في كل دولة طبقة من الأثرياء وكبار رجال الأعمال، وهذه الطبقة تنال الاهتمام من الحكومة، وفي كثير من الأحيان ترعاها الحكومة رعاية فائقة، لأنها بكل صراحة تمثل ركيزة القطاع الخاص الذي يعتبر شريكا في التنمية الاقتصادية.
إلا إنه عندما يصل الأمر أن تصعد هذه الطبقة بسرعة البرق "آكلة" في طريقها الأخضر واليابس، متحولة من العطاء إلى الأخذ فقط .. إن الكارثة الكبرى في تحول هذه الطبقة من رجال الأعمال إلى تفضيل الإثراء على حساب الدولة، مركزين جل أنظارهم على أموال وإمكانات الدولة من أراضي وشركات وممتلكات، بل امتد الأمر إلى الاستثمار والمضاربة بأموال الدولة "الودائع البنكية"، وهذه من أكبر الكوارث التي ابتلي بها الاقتصاد المصري منذ ثمانينات القرن الفائت.
السيولة البنكية من الطبيعي أن تستثمر، وأن الطبيعي أن تلعب دورا هاما في تمويل عمليات التنمية والمشاريع الكبرى بالدولة، ولكن ما هو غير طبيعي أن تتركز هذه السيولة في طبقة معينة، بلا معايير تجارية ولا اقتصادية، وأن تتحول مصر من دولة مؤسسات إلى دولة أفراد، وأن تتحول الثروة المصرية إلى نوع من التركز الرأسمالي المتمثل في امتلاك فئة صغيرة لا تتجاوز الأربعين أو الخمسين فردا لأكثر من 75% من الثروة الاقتصادية الخاصة بمصر.
إن السؤال الذي يطرح نفسه، كم هو عدد رجال الأعمال بمصر ؟ أقصد كبار رجال الأعمال ؟ وكم يمتلكون ؟ وكم هي حجم مديونياتهم للبنوك المصرية ؟ وكم هي نسبة هذه المديونيات من إجمالي ودائع البنوك ؟
حسب تصنيف منشور على موقع الويكيبيديا، فإن عدد كبار رجال الأعمال بمصر يصل إلى (63) فردا، وهؤلاء يمكن تحديد أبرز صفاتهم فيما يلي :
(1) معظمهم حاملين لجنسيات أخرى أجنبية بجانب المصرية، وهذه محل تساؤل.
(2) بعضهم ينتمون لجنسيات أجنبية أساسا وليسوا مصريين، وهذه محل تساؤل : كيف وصل وأصبح هؤلاء الأجانب من كبار رجال الأعمال بمصر بهذه الضخامة وتلك السرعة ؟
(3) غالبيتهم تعتمد استثماراتهم على الاقتراض من البنوك المصرية.
(4) أن غالبيتهم تتعدد أنشطتهم الاقتصادية ما بين تجارة وصناعة ومضاربات، وأكد أجزم أن جميعهم يتاجرون في العقارات وأنشطة أخرى غير شرعية.
ما يهمنا هنا هي الصفة الثالثة التي تجمع تقريبا بين كافة رجال الأعمال المصريين (المديونية للبنوك)، والتي ترتبت عليها الصفة الرابعة (تعدد الأنشطة) .. وهنا يثار التساؤل : كم هي حجم الأموال التي تدين بها البنوك المصرية لهؤلاء ؟ وكم حجم التعثر فيها ؟ وكم حجم الأموال التي لم تُرد حتى الآن ؟ بل كم هي معدلات الفائدة التي قدمت بها هذه التسهيلات للمشاريع الكبرى لهذه الطبقة ؟
إننا لا نتحدث عن تمويل لمشاريع صغيرة أو متوسطة، ولكن نتحدث عن مديونيات لمشاريع كبرى تتجاوز المديونية الواحدة فيها المليار جنيه .. بالطبع لا توجد إحصائيات رسمية بهذا الصدد، ولكن توجد تنويهات على مواقع على النت تشير إلى أنه يوجد بمصر نحو (12) فردا تزيد مديونيات الفرد الواحد منهم للبنوك عن 3 مليار جنيه، في حين يوجد أكثر من (30) فردا آخرين تزيد مديونيات الفرد منهم عن المليار جنيه.
للأسف أن مشاريع هذه الطبقة لم تكن جميعها مفيدة للاقتصاد المصري، بل مفيدة لأصحابها فقط، لأنها تركزت في تمويل عمليات مضاربات في بورصات أو عقارات أو غيرها .. الأمر المستغرب أن البنوك المصرية من أكثر من المتشددين في تقديم القروض للمصريين، فإذا حاول أي مستثمر صغير اقتراض مبلغ لا يتجاوز 50 ألف جنيه يواجه صعوبات كبيرة جدا، وقد يظل في إجراءات روتينية لأكثر من عام للحصول على هذا المبلغ الضئيل، والذي لن يحصل عليه إلا بحضور وكفالة كافة أقاربه الموظفين في جهات حكوميات، فضلا عن رهن كافة ممتلكاته العينية سواء سيارات أو مبان أو سجلات تجارية أو غيرها .. بل أن سياسة البنوك المصرية في غالبية الأحيان مع الأفراد العاديين هي الشراكة، حيث تجد أن البنك يشاركك في مشروعك وأرباحك، وعند التعثر يضع يديه على المشروع كاملا.
فهل البنوك المصرية ضمنت استرجاع هذه الأموال المقدمة لمضاربات في الحقيقة ؟ بل هل حصلت البنوك على حصص مناسبة من الأرباح التي حققها هؤلاء المستثمرين في المضاربات من وراء هذه المديونيات ؟ بل هل هي استردتها في الواقع؟ وكم حجم التعثر فيها حاليا ؟
البعض يقول أن هذه الطبقة ظهرت خلال فترة قصيرة جدا، والكثيرون لا يستطيعون تفسير كيف ظهرت بهذه السرعة، وغالبيتهم بدؤوا بلا شئ .. التفسير في شيئين في واحد : "المضاربات في البورصات العالمية بأموال البنوك المصرية" والتي حققوا من ورائها أموالا طائلة، كونت لهم ثروات ضخمة خلال فترات قصيرة، أضف إليها بيع أراضي الدولة التي حصلوا عليها بأثمان رخيصة جدا بأضعاف أضعاف أسعارها سواء بتعميرها أو بدون تعميرها.
إن جهاز الكسب غير المشروع في اعتقادي مطالب الآن بفتح ملفات القضايا الحقيقية والمصيرية للاقتصاد المصري .. إننا نطالب بفتح ملف المديونيات البنكية والفساد بها، ونطالب بالشفافية الكاملة في الإفصاح عن حجم هذه المديونيات ومقدار التعثر فيها، وينبغي فورا وضع أيدي البنوك المصرية المقرضة على ممتلكات أية شركات كبرى تعثرت عن السداد حفاظا على ثروة مصر .. إن بنوك مصر هي الحصن والأمل في نهضة مصر خلال السنوات المقبلة، ولابد أن يتم الحفاظ عليها بعيدا عن أيدي الفاسدين.
(*) مستشار اقتصاديdr.hasanamin@yahoo.com مقالات عامةعوضنا عليك يارب.. عبدالباقى الدوِّى المادة الثانية من الدستور.. بقلم د محمد عمارة الثورات العربية مؤامرة؟ بقلم ناصر السهليفرق كبير بين التغيير.... والتخدير بقلم مختار نوح