تقف مصر اليوم بعد ثورة 25 يناير 2011 على أعتاب مشروع قومى جديد، يستدعى للذاكرة بناء السد العالى بعد ثورة 23 يوليو 1952. إن بناء مدينة العلوم والتكنولوجيا على المستوى العالمى، مع دعم البحث العلمى والتعليم على مستوى الجمهورية سوف يكون بمثابة جسر المستقبل إلى آفاق القاعدة العلمية القادرة على الابتكار والإنتاج القومى، وبهذه النهضة نستعيد مجد حضارة مصر العلمى والثقافى فى عصر العلم.. حان الوقت أن يشكل شباب الثورة مستقبل الأمة بثورة أخرى.. ثورة العلم!
خلال أيام قليلة سيكون قد مضى ستة أشهر على تنحى الرئيس السابق محمد حسنى مبارك، بعد أن اشتعلت المظاهرات التى شارك فيها الملايين من رجال ونساء الشعب من مختلف الانتماءات والتوجهات منذ صباح الثلاثاء 25 يناير. واليوم، وبالرغم من المشاكل العديدة التى تموج بها الساحة المصرية، فإننى أجد نفسى فى بلد مختلف عن ذلك الذى كنت أعيشه قبل أن يفرض غضب الملايين على السيد مبارك أن يتنحى عن حكم استمر قرابة ثلاثة عقود، واليوم فى مصر روح جديدة وطاقة هائلة لبناء المستقبل، إن ما يمر بمصر اليوم هو ما يصفه المصريون بـ«الهواء الجديد» الذى يتنفسه الشعب الناهض، برغم كل الصعوبات السياسية والاقتصادية.
ويقف المصريون اليوم أمام تحد كبير، هو تحويل هذه الطاقة الإيجابية إلى ما يحقق الطموحات المصرية لبناء الدولة المصرية الديمقراطية، وتحقيق نقلة نوعية فى الحياة السياسية المصرية، وبالتأكيد فى القدرة الاقتصادية المصرية.
ولا شك أن الطريق الذى يمكن أن يسير عليه الشعب المصرى، وقد تلاحمت جهوده وآماله، هو إطلاق مشروع قومى جديد تتشبث به العقول والقلوب، ويفتح الباب أمام نهضة مستدامة يرسم بها الشعب ملامح مستقبل أفضل لهم وللأجيال القادمة.
وكما كان مشروع بناء السد العالى هو المشروع القومى الذى اجتمعت حوله إرادة الشعب المصرى فى أجيال سابقة، فإن مشروع «مدينة العلوم والتكنولوجيا» التى تشرع مصر فى بنائه اليوم، هو أيضاً المشروع الحلم الذى يمكن أن يلتف حوله شباب مصر اليوم.
ولقد عشت بنفسى أياماً فى الستينيات عندما كان الشعب المصرى، وأنا من أبنائه فى الجامعة فى هذا الوقت، يشعر بالزهو إزاء حلم بناء السد العالى، بغرض التحكم فى أغراض الرى وتوليد الطاقة من مياه النهر العظيم، وهو المشروع الذى أطلقه الرئيس جمال عبدالناصر مشروعاً قومياً وجزءاً من الرؤية التى كانت لدى الرئيس عبدالناصر لبناء النهضة المصرية.
وإنى على اتفاق تام مع ما كتبه شاب من شباب ثورة 25 يناير، الصحفى عماد سيد أحمد فى مقاله «جسور نحو المستقبل»، من أن المشروع القومى الحقيقى والجاد الذى يجب أن تلتف حوله مصر اليوم، بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير، هو التعليم والعلم، بوصف ذلك مشروعاً لا يقل فى الأهمية عن مشروع السد العالى، حيث إنه أساس النهضة الحقيقية للوطن.
وأظن أن كل أسرة مصرية تعى تماماً أهمية الانطلاق بالتعليم فى مصر من واقعه الحالى إلى آفاق أرحب بعد ما شهده التعليم المصرى من تراجع لا يمكن نكرانه خلال الثلاثين عاماً التى حكم فيها السيد مبارك مصر، كما أننا جميعاً نعلم أن أساس التقدم فى عصر رائد نهضة مصر الحديثة - محمد على - هو إيمانه بتحديث التعليم فى مصر وعلى المستوى العالمى آنذاك.
