أليس مثيرا للدهشة وللأعصاب أيضا أن تستدعى مصر سفيرها لدى الجزائر بسبب مباراة كرة القدم الشهيرة، ولا تفعلها حين قتلت إسرائيل أربعة من جنودها غير أحد الضباط. لا أقارن بين وقائع الحالتين وإنما أتحدث عن رد الفعل المصرى إزاءهما، فاستدعاء السفير فى الحالة الأولى كان تصرفا اتسم بالرعونة والحمق، ولم يكن له من تفسير آنذاك إلا أنه انفعال غير محسوب. أريد به نفاق مشاعر العوام والمزايدة عليها. ناهيك عن أنه لا مقارنة أيضا بين مشاعرنا إزاء بلد شقيق مثل الجزائر، وآخر خصم وعدو استراتيجى مثل إسرائيل، لاحظ أيضا أن ذلك الانفعال فى مواجهة الجزائر كان بسبب حدث تافه صغير، فى حين أن ما أقدمت عليه إسرائيل هو جريمة بكل المعايير.
ثم إن ذلك كان فى ظل نظام ما قبل 25 يناير، الذى داس على كرامة المصريين وأذلهم. فى حين أن الموقف اللين الذى يدهشنا اتخذ بحق إسرائيل بعد 25 يناير، وهو اليوم الذى كان بداية لمرحلة استرد المصريون فيها وطنهم وكرامتهم. وهو ما يجسد لنا مفارقة أخرى غير قابلة للتصديق.
لئن قيل فى تفسير المقارنة أن مصر تعرضت لضغوط قوية لعدم التعبير عن غضبها إزاء إسرائيل بسبب جريمة القتل الى ارتكبتها، وناشدتها الأطراف التى ضغطت، الولايات المتحدة تحديدا، أن تلتزم بضبط النفس. لكن تلك حجة إذا صحت فإنها علينا وليس لنا. بمعنى أنها طلبت من القاهرة أن تبتلع المهانة وأن تمتنع حتى عن توجيه العتاب للقتلة.
إذ نفهم أن استدعاء السفير للتشاور هو تعبير عن العتب. فى حين أن سحبه تعبير عن الغضب، والأول أضعف الإيمان، وهو الحد الأدنى فى الأعراف الدبلوماسية للتعبير عن الاستياء والدفاع عن المصالح والكرامة الوطنية. كأنما طلب منا أن نلتزم بسلوك العاجزين الذين لا حيلة لهم. ونكتفى بتغيير المنكر بالقلب فقط.
ما يستفز المرء ويجرح مشاعره أن وزير الدفاع الإسرائيلى إيهود باراك حين حاول أن يمتص غضب الشارع المصرى فإنه عبر عن الأسف فقط ولم يعتذر عما حدث. وبالمناسبة ليس صحيحا ما نشرته صحفنا القومية من أنه اعتذر.
لكن الرجل بصلافته واستعلائه اعتبر أن كلمات الأسف التى عبر عنها يمكن أن ترضى المصريين، وكأن ذلك كان تنازلا منه علينا أن نقنع به وأن نحمد الله على أن الرجل منَّ علينا به. لا يغير من شعورنا بالاستفزاز ما نشرته الصحف المصرية عن أن القاهرة اعتبرت أن الرد الإسرائيلى غير كاف. وأن إسرائيل يجب أن تتحمل مسئوليتها عما حدث وأنها مطالبة بتحديد سقف زمنى للتحقيق فى الحادث..إلخ.
ذلك أن هذا الكلام لا يعنى أن مصر الرسمية اتخذت خطوات عملية للتعبير عن غضبها، من قبيل استدعاء السفير على الأقل، وإنما أطلقت كلاما فى الهواء لم يترجم إلى أى خطوات عملية على الأرض.
يخوفوننا بالحرب ويعتبرون أن إجراءات عملية تجسد السخط والغضب «تصعيدا» مؤديا إلى ذلك الاحتمال الاسوأ.
وفضلا عن أن أحدا لم يتحدث عن الحرب ولم يطالب بها فإن هذه المصادرة لمشاعر الغضب تحول معاهدة السلام إلى معاهدة للمهانة والإذلال. ولئن جاز ذلك فى ظل النظام السابق الذى تعامل مع إسرائيل بلغة الانكسار والهزيمة، فإنه لا يجوز فى زمن الثورة على ذلك النظام واستعادة الشعور بالحرية والكرامة.
باسم رفض التصعيد مع إسرائيل فإنهم يدعوننا إلى «تدليلها» والامتناع عن اتخاذ أى خطوة تكدر خاطرها. بحيث نكتفى بمخاطبة أنفسنا ودغدغة مشاعر شعوبنا من خلال الضجة الإعلامية ومظاهرات الشوارع.
يشهرون فى وجوهنا الاتفاقية باعتبارها صكا مقدسا على مصر أن تلتزم به، فى حين إسرائيل معفاة من ذلك الالتزام بمقتضى سياسة التدليل التى أشرت إليها توا.
وقد تلقيت حول هذه النقطة تعليقا من المستشار سمير حافظ عبر فيه عن دهشته من إشارة البعض إلى الاتفاقية وكأنها معاهدة محترمة بين طرفيها. إذ ذكرنا بأن قوات الطوارئ الدولية المشكلة بمعرفة الولايات المتحدة كذبت الادعاء الإسرائيلى بأن قتل المصريين تم من خلال قصف من جانب إحدى طائراتها. إذ أعلنت فى تقرير لها أن قوة إسرائيلية مسلحة اخترقت الحدود المصرية وارتكبت جريمتها، الأمر الذى يعد غزوة اعتدت بمقتضاها إسرائيل على السيادة المصرية.
وهذا الاعتداء يمثل انتهاكا للاتفاقية وخرقا صريحا لنصوصها. وكان أجدر بالذين يدافعون عنها أن يكفوا عن نقد رد الفعل المصرى، وأن يطالبوا إسرائيل بأن تحترم التزاماتها التى وقعت عليها، وإلا أصبح من حق مصر أن تطالب بإعادة النظر فى نصوصها.
إننا نريد فى الوقت الراهن ــ وحتى إشعار آخر ــ أن يدرك الجميع أن زمن تدليل إسرائيل قد انتهى. فما عدنا مستعدين لاحتماله، ناهيك عن أنهم لا يستحقونه أصلا.
المزيد من المقالاتمعاني عمليات أم الرشراش "إيلات" اختبار على حدود فلسطين لننقل ميدان التحرير إلى سيناء