بالعامية ، وتخفيفا لشدتها على عين القارئ وذوقه يبدو أننا بصدد مناقشة "كم"كبير خرجنا به من الثورات الشعبية العربية، كم كبير"..
هكذا هي "الحقيقة" التي أدهشتنا وأتحفتنا بها عبقرية مذيعة مستقيلة هنا وممثل كوميدي هناك و "مثقف" خفيف الوزن والظل في إعادة سرد الرواية والوقائع بعيدا عن المحتوى والقشور والسطحية العنيفة التي جعلتنا نتأمل هذا المشهد الإعلامي المستفز للعقل والانتماء في آن معا.. استفزاز على مستوى الواقع وخلفياته ومجرياته.. اكتشفت، وحياتنا دائما حافلة بها، بأنه حين تسيطر روح التشنج والانغلاق الإعلامي فالناتج يكون كارثة على العقل المرسل والمتلقي..
بقدرة هذا الذكاء المنقطع النظير وتحليلات الحدث السوري تصيبنا الدهشة والصدمة وقرف الكتابة حتى حين نصير إلى "أصحاب نصائح مسمومة"، وكأننا في الأصل نملك أن ننصح أحدا أو نؤثر عليه في قراراته.. لكن، هل يمكن بلع كل هذا الكم الذي يختزل العقل في "المؤامرة"؟
شخصيا أجد صعوبة في التراجع عن كلماتي حول الثورة المصرية وقبلها الثورة التونسية وما مثلتاه في ظلمة عربية تعلمنا أحرف الخروج منها حتى من تنظير المنقلبون اليوم على أنفسهم، إذ يصبح من شبه المستحيل أن نعيد قراءة الحدث السابق والمستمر في البلدين وفق ما يرمى إلينا في لحظة حرجة من البحث عن مبررات الحدث الآني.. في سوريا تحديدا.. أكاد أن أصرخ بوجهي: كيف تتآمر السلفية والسلفيون على الثورة المصرية بينما هي تنجز أخرى؟.. في الحالتين أعلنت السلفية عن رفضها الخروج على ولي الأمر ولو كان مبارك..
" المفكر السابق"
وفي الاستنباط المتكرر لفعل "ثورة" يصبح الاقتراب منها نوعا من الاثم في عقل البعض: فهي مؤنث الثور! والمؤنث هنا في فعل "ثار"لا يجوز صرفه في فعل ماض إلا إذا صار "تآمر".. لا يجوز لنا الضحك والاستخفاف كثيرا بمثل هذه الأمور لحظة يعيد البعض ترتيب قراءاته الكارثية على لسان البعض الممتد إلينا تحقيرا للعقل والمنطق في صوغ جمل ركيكة لا تجاري الحقائق المغيبة تحت سجادة غبار الزمن المتلبد.
كيف يصبح "مفكر عربي" مفكرا "سابقا"؟
نحن لسنا بصدد نكتة سمجة وثقيلة على السمع، فهذا المفكر الذي صار في عرف الكوميديا السوداء المعرفة لحالها تعريفا غير سوي، كل شيء يصبح مباحا على طريقة هالة المصراتي من قناة "الجماهيرية" ( اختصارا للاسم الطويل الممل في جنون عظمة القائد): التبني في الاسلام حرام شرعا.. لذا فتبني مجلس الأمن للقرار 1970 يصبح حراما! وهذه مثل غيرها ليست جملة اعتراضية فحسب تستدعي كما من الضحك والبكاء في وصف ما يدور حولنا، بل ربما تعبير واضح عن مدى الاستخفاف المستمر.. ولا أجد شخصيا طريقة لهضم كل ما يصل عقلي رغم كل الماضي الذي علمني أن "أفلتر".. إذ تزداد الصعوبة كلما أوغل البعض من فطاحل وجهابذة القراءة في الاستهانة بما تسجله الاذن والعين وما تختزنه الذاكرة..
أمر عجيب أن تصير الثورة التونسية ، تحليلا وتسويقا، مؤامرة على الأمة العربية.. فهل حقا أن البوعزيزي أحرق نفسه ليندفع في تنفيذ هذه المؤامرة؟
أمر آخر، خالد سعيد في الإسكندرية كان أيضا يسير نحو مصير القتل تعذيبا ليفجر التراكمات المصرية؟ وكيف يمكن لمتآمر شاب أن يُخرج مليونا من المصريين إلى ميدان التحرير في القاهرة وغيرها في المدن المصرية الأخرى؟
في الأمرين يكمن "الكم أو الخازوق"، وكله حسب هؤلاء "المحللون" لنظرية "المؤامرة".. وللخروج من المأزق المتمثل في الخازوق الكبير يصير مطلوبا منا الآتي:
أن نجمع كل الجرائد والتسجيلات الصوتية والمرئية التي مجدت ثورتا الشعبين ونحرق كل ما قلناه.. جميعنا بدون استثناء.. ثم بعد ذلك نعيد طريقة صياغتنا لتفكيرنا وحماسة بعضنا التي كنا نستقيها من "الجزيرة" ونصب البنزين حين يتوفر لنحرق تحليلات "المفكر السابق".. عندها يبدو نصير أكثر عروبة وأكثر وعيا وأكثر إنسانية قبل هذه وتلك..