جسور ورؤى
واليوم فإن شباب الثورة الذى أطلق من خلال مواقع التواصل الاجتماعى عبر شبكة الإنترنت - خاصة الـ«فيس بوك» - الشرارة الأولى لثورة الخامس والعشرين من يناير، يرغب فى أن يكون التعليم بمستوى لا يقل عن المستويات العالمية، هو أساس بناء مصر الجديدة، بوصف أن تحقيق ذلك الإنجاز سيكون العاصم لمصر من السقوط ثانية فى دائرة أخطاء الماضى التى مازالت مصر قابلة للسقوط فيها بالرغم من الإنجاز العظيم الذى حققه الشعب المصرى فى ثورته المجيدة.
وكما أشار «عماد» فى مقاله فإن العقود الستة الماضية عاش فيها الشعب المصرى خاضعاً لواحد من جسرين نحو المستقبل، الجسر الأول كان ذلك الذى تبناه الاتحاد الاشتراكى، والذى جاء مع ثورة الثالث والعشرين من يوليو، وهو يمثل الرؤية التى لا يمكن لشباب اليوم أن يتعايش معها.
أما الجسر الثانى، الذى ساد وجوده فى العقود الستة الماضية، فهو يمثل رؤية الإخوان المسلمين الذين يعدون اليوم القوة السياسية الأكثر تنظيماً، وكما يقول «عماد» فإن ما يطرحه الإخوان يمثل مرحلة انتقالية. إن الإخوان كجماعة لها جذور اجتماعية وتاريخ يسبق أيديولوجيات ثورة 23 يوليو، حيث إن جماعة الإخوان المسلمين قد تأسست عام 1928، وهى بالضرورة التاريخية، جزء من الماضى، ولكن لها تواجد فى المجتمع المصرى لا يمكن إنكاره، وإنما يجب القول إن هذا التواجد يرجع فى الأساس إلى الأعمال الخيرية واسعة النطاق التى تقوم بها الجماعة فى مجتمع ارتفعت فيه أعداد المحتاجين، وإلى الرسالة الدينية التى تتبناها الجماعة فى وطن يمكن للدين فيه أن يكون عاملاً حاسماً فى اتخاذ المواقف - كما أن تاريخ الإخوان المسلمين الطويل فى مواجهة النظام الحاكم فى مصر يُكسب هذه الجماعة هالة لا يمكن إغفالها.
جسر المستقبل
وفى كل الأحوال فإن الشباب المصرى يشعر بأن رؤى الماضى لا يمكن أن تضىء الطريق نحو المستقبل، وبالتالى فإنه خلال الشهور التى تلت تنحى السيد مبارك، وبدعم لا يمكن إغفاله من القوات المسلحة التى تتولى حالياً إدارة شؤون البلاد، أبقى الشباب المصرى وأبناء الشعب المصرى بمختلف طوائفه وانتماءاته على الأمل من خلال التردد المتوالى على ميدان التحرير فى تجمعات مليونية، حمل كل منها اسماً يملى على الواقع التحرك نحو المستقبل مثل جمعة مليونية التغيير وجمعة مليونية الغضب وجمعة مليونية التصحيح وغيرها.
ويتمركز هدف الشباب المصرى فى تمهيد الطريق نحو بناء ديمقراطية من خلال صياغة دستور سليم وتنحية مؤثرات باقية للنظام المخلوع، وبالضرورة مع هذا وذاك تحقيق العدالة والمساواة لكل أبناء الشعب المصرى دون تمييز، وأيضاً تحقيق نقلة اقتصادية تتعافى بها أحوال الوطن المتداعية.
ولكن بالتأكيد فإنه بعد كل تلك السنوات مع الديكتاتورية والركود، فإن تحقيق تلك التغييرات هو أمر سيستغرق سنوات، ولكن الشعب أيضاً يحتاج فى الوقت نفسه لبوصلة أمل توجه طاقته نحو البناء، وتبقى فيه مشاعر الثقة والعزة التى استعادها الشعب المصرى مع ثورة الخامس والعشرين من يناير.
وفى الثالث من يونيو، أى قبل أكثر من شهر، استيقظت مصر على جمعة مختلفة عن سابقاتها، تلك كانت جمعة الأمل، لكل أبناء الشعب المصرى، وقد جاءت هذه الجمعة تالية لإطلاق مشروع الأمل لمصر المستقبل، وهو مشروع مدينة العلوم والتكنولوجيا، والذى قام مجلس الوزراء المصرى بـ«تبنيه» بالإجماع، كما قام المجلس العسكرى الأعلى بدعمه.
