حديث جابر حول حجة
صلى الله عليه وسلم
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله الله تعالى بالهدى ودين الحق، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة وجاهد في الله تعالى حق جهاده، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله، وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن من شروط العبادة الإخلاص لله والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهما الركنان الأساسيان في كل عبادة فلا تقبل عبادة بشرك ولا تقبل عبادة ببدعة فالشرك ينافي الإخلاص والبدعة تنافي الإتباع ولا تتحقق المتابعة إلا بمعرفة الصفة والكيفية التي أدى النبي صلى الله عليه وسلم العبادة عليها ومن ثم احتاج العلماء رحمهم الله إلى بيان صفات العبادات فبينوا صفة الوضوء وصفة الصلاة وصفة الزكاة وصفة الصيام وصفة الحج وغير ذلك حتى يعبد الناس الله عز وجل على شريعة محمد صلى الله عليه وسلم.
فحديث جابر رضي الله عنه الطويل المشهور في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم الذي جعله بعض العلماء عمدة صفة الحج وجعله منسكا (1) كاملا لأن جابرا رضي الله عنه ضبط حج
صلى الله عليه وسلم من أوله إلى آخره. فذكر رضي الله عنه :
« أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث تسع سنين لم يحج ثم أذن في الناس في العاشرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم ويعمل مثل عمله فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف أصنع ؟ قال: «اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي». فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به ناقته على البيداء نظرت إلى مد بصري بين يديه من راكب وماش وعن يمينه مثل ذلك وعن يساره مثل ذلك ومن خلفه مثل ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن وهو يعرف تأويله وما عمل به من شيء عملنا به فأهلَّ بالتوحيد « لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك ».
وأهلَّ الناس بهذا الذي يهلون به فلم يَرُدَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم شيئا منه. ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبيته. قال جابر رضي الله عنه : لسنا ننوي إلا الحج - لسنا نعرف العمرة - حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً ثم نفذ إلى مقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام فقرأ )وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّى ( (2) فجعل المقام بينه وبين البيت فكان أبي يقول ولا أعلمه ذكره إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم: كان يقرأ في الركعتين ) قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ(، و ) قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ( ، ثم رجع إلى الركن فاستلمه ثم خرج من الباب إلى الصفا فلما دنا من الصفا قرأ ) إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ((3)« أبدأ بما بدأ الله به » فبدأ بالصفا فرقي عليه، حتى رأى البيت فاستقبل القبلة فوحد الله وكبره وقال:« لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده » ثم دعا بين ذلك. قال مثل هذا ثلاث مرات ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى حتى إذا صعدتا مشى حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا حتى إذا كان آخر طوافه على المروة فقال: « لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أَسُقِ الهدي وجعلتها عمرة فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة ». فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا رسول الله ! ألعامنا هذا أم لأبد؟ فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى وقال:« دخلت العمرة في الحج » مرتين « لا بل لأبد أبد » وقدم عليٌ من اليمن ببدن النبي صلى الله عليه وسلم فوجد فاطمة رضي الله عنها ممن حل ولبست ثياباً صبيغاً واكتحلت فأنكر ذلك عليها فقالت: إن أبي أمرني بهذا. قال: فكان عليٌ يقول بالعراق: فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم محرشاً على فاطمة للذي صنعت مستفتياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكرت عنه. فأخبرته أني أنكرت ذلك عليها. فقال: « صدقت صدقت ماذا قلت حين فرضت الحج ؟ » قال قلت: اللهم إني أهل بما أهل به رسولك. قال: « فإن معي الهدي فلا تحل » قال: فكان جماعة الهدي الذي قدم به علي من اليمن والذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم مائة. قال فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدي.فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج. وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر. ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع في الجاهلية.
فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له فأتى بطن الوادي فخطب الناس وقال: « إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ودماء الجاهلية موضوعة وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة ابن الحارث كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضع ربانا ربا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف. وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله .وأنتم تسألون عني، فما أنتم قائلون ؟ » قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس « اللهم اشهد ! اللهم اشهد » ثلاث مرات. ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئا،ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات وجعل حبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص وأردف أسامة خلفه ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شنق للقصواء الزمام حتى أن رأسها ليصيب مورك رحله ويقول بيده اليمنى « أيها الناس السكينة السكينة » كلما أتى حبلا من الحبال أرخى لها قليلا حتى تصعد حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئا ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر وصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعاه وكبره وهلله ووحده فلم يزل واقفاً حتى أسفر جدا فدفع قبل أن تطلع الشمس وأردف الفضل بن عباس وكان رجلاً حسن الشعر أبيض وسيماً فلما دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم مرت به ظعن يجرين فطفق الفضل ينظر إليهن فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على وجه الفضل فحول الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر فحول رسول الله صلى الله عليه وسلم يده من الشق الآخر على وجه الفضل، يصرف وجهه من الشق الآخر ينظر حتى أتى بطن محسر فحرك قليلاً ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى ، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها، مثل حصى الخذف. رمى من بطن الوادي ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثاً وستين بيده ثم أعطى علياً فنحر ما غبر وأشركه في هديه ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت فأكلا من لحمها وشربا من مرقها ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفاض إلى البيت ،فصلى بمكة الظهر فأتى بني عبد المطلب يسقون على زمزم فقال: « انزعوا بني عبد المطلب ! فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم » فناولوه دلوا فشرب منه »(4).
