الأمة القائدة
الكاتب: أد../ عبد الحي الفرماوي
الأمة القائدة هى تلك الأمة التى كتب الله لها التمكين فى الأرض؛ لأنها أخذت بأسبابه: فأعددت عدتها، وأخذت أهبتها، وحثت خطاها، لا تنكس لها راية، ولا يخيب لها سعى، تراها تملك زمام الأمور وقيادها، تهرع إليها البشرية فى كل ما عنّ لها، إنها بحق.. الأمة القائدة.
ولعظم دورها، وخطر ثغرها، فقد أولاها الله - سبحانه وتعالى - عظيم الاهتمام فى القرآن الكريم، وأصّل النبى - صلى الله عليه وسلم - المنهج التربوى لها، والتدريب العملى لرجالها؛ لتكون حادى القافلة إلى الرقى والحضارة.
صفات الأمة القائدة
صفات الجماعة التي عمل الرسول - صلى الله عليه وسلم - على بنائها، ونجح في ذلك بتوفيق من الله - سبحانه وتعالى؛ حيث نجح في إقامة دولة الإسلام، ومجابهة دولة الظلم والشرك من حوله.
هذه الصفات المطلوبة في الأمة توضحها الآيات التالية:" وَ
مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ البَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ * وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ " [الشورى: 36-43 ].
يعني: أن ما عند الله من الثواب والنعيم فهو خير من متاع الدنيا وأبقى منه؛ لأنه أبدي غير زائل ولا منته.
ولكن لمن هذا النعيم والثواب الأبدي الذي عند الله تعالى؟
هنا يكون الجواب الواضح بتحديد صفات جماعة المسلمين، وبالميزان الذي تتعرف به عليهم، وتتخلق معهم بأخلاقياته. إنهم الذين يقول عنهم ربهم:"
وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ "؛ حيث حدد المولى - عز وجل - من صفاتهم ما يلي:
أولاً: أنهم آمنوا بربهم، واتبعوا نبيهم، والتزموا بشريعتهم.
ثانيًا: أنهم على ربهم وحده يتوكلون ويعتمدون في كل أمورهم.
ثالثًا: أنهم يجتنبون ويبتعدون عن كبائر الإثم كالبدع واختلاق الشبهات والفواحش، وهى ناتج القوة الشهوانية.
رابعًا: أنهم إذا ما غضبوا لأنفسهم، أو في أمر دنيوي هم يغفرون ويتسامحون ولا يؤاخذون.
خامسًا: أنهم استجابوا لربهم: فاتبعوا رسله، وأطاعوا أوامره، واجتنبوا زواجره، واجتمعوا على دينهم، ولم يتفرقوا فيه.
سادسًا: أنهم أقاموا الصلاة: داوموا عليهم، وحافظوا على إتمامها في مواقيتها، وأركانها، وهيئاتها.
سابعًا: أنهم أمرهم شورى بينهم لا ينفردون برأي، بل يجتمعون عليه، وما تشاور قوم إلا هُدوا لأرشد أمورهم. وفى الحديث الذي رواه الإمام الترمذي:"
إذا كان أمراؤكم خياركم، وأغنياؤكم سمحاؤكم، وأمركم شورى بينكم، فظهر الأرض خير لكم من باطنها. وإن كان أمراؤكم شراركم، وأغنياؤكم بخلاؤكم، وأمركم إلى نسائكم، فبطن الأرض خير لكم من ظاهرها ".
ثامنًا: أنهم مما رزقناهم، أي: رزقهم الله، ينفقون في طاعة الله.
تاسعًا: أنهم إذا أصابهم البغي ووقع عليهم الظلم هم ينتصرون ممن ظلمهم واعتدى عليهم، ليسوا بالعاجزين، ولا بالذليلين.
عاشرًا: أنهم إذا انتصروا ممن ظلمهم كان انتصارهم جزاء سيئةٍ سيئةً مثلها فقط من غير زيادة عليها، وإلا صار ظالمًا.
وينبغي أن يكون ملحوظًا أن هذا الانتصار وإن كان مشروعًا لهم فهو مشفوع بأمرين:
الأول: شرط المماثلة.
الثاني: أن العفو عند القدرة أولى. ولذلك يحث ربنا - عز وجل - على العفو عند القدرة على الانتصار، بل على الصفح أيضًا إذ يقول:"
فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ " [الشورى: 40]، وهو وعد بالخير، لا يقاس عليه شيء في التعظيم؛ حيث إنه سبحانه لا يحب الظالمين ابتداءً، ولا في رد العدوان عن أنفسهم.
