الحشد الكبير الذى اجتمع فى ميدان التحرير أمس أعاد إلى الأذهان فكرة «التوافق» التى كادت تتراجع، منذ برز فى الأفق مشهد التراشق والتنابذ. وذلك تطور مهم للغاية، ينبغى أن يسعى الجميع للحفاظ عليه، ببساطة لأنه يحقق مصلحة أكيدة للجميع. ذلك أن تجارب كثيرة علمتنا أن مصر التى ننشدها أكبر من أى فصيل بذاته، مهما بلغت قوته.
أعنى بذلك مصر الديمقراطية المستقلة التى يديرها أهلها ولا تخضع لوصاية أى أحد فى داخل البلد وخارجه.
لقد شهدنا فى الآونة الأخيرة تنافسا وسباقا على تمثيل مصر وثورتها من جانب أكثر من طرف. تابعنا من ادعوا أنهم استدعوا كل القوى الحية فى المجتمع، وأنهم صاروا ناطقين باسم الثورة والوطن، ثم تبين أن المحاولة ليست سوى تظاهرة سياسية من جانب بعض عناصر النخبة التى جمعت نفرا من الطامحين وآخرين من المتوجين والخائفين الذين قدموا أنفسهم بحسبانهم ليبراليين وعلمانيين وديمقراطيين.
وأمس كنا بصدد تظاهرة أخرى من جانب التيارات الإسلامية والسلفية منها بوجه أخص، حاولت بدورها أن تثبت الحضور وتستعرض القوة. ولو أن الأمر وقف عند ذلك الحد، وظل مقصورا على طرف يتظاهر فى الفضاء الإعلامى والسياسى وآخر يتظاهر فى الشارع، لاحتملناه ومررناه.
ولكن المشكلة تحدث والمحظور يقع إذا تصور أى طرف أنه صاحب الزمان والمكان، وإذا ظن أن قوته تسوغ له أن يفرض إرادته على الجميع. خصوصا الأغلبية التى هى ليست إلى جانب هؤلاء أو هؤلاء. أما المحظور الأكبر فهو أن ينشغل كل طرف بذاته ناسيا أن هناك وطنا يريد أن يستعيد كرامته وأن هناك شعبا يتطلع إلى مستقبل أفضل تسوده الحرية والعدالة التى تحفظ للمواطن كرامته بدوره.
أحسب أن هذا المعنى كان واضحا فى رسالة الذين أرادوها مليونية الإرادة الشعبية والوحدة الوطنية، وهو عنوان عريض تطل منه بادرة التوافق الذى اهتزت صورته فى الساحة المصرية. والتوافق كما أفهمه لا يعنى الاتفاق فى كل شىء. ولكنه يعنى إدارة الاختلاف بوعى ورشد. بما لا يطمس خصوصية أى طرف.
ولا يطالبه بالتنازل عن مبادئه أو شعاراته. وإنما يهتدى بأمرين هما: المصلحة الوطنية العليا، والتفرقة بين نقاط الاتفاق ونقاط الاختلاف، وتقديم الأولى على الثانية فى الوقت الراهن.
بكلام آخر، فإن التوافق يعنى بين ما يعنى إمكانية الالتقاء حول هدف أو أهداف مرحلية، مع بقاء الاختلاف حول الأهداف النهائية. كما أنه يعنى التفرقة بين التناقض الرئيسى والتناقضات الفرعية والثانوية. بحيث يصيح الوقوع فى فخ الأول هو المحظور قطعا، فى حين أن الثانية يمكن احتمالها والتعايش معها.
لكى يتحقق ذلك، فإن الغيورين على الثورة والوطن ينبغى أن يكونوا واعين بمسئوليات وأولويات المرحلة التى تمر بها مصر. وأتصور أن هذه الأولويات تتمثل فى أمور ثلاثة هى: استتباب الأمن وإدارة عجلة الاقتصاد، والإسراع فى تسليم السلطة إلى حكومة مدنية وبرلمان تختاره إرادة الشعب الحرة.
إن الكلام عن علمانية الدولة أو تحكيم الشرعية أو العدول عن تمثيل العمال والفلاحين بنسبة 50٪ أو إلغاء مجلس الشورى، مثل هذه العناوين المهمة لا تمثل أولوية فى الوقت الراهن، فضلا عن أنها تفتح الأبواب للشقاق والخلاف، فى حين أن المطلوب الآن هو أن نفرق بين الأهم والمهم، وأن ننشغل بالأولى كى ننتقل بأمان وثقة إلى الثانية.
كان بوسعنا أن ننجز شيئا من ذلك الذى أزعم أولويته لو أننا احتفظنا بلم الشمل واعتنينا بالتوافق حول ما هو مرحلى وأجلنا ما هو نهائى إلى أوانه، ولكن آفة الاختلاف والحسابات الخاطئة ضيعت علينا ستة أشهر دون أن ننجز شيئا منها.
وإذا أسهمت جمعة لم الشمل فى استفاقة الجميع وتعاهدهم على استمرار التوافق فإن ذلك سيعد إنجازا عظيما، لكنى أزعم أن الأمر ليس بهذه السهولة، لأن فى مصر الآن من يحرص على الارباك والتشتيت خوفا مما يمكن أن يأتى به المستقبل. وهؤلاء لا يكفون عن وضع العصى فى العجلات كى لا تتقدم المسيرة خطوة إلى الأمام، تشهد بذلك عناوين الصحف التى صدرت صباح أمس الجمعة، حيث ركز بعضها على لمِّ الشمل فى حين سعى البعض الآخر إلى غرس الألغام فى ميدان التحرير. لذا وجب التنويه والتحذير.
المزيد من المقالاتالعبث بشخصية الميدان «خط أحمر» جمعة الخلاص..! تلك الرسائل المفخخة الدرس الأول