مشروع المدينة
على مشارف القاهرة سيتم بناء هذه المدينة على مساحة 300 فدان، وسيتم عملها تحت إشراف إدارى مستقل بالكامل عن المنظومة الحكومية، ويعمل فى إطار واضح من الشفافية، ويضم مجلس الأمناء الذى تم بالفعل تشكيله لتلك المدينة ستة من الحاصلين على جوائز نوبل، كما يضم المجلس الرئيس الحالى لـ«كالتيك» والرئيس السابق لـ«إم.آى.تى» وعدداً من أبرز الشخصيات المصرية التى يمكن أن تسهم فى عمل هذا المشروع الحلم، ومن بينهم د. محمد العريان، رئيس مجلس إدارة بيميكو، الذى قدم بالفعل منحة سخية لإطلاق المشروع، كما تشمل الأسماء المنضمة لمجلس الأمناء أيضاً الدكتور مجدى يعقوب، جراح القلب الشهير، الذى يعمل بالأساس فى مستشفى الـ«إيمبريال كولدج» بلندن، ومن الكويت السيد عبداللطيف الحمد، ومن مصر يشمل المجلس علماء وخبراء من أهم الشخصيات المصرية، ومنهم الدكتور محمد غنيم، والدكتور محمد أبوالغار، والدكتور أحمد عكاشة، ود. حازم الببلاوى، ود. أحمد جلال، ود. مصطفى السيد، ود. فاروق الباز، والدكتورة لطيفة النادى والسيدة منى ذو الفقار.
ولم أستشعر أى غرابة على الإطلاق فى الاحتفاء الذى أبداه الرأى العام المصرى بهذا المشروع، والذى وصفه الصحفى الشهير السيد إبراهيم عيسى بأنه «الشىء الوحيد ذو الأهمية منذ ثورة الخامس والعشرين من يناير»، كما وصفه السيد أحمد المسلمانى بأنه «الطريق الوحيد للحاق بركب التقدم».
وعبر 12 عاماً منذ حصولى على جائزة نوبل فى الكيمياء، سعيت بكل ما أوتيت من جهد لإطلاق هذا المشروع، غير أن البيروقراطية وغياب الرؤية الموضوعية التى سادت خلال حكم السيد مبارك حالا دون إطلاقهذا المشروع وأحبطا ما قمت به من جهود متتالية.
غير أن الهواء الجديد الذى أتت به ثورة الخامس والعشرين من يناير إلى مصر قد منح هذا المشروع قُبلة الحياة، ليبدأ العمل الجاد نحو بناء مؤسسة غير هادفة للربح وإنما هادفة لنشر التعليم وتطويره والارتقاء به إلى المستويات العالمية من خلال منح الفرصة لمن يستحقها - وليس لأبناء وأصحاب الحظوة والواسطة وما إلى ذلك من السياقات التى سبق أن سادت فى مصر لسنوات طويلة، وسوف تقوم المدينة بالربط العلمى لأنحاء الجمهورية والعمل على جذب العقول المصرية والعربية إلى مشروع النهضة الحيوى.
الهدف والاستراتيجية
والنموذج الذى نسعى له فى بناء مدينة العلوم والتكنولوجيا على أساسه هو مزيج بين ما تقدمه «كالتك» الأمريكية كجامعة، وما تقدمه معاهد «ماكس بلانك» الألمانية كمراكز تميز، وأيضاً ما تحققه «تك برك» التركية، وذلك بهدف دفع النهضة فى مصر والعالم العربى من خلال الارتقاء بسبل العلوم والتكنولوجيا الحديثة والإنتاج القومى التى لا تُبنى بدونها نهضة فى العالم الذى نعيشه - لتكتمل أسباب الربيع العربى من تغييرات سياسية جذرية ونهضة جديدة.
إن مشروع مدينة العلوم والتكنولوجيا، الذى يحمل شعار «مصر تستطيعEgypt can» بالفعل هو أساس تحقيق النهضة والانطلاق نحو آفاق رحبة، بعد أن قضت سنوات فى الركود والتراجع، وهو الأمر الذى سيسهم بكل تأكيد فى دعم شعور استعادة الكرامة الوطنية الذى امتلأت به قلوب المصريين وعقولهم مع أيام الثورة الثمانية عشر.