أي أن الثورة المضادة التي تقودها رجالات مبارك وبن علي تصبح هي الثورة الحقيقية.
فنظام كامب دافيد الذي أسقطه شعبه بعد سلسلة طويلة من النضال الشعبي والنقابي والسياسي كان يجب أن يبقى ويستمر توريثا.. ودسائس هذا النظام من غزة إلى الجنوب اللبناني وسوريا كانت عنوانا "ثورجيا" لا يجب المساس بها.. أتعجب حقا كيف يصير مبارك، الذي كان على الأقل بحق شعبه يمارس عنجهية فارغة المضمون وبدعم صلف وصفيق من تل أبيب و واشنطن و عواصم أخرى، مأسوفا عليه، لشيء واحد: إثبات أن ما جرى لم يكن أكثر من مؤامرة.. والغريب في أمر هاتين الثورتين لا يكمن فيهما بقدر ما اكتشفته عبقرية التحليل والربط المفقد لهما شعبيتهما وزخمهما باعتبار الشعبين أيضا جزءا من الخازوق الذي أصابنا جميعا باستثناء بضعة مرددين من هؤلاء الذين يصرون في الطرق على عقولنا لتطويعها وترويعها بطريقة ماركارثية مقيتة، قراءة وتفكيرا وهما، من حيث يدرون أو لا يدرون يصيبون الفكرة التي يدافعون عنها في مقتل التناقض الذي مارسه سابقا برهان بسيس ومجدي الدقاق.. والبقية المتبقية ممن لم يخجلوا ولم يراجعوا مواقفهم وأوغلوا في النفاق والتملق حد الطلب من سلطات القمع والبلطجة أن " تزيد العيار" قليلا ولو بدك القرى بالطيران وبإحراق ميدان التحرير بمن فيه!.. ممثلون وكتابا وأصحاب رأسمال طفيلي.. بل اتسع التحالف يوم كان يظهر "النيل هادئا" ليشمل أيتام أميركا ومنظرو الصهيونية العربية الذين عرفتهم ذاكرة العرب جيدا دون حاجة لهؤلاء الذين يذكروننا بها بطريقة موتورة ومأزومة كلما أطلوا علينا مقرعين إيانا لمشاهدتنا المحطة التي يتحدثون منها.. إنه فعلا لأمر يستعصي على الفهم..
هؤلاء ممثلون وكتاب و محللون.. ومذيعون
وفي محاولة اختبار الذكاء المستمر لنا نكتشف نمطا آخرا في أسئلتنا غير البريئة:
هل نحن تلاميذ مدرسة هؤلاء " المفكرون الجدد" حتى نبلع هذا الكم المضلل لعقولنا، لنسكت مزيدا عن كم مزيد وفائض في احتقار عقولنا. كيف يجب أن أصدق "مذيعة سابقة" اكتشفت فجأة، وبدون مقدمات كثيرة، أن مؤسستها الإعلامية هي "الغرفة السوداء" للمؤامرة ومنذ سنين طويلة.. ولكي نقتنع أكثر نسأل، لماذا إذا بقيت كل هذه السنين في تلك المؤسسة غير المهنية والتي تجاوزت كل الحيادية والسلوك المهني؟
في "الطرطشة" التي أرادت أن تصيب أدمغة البشر ثمة مزيد من احتقار العقل، فعصبية وتوتر وهيجان ونرفزة البعض ممن يطلون علينا ليحللوا الحدث لم تفعل كلها شيئا واحدا على مدى أسابيع سوى تعميق هذا الاحتقار والخسارة من الكلمة الأولى وتصادمها مع منطق سليم في السرد والدفاع عن الفكرة.. لا حاجة لي بتعداد كل الأمثلة في أسئلة غير بريئة، فحالة إنكار الشيء شفهيا لا تعني أنه لم يحدث ولا الاستماتة في صرف الوقت على الدفاع عن شيء مرفوض جملة وتفصيلا مهما كانت مسبباته ومهما كانت دوافعه.. ولا محاولات الفصال على عدد من خرجوا بعد صلاة الجمعة.. ولا عظة عن أن يوم الجمعة يوم استراحة الرب والعباد.. فهذا مطب بلا قعر، حين يستمر بروايته على الناس( وخصوصا حين تحفظ عن ظهر قلب لشدة تكرارها) ولأنه لم يكن كذلك في الحالات الثورية التي كنا نباركها سابقا ولاحقا.. طبعا قبل أن نكتشف الخازوق..
