قرر أربعة شباب فى بلجيكا أن يفضحوا صحف بلادهم ويجعلوها موضوعا للسخرية والتندر. فكرتهم انطلقت من السؤال التالى: هل يمكن أن تنشر الصحف أخبارا غير موثوقة؟ لكى يجيبوا عن السؤال فإنهم قرروا أن يختبروا العملية بأنفسهم. ولأنهم يعملون لمصلحة شركة الإنتاج البلجيكية المعروفة «سمكة الصحراء»، فقد قرروا إنشاء شركة بحوث وهمية سموها «داتا درفن» (المعطيات الدافعة). واختلقوا موظفا وهميا مهمته محصورة فى إرسال أخبار الشركة من بريد إلكترونى باسمه. وبعد أن أعدوا عدتهم وحملوا كاميراتهم ليوثقوا كل خطوة يخطونها، فإنهم أعدوا خبرا مختلقا حول الانتخابات التى كانت تجرى فى بلجيكا. واختاروا لذلك زاوية تضمن له الإثارة والرواج. قال الخبر إن الشركة راقبت 50 مقرا انتخابيا، وخلصت إلى أن الناخبين قضوا هذه المرة فى غرفة الاقتراع ضعفى الوقت الذى يقضونه عادة. وأن الرقم القياسى للوقت الذى قضاه الناخبون فى غرف الاقتراع كان لسيدة عجوز قضت أكثر من 14 دقيقة هناك، أرسلوا الخبر إلى كل وسائل الإعلام المعروفة. وكان عليهم الانتظار تسع ساعات فقط كى يروا النتيجة التى كانت مفاجأة، ذلك أن كل الصحف البلجيكية المهمة، الناطقة بالهولندية، نشرت الخبر، بما فيها الصحيفتان الأكبر «دى مورجن» و«ستاندارد». لم يقم أى صحفى منهما بتعقب المصدر، والتأكد منه، على رغم إلحاق رقم الهاتف وعنوان بريد إلكترونى بالخبر المرسل. بارقة أمل وحيدة بانت حينما بعث صحفى واحد من جريدة «الأخبار الأخيرة» برسالة إلكترونية مستوضحا، لم يرد الشباب عبر الشخصية الوهمية. واكتفوا بالمراقبة. فما كان من الجريدة إلا أن نشرت الخبر على صفحتها الأولى، والأنكى أنها واكبت ذلك بنشر تحليل عن لماذا يستغرق الرجال وقتا أقل من النساء عند الاقتراع.
كل مراحل طبخ الخبر سجلت بالصوت والصورة. وإمعانا فى السخرية. فإنهم كرروا المحاولة مع خبرين آخرين اختلقوهما، أحدهما عن الارتباط بين الجنس ومن يقترعون للأحزاب، والثانى عن دراسة وهمية لأطروحة دكتوراه تناولت قصة يتداولها البلجيكيون بفخر، تقول إن يوليوس قيصر قال عن البلجيكيين إنهم «الأكثر شجاعة» خلال حروبه فى بلاد الغال (شمال أوروبا). إذ اختلقوا طالب دكتوراه، ونقلوا على لسانه أنه بحث الأمر جيدا واكتشف أن قيصر قال إن «الفلمانيين» سكان إقليم فلاندر البلجيكى هم الأكثر شجاعة، وليس البلجيكيون كلهم.
المفاجأة أن الخبرين تصدرا عناوين الصحف، فى حين أن الأمور أخذت أبعادا أخرى فى خبر «الجنس والتصويت»، الذى نشرته وكالة الأنباء الرسمية «بيلجا» نقلا عن المصدر الوهمى، إذ أضاف محررو الوكالة أن من يصوتون للحزب الديمقراطى الليبرالى هم الأكثر ممارسة للجنس، والأكثر رضا فى حياتهم الجنسية. بعدما نقلت الجرائد الخبر علق رئيس الحزب المقصود أمام أنصاره «هذه الأيام نحن غارقون فى الإحصاءات، لكن ما يهمنا هو إحصاء واحد يقول إن من يصوتون لليبراليين لديهم الحياة الجنسية الأفضل». إلا أن ممثل حزب منافس لم يعجبه ذلك، فتوسل السخرية، ووجد بديهيا أن «الليبراليين لديهم سعادة جنسية لأنهم يخونون زوجاتهم».
مغامرة الصحفيين الأربعة تحولت إلى مسلسل تليفزيونى، سجل كل مراحل اختلاق الأخبار والحوار الذى دار حول صياغتها والعبث بمضمونها، وصولا إلى صفحات الصحف التى شربت المقلب، وأبرزت الأخبار على صفحاتها الأولى، وهو ما هز الوسط الصحفى وصدم الرأى العام، بعدما أدرك الناس أن صحفهم المحترمة وقعت فى الفخ ولم تتردد فى نشر أخبار مكذوبة دون أن تحاول التأكد من صدقيتها.
فى تقديم المسلسل اقتبس الشبان قاعدة ذهبية فى المهنة سجلها فى أحد كتبه نك ديفيس محرر جريدة «الجارديان» البريطانية تحدث فيها عن تحول اتجاهات التغطية الإخبارية المعاصرة وكيف صارت الخفة هى المعيار السائد فى العمل الصحفى. ومما قاله فى هذا الصدد «أن العمل الأساسى للصحفى هو التأكد من المعلومات، ولكن غالبية الصحفيين لم يعودوا يفعلون ذلك لأنهم أخذوا منا الوقت. والوقت هو الآلة الأساسية لشغل الصحافة».
الصحف التى تورطت فى الفضيحة التزمت الصمت. لكن أحد ممثلى الصحافة الفلمانية تصدى للرد قائلا: إن ما فعله الشبان الأربعة «كان فظيعا» ويقلل من صدقية الصحفيين، مضيفا أننا لا نستطيع أن نطالب الصحفيين أن يتأكدوا من كل المصادر. وأمام ذلك «السخط»، لم يفعل الشبان سوى أنهم أعادوا ترديد، ما قاله الصحفى ديفيس، ووجهوا كلامهم إلى ممثلى الصحف الفلمانية قائلين: «إن أولى مهماتك كصحفى هو التأكد من المصادر. وإن لم تفعل ذلك فأنت لست صحفيا». وهو تنبيه يهم كل المشتغلين فى المهنة.
إن شبابنا العاملين فى الصحف المصرية والعربية أحوج ما يكونون إلى قراءته مرة واثنتين وثلاثا، باعتبار أن ذلك أحد مفاتيج النجاح فى العمل التى ضاعت فى زماننا. بعدما أصبح الصحفى مشتتا بين جريدته التى يعمل بها والصحف الخارجية التى يراسلها ووكالات الأنباء التى تشترى منه الأخبار وبرامج التليفزيون التى يشارك فى إعدادها مستثمرا مصادره، فكسب مالا كثيرا وخسر مهنته. إذ أصبحت «مهنة البحث عن المتاعب» مهنة أخرى تتحرى البحث عن «المصارى».
المزيد من المقالاتإنهم يخططون لإسقاط هيبة الجيش المصري لتعم الفوضى بعيون إسرائيلية ثورة العلم وبوصلة الأمل