{
يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ}[يوسف:46-49].
في هذه الآيات من سورة يوسف، تحدث الله عز وجل عن رؤيا الملك والتي كانت إشارة لما سوف تمر به مصر وقتها من سنين عجاف بعد سنين من الخصب، وأضاف يوسف عليه السلام إلى تلك الرؤيا ما علمه من الله عز وجل من أن السنين العجاف سوف يعقبها عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون.
كانت هذه الرؤيا وصفًا لحال مصر الاقتصادي في عهد يوسف عليه السلام، إلا إننا نراها تصف لنا أوضاع مصر في الأعوام الثلاثين الماضية منذ اغتيال السادات وحتى تنحي مبارك.
بعد اغتيال السادات، حاول الرئيس حسني مبارك أن يظهر للناس نيته في أن يكون حاكمًا عادلاً فكانت تلك السنوات التي نشط فيها التيار السلفي بأطيافه، وكانت المؤتمرات الجامعة والمعسكرات، كانت سنوات من العمل ساعد على ذلك انشغال الدولة وقتها بالحرب مع الجماعة الإسلامية وتنظيم الجهاد، ظل الوضع على هذا الانفتاح حتى عام 1990 حيث بدأت الدولة وقتها في توسيع رقعة حربها مع التيارات الإسلامية وكان التيار السلفي قد حقق نجاحات في العديد من المناطق والقطاعات، وبدأت الدولة في الحرب على الإسلام والسلفية في الجانب الإعلامي والثقافي، حيث نشرت وقتها سلسلة كتب المواجهة بسعر بخس لا لتواجه السلفية فقط، بل لتواجه الإسلام نفسها، ولمع وقتها أسماء فرج فودة وجابر عصفور وحسين أحمد أمين وغيرهم من العلمانيين المحاربين للإسلام، صاحب هذه المعركة الثقافية معركة إعلامية بلغت ذروتها مع إنتاج أفلام تسخر من الإسلاميين، ومن الهدي النبوي، بشكل فج.
وعلى الرغم من هذه المعركة الإعلامية والثقافية إلا أن انشغال الدولة وقتها بمواجهة الجماعة الإسلامية وتنظيم الجهاد، جعل هناك مساحة للحركة أمام التيار السلفي للدعوة والعمل، غير أنه بعد عام 2000 دخلت مصر كلها في مرحلة السنين العجاف، وبلغ التضييق على التيار السلفي أشده، فمنع شيوخ السلفية بالقاهرة من الدروس واعتقل بعض شيوخ القاهرة والإسكندرية سنوات، وفي الإسكندرية وغيرها من المحافظات فرض على شيوخها ما يشبه الإقامة الجبرية في مساجدهم، ومنعت الأنشطة الشبابية ولقاءات الجامعة والمعسكرات، وكانت الأيام تمر والتضييق يشتد حتى صار اليأس مسيطرًا على النفوس، إلا أن شدة ظلام الليل كانت دليل على قرب الصبح، وقد كان، حيث كانت ثورة 25 يناير المفاجئة للجميع إيذانًا من الله عز وجل برحيل السنين العجاف.
لا نزعم أن ما بعد ثورة 25 يناير سوف يكون عام يغاث فيه الناس كما كان الحال في مصر القديمة، ولكن بالتأكيد ما بعد 25 يناير سوف تكون فرصة للحركة الإسلامية للعمل والحركة دون القيود السابقة، وعندما يتاح للدعوة الإسلامية، بشكل عام، أن تنشط وتعبر عن نفسها، وتنطلق في صفوف الناس لتنقذهم من الظلمات إلى النور، وتنقلهم من الجهل إلى العلم، عندما يتاح لها ذلك يجب على أصحابها استثمار هذا الرخاء، لقد أتيحت للمسلمين فرصة في صلح الحديبية فاستغلها الرسول صلى الله عليه وسلم أحسن استغلال، ورغم أن الصلح حوى شروطًا لم يرضى عنها المسلمون، إلا أن الاستغلال الناجح لهذا الصلح محت آثار هذه الشروط، وتمكن المسلمون خلال فترة الصلح من نشر الدعوة والتجوال بين القبائل لا يردهم أحد، وفي فترة قصيرة تضاعف عدد المسلمين، فالذين حضروا الحديبية كانوا ألفاً وأربعمائة، والذين حضروا فتح مكة بعد سنتين كانوا عشرة آلاف، فكانت الحديبية فتحًا كما أخبر الله عز وجل.
أننا نعلم أن ثورة 25 يناير لن تخرج لنا النموذج الإسلامي المنشود، ولكنها أتاحت فرصة للعمل والحركة، ويجب استغلال هذه الفرصة بأحسن ما يمكننا من جهود وأعمال نرجو أن تتجاوز الوعظ والدرس إلى البناء والإعداد للمستقبل، ونحذر من أن تستغل الفرص بأعمال ضعيفة ليس لها أثر يذكر، وتمضي الأيام والسنون دون القيام بعمل ترتاح له نفس المسلم ويبنى عليه ما بعده، ومتى يشفى صدر المؤمن إذا كانت كل الجهود والطاقات تذهب للتكديس لا للبناء.