فأحدهم يذهب بعيدا ليقول لمذيعة عربية: غايم از اوفر " اللعبة انتهت".. وهل حقا كنا أمام ساحات لعب في تونس والقاهرة وصنعاء؟ وهل حقا يمكن لـ" اللعبة" أن تنتهي لمجرد تصريح يدعي أنها "أوفر"؟
وهل حقا أن "السفير السابق للنوايا الحسنة" يريدنا أن نقتنع الآن فقط أن الأمم المتحدة ليست أكثر من مؤسسة صهيونية؟
حسن، وطالما أن الأمر انسحب على كل مؤسسات الأمم المتحدة لماذا نطالب بتطبيق قراراتها وصولا للحقوق الثابتة للعرب؟
سؤال برسم من خرج متوترا يسوق ما هو أفظع من ذلك، أكان على صعيد التشبث بأن كل الدنيا "مؤامرة" أو حتى على صعيد إعادة رسم العلاقة التاريخية وليست الطارئة على علاقة البلاد العربية بعضها ببعض.. شعوبا على الأقل.. في أمر غير مستساغ حين يقرع هذا المحلل السياسي العرب جميعا ويتهمهم جميعا ..شعوبا حتى بضلوعهم في "المؤامرة".. ولا أحد هنا يناقش مدى الأذى الذي يلحقه هؤلاء بمكانة البلاد ولا بمستقبلها مع شعاراتها ومع فكرها القومي وتوجهات شعبها التاريخية مع محيطها.. هنا طامة أخرى من طامة الوقوع في الفخ.. حماسة متوترة تدفع أحدهم للقول بما معناه" نحن من صنعنا رجب طيب اردوغان وسوقناه" للعرب والمسلمين!..
أي تفكير سليم هذا الذي يخلط بين المصالح (بكل مستوياتها) وبين التمني؟
ثم من غير المفهوم حقا كيف يمكن لسوريا أن تكون قلب العروبة والمبادئ ثم يُطلب وبالشتائم والصوت العالي والتصنيف الذي يوغل في الاتهام أن نصير كلنا إلى متآمرين لحظة أن لم يتحولوا إلى ذات الموجة التي تبث عليها هؤلاء الذين يظنون أنهم بفعلتهم يدافعون عن سوريا.. ذكرني الأمر بالعراق، فقد كان التمهيد لغزو العراق بصيغة سلخ لعمقه العربي على ألسنة كثير ممن يحكمونه اليوم: لا تتدخلوا في الشأن العراقي!.. على فكرة بعضهم كان مقيما في سوريا وكان يحمى ويدعم قبل أن يختار الدبابة الأميركية ليعود ويبصق في الصحن الذي أكل منه.. فهؤلاء هم من حرضوا على سوريا ( منذ أيار 2003) وليس من قال رأيه عن سوريا وما تواجهه اليوم، ولا يقبل العقل تكرار الاسطوانة اليوم باسم الدفاع عن الوطن بوجه الخارج أن نختار من هذا الخارج خليطا عجيبا من المؤامرة ومصدرها يكون على لسان " فنان" تارة وغيره من الذين اخترعوا طريقة أخرى لمقارعة العقل واحتفاره بدل مخاطبته والحوار معه!
من قال أن سوريا تواجه المؤامرة منذ مارس 2011 فقط؟
يبدو أن بعض هؤلاء الذين يطلون علينا بشكل شبه يومي لمزيد من الإمساك بحالة الإنكار مقدسا لا يجوز مسه ولو بشك بشري، لم يقرؤوا جيدا أن " المفكر السابق" دفع ثمن ترك بلاده بتهم لها علاقة بمسألة تخص فكرة العروبة والمقاومة وليس لنوازع شخصية.. بل والعجيب الآخر ( من ضمن عجائب أستاذ القانون الدولي) الذي لم نقرأ أو نسمع له صوتا حين كان "المفكر" يمارس دوره مع غيره من العرب تجاه قضايا أمته أن يطل من الشاشات العربية ليتلوا على المشاهد ورقة ينعي فيها القانون الدولي وينكر وجوده ووجود مؤسسات دولية نساهم نحن العرب بدفع الأموال ونوقع على اتفاقيتها وقوانينها ومواثيقها لكي تبقى .. أية متناقضة وفداحة وتملق ونفاق أكثر في هذا الخطاب البائس للدفاع عن شيء من منطلق حالة إنكار / نكران شديدة ومتعمقة لضحالة فكرة المؤامرة وأدواتها.. مجردة هكذا بجمل غير مرتبكة..