ولكن يلاحظ جيدًا أنه من انتصر بعد ظلمه وفق هذه الشروط ما عليهم من سبيل في المؤاخذة أو العقاب؛ لأن هذا حقهم. إنما السبيل في المؤاخذة والعقاب على الذين يظلمون الناس، ويعتدون عليهم، أو يسلبون حقوقهم، أو ينتهكون حرماتهم، أو يبغون في الأرض بغير الحق، ويتكبرون فيها ويفسدون. نعم!! أولئك لهم من الله عذاب أليم في يوم القيامة.
كما يذكر ربنا بالصبر على الأذى، والصفح والغفران؛ فيقول ولمن صبر على الأذى، بشرط أن لا يكون في ذلك الصبر تشجيع للمعتدى بزيادة الاعتداء، وغفر وستر السيئة. إن صبره ذلك وغفرانه هذا لمن عزائم الأمور التي ندب الشارع إليها، وأثاب عظيمًا عليها. هذه صفات الجماعة المسلمة، من عرفها، وتحلى بها، وحافظ عليها فقد هداه الله. ومن تجاهلها، أو لم يؤمن بها فقد أضله الله.
قائد
الأمة القائدة
كذلك قائد الأمة؛ فهو رأسها المفكر، وسفيرها اللبيب، وأمينها القوى، ووجهها المعبر، والمستشير لأهل الذكر والشأن من علمائها. وقد بيّن القرآن الكريم صفات هذا القائد فى قوله تعالى:"
فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ" [الشورى: 15].
ويمكننا أن نستخلص من الآية الكريمة عشر صفات؛ ثلاث منها فعلية أو عملية، والسبع الباقية قولية، وذلك على النحو التالي:
أولاً: الصفات الفعلية أو العملية
أولاً: " فَادْعُ ": دعوة الناس لهذا الدين، والإيمان به، والعمل بتشريعاته، والاجتماع عليه.
ثانيًا: " وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ": الاستقامة على هذا الدين في ذات النفس لاقتداء الناس به.
ثالثًا: " وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ ": عدم اتباع المشركين في أهوائهم الباطلة، ومعتقداتهم الخاطئة التي اختلفوا بسببها.
ثانيًا: الصفات القولية
رابعًا: " وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ ": الإيمان بجميع الكتب المنزلة على جميع الأنبياء بلا تفرقة بينهم.
خامسًا: " وَأُمِرْتُ ِلأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ": إقامة العدل بين الناس في الحكم.
سادسًا: " اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ ": الإقرار بالله ربًا للجميع، كلنا نعبده، فلا إله بحق سواه.
سابعًا: " لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ": البراءة من أعمال المشركين؛ فكل مؤاخذ بعمله هو.
ثامنًا: " لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ": عدم الخصومة مع المشركين، ولا حاجة للجدال معهم؛ فالحق أصبح واضحًا، ولا يحتاج لحجة بيننا وبين المشركين.
تاسعًا: " اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا ": الإيمان بيوم الجمع حين يجمع الله الخلائق يوم القيامة للحساب.
عاشرًا: " وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ": المرجع والمصير إلى الله سبحانه؛ حيث يفصل بيننا، وينتقم من المشركين.
تلك هى صفات وملامح الأمة القائدة وإمامها، فصلها الله - عز وجل - لنا فى كتابه، وتابعة السنة النبوية ذلك الفهم. تلك هى الصفات التى - حين تمسكنا بها - سدنا بها الأرض، وانقاد لنا الإنس والجن والطير والوحش، وكنا فى طليعة ركب الحضارة والتقدم.
وتلك هى الصفات التى - حين فرطنا فيها - ساد أرضنا العدو، وعشش الوهن فى قلوبنا، ودرست معالم دولتنا الإسلامية من مخيلتنا، وتفرقنا شيعًا وأحزابًا، وأصبحنا والحضارة على طرفى نقيض.
فهلا عودة إلى منبعنا الصافى: ننهل منه معالم عزنا، ونعود به لسابق عهدنا، ونحيى به موات قلوبنا، لنتخل عن كوننا أتباعًا لنكون قدرنا الذى خطه ربنا لنا... الأمة القائدة.
أتمنى أن أرى ذلك.. أتمنى أن أرى ذلك.
==========