فهو فى قوة إن الله يغفر كل ذنب كائنا ما كان ، إلا ما أخرجه النص القرآنى وهو الشرك .
ثم لم يكتف بما أخبر به عباده من مغفرة كل ذنب ، بل أكد ذلك بقوله { جميعا } فيالها من بشارة ترتاح لها النفوس . . وما أحسن تعليل هذا الكلام بقوله : { إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم . . } .
وقال الجمل فى حاشيته ما ملخصه : وفى هذه الآية من أنواع المعانى والبيان أشياء حسنة ، منها إقباله عليهم ، ونداؤهم ، ومنها : إضافتهم إليه إضافة تشريف ، ومنها : الالتفات من التكلم إلى الغيبة ، فى قوله : { مِن رَّحْمَةِ الله } ، ومنها : إضافة الرحمة لأجل أسمائه الحسنى ، ومنه : إعادة الظاهر بلفظه فى قوله : { إِنَّ الله يَغْفِرُ } ومنها : إبراز الجملة من قوله : { إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم } مؤكدة بإن ، والفصل ، وبإعادة الصفتين اللتين تضمنتهما الجملة السابقة .
وقال عبد الله بن مسعود وغيره : هذه أرجى آية فى كتاب الله تعالى . الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 3669)
إنها الرحمة الواسعة التي تسع كل معصية . كائنة ما كانت وإنها الدعوة للأوبة . دعوة العصاة المسرفين الشاردين المبعدين في تيه الضلال . دعوتهم إلى الأمل والرجاء والثقة بعفو الله . إن الله رحيم بعباده . وهو يعلم ضعفهم وعجزهم . ويعلم العوامل المسلطة عليهم من داخل كيانهم ومن خارجه . ويعلم أن الشيطان يقعد لهم كل مرصد . ويأخذ عليهم كل طريق . ويجلب عليهم بخيله ورجله . وأنه جاد كل الجد في عمله الخبيث! ويعلم أن بناء هذا المخلوق الإنساني بناء واه . وأنه مسكين سرعان ما يسقط إذا أفلت من يده الحبل الذي يربطه والعروة التي تشده . وأن ما ركب في كيانه من وظائف ومن ميول ومن شهوات سرعان ما ينحرف عن التوازن فيشط به هنا أو هناك؛ ويوقعه في المعصية وهو ضعيف عن الاحتفاظ بالتوازن السليم . .
يعلم الله سبحانه عن هذا المخلوق كل هذا فيمد له في العون؛ ويوسع له في الرحمة؛ ولا يأخذه بمعصيته حتى يهيء له جميع الوسائل ليصلح خطأه ويقيم خطاه على الصراط . وبعد أن يلج في المعصية ، ويسرف في الذنب ، ويحسب أنه قد طرد وانتهى أمره ، ولم يعد يقبل ولا يستقبل . في هذه اللحظة لحظة اليأس والقنوط ، يسمع نداء الرحمة الندي اللطيف :
{ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله . إن الله يغفر الذنوب جميعاً . إنه هو الغفور الرحيم } . .
وليس بينه وقد أسرف في المعصية ، ولج في الذنب ، وأبق عن الحمى ، وشرد عن الطريق ليس بينه وبين الرحمة الندية الرخية ، وظلالها السمحة المحيية . ليس بينه وبين هذا كله إلا التوبة . التوبة وحدها . الأوبة إلى الباب المفتوح الذي ليس عليه بواب يمنع ، والذي لا يحتاج من يلج فيه