ففكرة المؤامرة لا تكون مشطوبة لمجرد إعادة سرد تاريخي بما يتوافق واللحظة الراهنة، بل هذا تعميق لعزلة العقل وسد لآفاق تفكيره بالواقع والمستقبل..
عمليا لا يكون مقنعا بحال من الأحوال القول بأن تونس ومصر واليمن والبحرين تعرضوا ويتعرضون لمؤامرة لكي أثبت بأنني أعيش تلك المؤامرة.. فمثل هذا القول يعني الغرق في السرد ومحاولات التلذذ بالاستهزاء من شعوب قامت قومتها ضد الذل والمهانة تطلب التغيير وتنشد حياة كريمة فيها حرية مكبلة.. الغرق ايضا في القطرية الضيقة والاستماتة في الدخول بصراع مع مذيع أو مذيعة نشرة إخبارية لم يكن في يوم من الأيام في مصلحة الفكرة..
لقد سقط رئيس وزراء مبارك المعين قبل الخلع أحمد شفيق في فخ النرجسية في برنامج تلفزيوني ( بما القاهرة النهار ده) فقدم استقالته بفعل حالة ثورية جديدة في مصر وإن أنكر البعض وجودها أو اخترعوا لنا قراءة أخرى لها: المؤامرة!..
إذا، ليس في مصلحة هؤلاء أن يخاطبوننا على طريقة هالة المصراتي وهي تتحدث عن التبني وحرامه للقول بأن تبني واتخاذ قرار في مجلس الأمن حراما شرعا أيضا.. وإلا لبقينا أيضا ضمن " مربعات" القايد عن تعريفه للديمقراطية ومعاني المسؤولية التاريخية.. "الدهماء" يطالبون بشيء مطلوب الإنصات جيدا لهم قبل أن يسوق أحدهم تعريفا آخرا لهم كـ"الحثالة" ( على وزن الجرذان) وقبل أن تتعمق حالة الإنكار إلى الحد الذي يسمح فعلا للمؤامرة أن تكون مؤامرة.
أن تقدم قناعاتك وتدافع عنها ليس فيه خلل.. ولا جناية ولا شبهة ولكن ليس بإعادة تعريف للوطنية والقومية ولا منحها وحجبها في مكارثية عربية تريد إلغاء فصل الربيع من أجندة دورة الطبيعة.. ويوم الجمعة من أجندة وعقول البشر.. بالتمنيات وإطلاق النار بشكل دائري عبر إطلالات إعلامية عمقت أزمة المشهد أكثر مما هو مأزوم في الأصل.. القناعة والدفاع عنها حق مشروع، لكنها تقع صريعة حين تتحول لنفي حق الآخرين ممن لهم حقوقا وأفكارا وآمالا وأحلاما تخونها ثقافة التملق والنفاق والسير وفق بوصلة القوة ومعالجات تتهم الكل ليصيروا مجرد ظل لأفكار نازفة وببغاء يكرر رواية "مفكر جديد" وقانوني يلغي القانون وممثل يستهزأ بأعماله السابقة ومثقف يكتشف الزمن أنه عبره في جبنه في حلقة التملق التي تعمق مشهد السير نحو الفخ أو المؤامرة الحقيقية التي نعرفها ونعرف اتجاهاتها..
هل كان جريمة أن يقال: ذلك التصريح الذي منح لصحيفة نيويورك تايمز لا يعبر عن إرادة سوريا في قراءة كانت سقطة في الهواء؟ بدل ذلك، وقبل يوم من صدور توضيح من السيد عماد مصطفى في ذات الصحيفة، لم ينتبه المجيب على أسئلة تلفزيونية إلى ضرورة توخي رفض التعليق على ما ورد في الصحيفة الأميركية وبدلا من ذلك راح بعضهم يدافع ويفسر قبل أن يأتي التفسير ووضع التصريح في سياق يعبر عن رأي من طرحه وليس الغرق في الدفاع عنه.. هذا مجرد مثل بسيط لكيفية التعاطي مع المتلقي من المشاهدين الذين، على الأقل لم يحذفوا من قوائم قنواتهم تلك القنوات "المندسة"..
ما علينا.. المهم في هذا المشهد أكثر مما يرويه هؤلاء الذين شكلوا مأزقا حقيقيا حين تسيدوا المشهد الإعلامي..
وليسمح لنا هؤلاء جميعا: لا لم تكن ثورتا تونس ومصر خازوقين بدلا من واحد.. ولم تخرج الجماهير وفق نسق تآمري ولا الغرف السوداء.. ففي هذا الادعاء ثمة سقوط وإسقاط وإحراق للمراكب والفكر والتنظير.. وليس بالتملق والنفاق نثبت صحة المسار والأفكار..
كاتب فلسطيني