رؤية لاستغلال الفرصة القائمة:
نعلم أن من مشايخنا وعلمائنا من لديه رؤى أوسع لما يجب فعله فيما يقدم من الأيام، غير أننا نشارك هنا برؤية نراها قد تفيد في المرحلة القادمة، وتتمثل هذه الرؤية في النقاط الآتية:
1- تقويم المرحلة الماضية برمتها تقويماً شاملاً ودراسة كافة الإيجابيات التي تم اكتسابها، وكافة الأخطاء التي تم الوقوع فيها لأي سبب من الأسباب، ليس المقصود هنا الوقوف عند مناقشة موقف التيار السلفي من ثورة 25 يناير ولكن المقصود مناقشة إعادة تقييم المرحلة السابقة وموقف التيار السلفي من قضية التغيير كلها، إننا نريد إعادة النظر في قضية (من نحن؟، وماذا نريد؟)، وما هي وسيلة التغيير التي نتبعها؟، ما موقفنا من قضية الحكم؟، ما موقفنا من العمل السياسي؟، ما موقفنا من الآخرين؟، قضايا كثيرة تفرضها علينا المتغيرات الجديدة، ويجب على مشايخنا التريث قليلاً والتوقف عن سيل المؤتمرات والمحاضرات حتى تستبين لهم ولنا ما يجب على التيار السلفي انتهاجه في المرحلة، إن التخطيط للمستقبل يعدّ من أولى أولويات المرحلة القادمة، أرى أنه يفوق في أهميته قضية المادة الثانية من الدستور، بل إنه وللأسف الشديد نفتقر للمشروع الإسلامي السلفي الواضح للإصلاح في المجتمع، وإذا كنا نطالب بالتغيير فعلينا أن نقدم مشروعنا الواضح خاصة وأن جميع الأحزاب والتيارات السياسية تسعى لتقديم مشاريعها في المرحلة القادمة، فأين المشروع السلفي للإصلاح؟.
2- إعادة ترتيب الجبهة الداخلية؛ بعد الضغوط التي تعرضت لها الدعوة في الفترة الماضية والسنين العجاف، ظهرت بعض الأطروحات العلمية والعملية التي قد ينقصها العمق الشرعي والأصالة المنهجية، وانضم إلى صفوف الدعوة من لم يعرف منهجها حق المعرفة، حتى نستطيع أن نقول إن هناك فرق بين من التزم قبل عام 2000 ومن التزم بعد عام 2000، من وضوح للمنهج ورسوخ له عند الأول، وغياب للمنهج عند الأخير، بل إن قدامي الأخوة ممن التزم قبل عام 2000 كان يتمحور حول المنهج، بينما نجد أن كثيرًا ممن التزم بعد عام 2000 يتمحور حول الشيوخ مما يخالف الركيزة الأساسية في المنهج السلفي التي تنص على (اعرف الحق تعرف أهله)، إن هذا الأمر يتطلب استنفارًا كبيرًا في طاقات الشيوخ الفضلاء لترميم البناء من الداخل، وإعادة تأطيره، ومعالجة الانحرافات المنهجية علاجاً شرعياً مؤصلاً.
3- اتصالاً بالأمر السابق، ينبغي التأكيد على أهمية البناء التربوي الراسخ في الصفوف؛ فالدعوة بعد عام 2000 لم يتاح لها فرصة لتربية أبنائها مثلما كان الحال قبل ذلك، فمنعت المعسكرات وألغيت اللقاءات وضيق على الاعتكافات وغيرها من الأنشطة التربوية، والمرحلة القادمة على الدعوة الاستفادة من هذا الانفتاح في البناء التربوي لأبنائها، فتزكية النفس وتهذيبها وبناؤها من أولى أسس التغيير الشامل الذي يتطلع إليه المخلصون، ولن يبلغ البنيان تمامه إلا بجهد كبير في رعاية المحاضن التربوية.
والخطاب الوعظي المجرد مهما كان بليغاً لا يبني رجالاً راسخين، كما أن العاطفة المتوهجة التي لم تتجذر في أعماق الأرض مهما كانت صادقة قد لا تثبت أمام الأعاصير والأمواج العاتية، ولهذا كان بناء الرجال وإعداد النفوس هو الطريق الصحيح للتغيير، وما لم تتضافر الجهود لذلك فسوف نظل نعرج ونتعثر.
4- في المرحلة القادمة تحاول الاتجاهات الفكرية العلمانية واليسارية تجميع نفسها في تكتلات كبيرة والاتفاق على مطالب مشتركة لفرضها على المجتمع، ولا يليق بالإسلاميين ولا بالتيار السلفي أن يتخلف عن توحيد الصف الإسلامي لأجل خلافات صغيرة ومسائل من الخلاف الشائع، إن التجارب السابقة للحركات الإسلامية المختلفة تكشف الأهمية الكبرى لوحدة الصف الإسلامي، فذلك هو السبيل الأمثل لمواجهة جموع الأحزاب العلمانية والأنظمة النفعية التي أجلبت بخيلها ورجلها لوأد الصحوة الإسلامية بعامة.
5- تحتاج الدعوة في المرحلة القادمة إلى الاندماج مع المجتمع، ولابد هنا أن نشير إلى أن هناك فرق كبير بين خدمة المجتمع والاندماج مع المجتمع، تجيد الدعوة الآن تقديم الخدمات المختلفة للمجتمع، ولفئة محددة منه، أما الاندماج فنقصد به أن يكون للدعوة رجال في كل قطاعات وفئات المجتمع، فيكون للدعوة رجال في الإعلام والقضاء وبين أساتذة الجامعة، ومن شيوخ الأزهر، وغيرها من القطاعات والفئات، حتى يكون التيار السلفي معبرًا بحق عن المجتمع ككل.
هذه رؤية موجزة لما يجب عمله في المرحلة القادمة، وهناك مسائل أخرى لم نتطرق لها مثل العمل السياسي، لأننا نرى أن العناصر السابقة تمثل أهمية كبرى في المرحلة المقبلة، والله الموفق.