ومن الجدير بالذكر والفخر أن مصر، وبالرغم مما تمر به من صعوبات اقتصادية، قررت أن تضع استثماراً كبيراً فى هذا المشروع لبناء مستقبل أفضل لأجيال حالية وأخرى قادمة، ولقد تم بالفعل خلال أسابيع قليلة جمع أكثر من نصف مليار جنيه فى حملة التبرع التى نسعى إلى أن تصل لـ2 مليار دولار، لتكون الوقف الذى تعمل عليه مدينة العلوم والتكنولوجيا بصورة تضمن استمرارية العمل فى هذا المشروع واستقلاليته، وما نأمل فيه هو أن تتحرك الدول العربية، وبالذات دول الخليج، وأن يتحرك أيضاً المجتمع الدولى ليقدم بالفعل الدعم المنشود من خلال مجموعتى العشرين والثمانى، والدخول مع مصر فى شراكة حقيقية لبناء مستقبل يبنى على ما حققه الشباب من إنجازات خلال الثورة، ولكن لا يمكن أن يبنى مشروع قومى بهذا الحجم بدون الإرادة المصرية.
آفاق المستقبل
إن عائد ما تحققه مصر من نهضة لن يكون مقصوراً على مصر والمصريين، وإنما سيمتد بالضرورة للمنطقة كلها من خلال بناء جسور نحو المستقبل، لأن تحقيق النهضة والنماء فى مصر سيسهم بصورة تلقائية فى نشر أسباب النهضة والسلام والاستقرار فى كل منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فتتعاظم سبل النمو الاقتصادى والاستثمارات وتتحقق للمنطقة الرفاهية المنشودة، والتى يمكن أن تعانى الكثير من أسباب التعطل والتطرف، ورغبة أبنائها فى تركها بأى وسيلة إلى غير رجعة.
وبالتأكيد فإن مشروعاً مثل مدينة العلوم والتكنولوجيا سيكون مركزاً للإنارة فى المنطقة وما وراءها وللتعاون العالمى.
لقد أكدت الثورة المصرية السلمية، التى حققت التغيير بعيداً عن العنف، زيف ما ردده البعض طويلاً من أن العرب والمسلمين ينتمون لثقافة العنف والنزاع مع الحضارة الغربية، وأكدت أن أبناء هذه المنطقة شأنهم فى ذلك شأن غيرهم من أبناء المناطق المختلفة فى العالم إنما يسعون للحرية والعدالة، وأنهم يتمنون أن تتحسن بهم سبل الحياة، وأن يستطيعوا العيش بكرامة وأن يوفروا لأبنائهم تعليماً أفضل، وبالتالى فقد آن الأوان لتلك القوى الدولية التى أنفقت عقوداً فى دعم نظم شمولية وديكتاتورية أن تتحرك نحو مساعدة أبناء هذه المنطقة فى بناء جسور نحو المستقبل ليصلوا إلى يوم يستطيعون فيه بالفعل العيش فى حرية ورفاهية وكرامة.
مشروع أمة
لأكثر من 10 سنوات لم نتمكن من تحقيق الهدف الوطنى لهذا المشروع، ولكن وبعد ثورة يناير 2011 تمكنّا من الحصول على مشروع قانون من مجلس الوزراء (حكومة د. عصام شرف) بدعم من المجلس العسكرى، كما تمكنا من تكوين الهيكل الأكاديمى ومجلس الأمناء، وأيضاً النواة للتركيبة الإدارية، أما أعظم ما فى الأمر فهو الحماس الشعبى والتبرع للمشروع من مصريين داخل وخارج مصر، من 10 جنيهات إلى 250 مليون جنيه، وهذا يرسخ فكرة قومية المشروع، وأن مصر تستطيع وليس بجديد عليها، فعندما كانت لها الإرادة، تمكنت من صناعة المستقبل، من تشييد الأهرامات إلى بناء السد العالى.
المزيد من المقالاتتحية لأهالي العباسية جمهورية التحرير الشقيقة حكومة «المصطبة» الطابور الخامس فى ميدان التحرير التخلص من كراكيب يحيى الجمل