شرح الحديث
قال جابر رضي الله عنه : « إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث تسع سنين لم يحج ثم أذن في الناس في العاشرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم ويعمل مثل عمله فخرجنا معه ».
قوله: « فخرجنا معه » كان ذلك في الخامس والعشرين من ذي القعدة في يوم السبت بعد أن أعلم الناس في خطبة الجمعة كيف يحرمون وسئل ماذا يلبس المحرم وأوضح للناس مبادئ النسك. وبقي في ذي الحليفة وبات بها وفي اليوم التالي اغتسل ولبس ثياب إحرامه ثم أحرم.
وقوله: « حتى أتينا ذا الحليفة فولدت أسماء » أتى بحرف (الفاء) لأنها معطوفة على جملة هي جواب الشرط يعني: حتى إذا أتينا ذا الحليفة نزل وصار كذا وكذا فولدت.
وذو الحليفة ميقات أهل المدينة وتعرف الآن بأبيار علي وهي مكان بينه وبين المدينة نحو تسعة أميال وبينه وبين مكة عشر مراحل وسمي بذي الحليفة لكثرة هذا الشجر فيه وهي شجرة الحَلْفَاءِ وهي معروفة.
وقوله:« فولدت أسماء بنت عميس » وهي زوجة أبي بكر رضي الله عنه ولدت محمد بن أبي بكر فأرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم كيف تصنع فقال لها: « اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي » فأمرها بالاغتسال للإحرام وليس لرفع الحدث لأن الحدث لازال باقيا وأمرها أن تستثفر بثوب يعني تتعصب به وتشد عليها ثوبا حتى لا يخرج شيء من هذا الدم.
وقوله: « وأحرمي » وأطلق لها الإحرام وقد أحرم الناس من ذي الحليفة على وجوه ثلاثة منهم من أحرم بالحج ومنهم من أحرم بالعمرة ومنهم من أحرم بالحج والعمرة. ولم يقل لها النبي صلى الله عليه وسلم: « افعلي ما يفعل الحاج » كما قال لعائشة رضي الله عنها لأنها إنما أرسلت تسأل عن قضية معينة وهي الإحرام كيف تحرم؟.
وقد أصابها ما أصابها ولم تسأله عن بقية النسك ولهذا أخطأ ابن حزم (5) رحمه الله حيث قال: إن النفساء يجوز لها أن تطوف بالبيت بخلاف الحائض واستدل لقوله بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله عنها: « افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت »(6).
ولو كان الطواف بالبيت ممنوعا بالنسبة للنفساء لبينه النبي صلى الله عليه وسلم فأجاب الجمهور بأن المرأة لم تسأل عما تفعل في النسك وإنما تسأل ماذا تصنع عند الإحرام فبين لها النبي صلى الله عليه وسلم كيف تصنع.
وقوله: « وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد » يعني مسجد ذي الحليفة.
وقوله: « ثم ركب القصواء » هو لقب ناقته وله ناقة تسمى العضباء وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في أول زاد المعاد(7) ما يلقب من دوابه صلوات الله وسلامه عليه.
وقوله: « حتى إذا استوت به على البيداء » يعني علت به على البيداء. والبيداء جبل صغير طرف ذي الحليفة.
وقوله: « نظرت إلى مد بصري بين يديه من راكب وماش وعن يمينه مثل ذلك وعن يساره مثل ذلك ومن خلفه مثل ذلك » أي أنهم كثير وقد قدروا بنحو مائة ألف الذين حجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني لم يبق من الصحابة رضي الله عنهم إلا أربعة وعشرون ألفا وإلا فكلهم حجوا معه لأنه أعلن عليه الصلاة والسلام للناس أنه سيحج فقدم الناس كلهم من أجل أن ينظروا إلى حج النبي صلى الله عليه وسلم ويقتدوا به.
وقوله « وهو يعرف تأويله » المراد بالتأويل هنا التفسير فإن أعلم الخلق بمعاني كلام الله تعالى هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا قال العلماء رحمهم الله يرجع في التفسير إلى القرآن الكريم ثم إلى السنة ثم إلى أقوال الصحابة ثم إلى كلام التابعين الذين أخذوا عن الصحابة رضي الله عنهم.
وقوله:« ثم أهل بالتوحيد » أي رفع صوته بالتوحيد قائلا:
« لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك » رفع صوته بهذه الكلمات العظيمة التي سـماها جابررضي الله عنه توحيداً لأنـها تضمنت التوحيد والإخلاص.
ولبيك كلمة إجابة والدليل على هذا ما ورد في الصحيح « أن الله تعالى يقول يوم القيامة: يا آدم فيقول: لبيك »(8) وتحمل معنى الإقامة من قولهم ألبَّ بالمكان: أي أقام فيه فهي متضمنة للإجابة والإقامة. الإجابة لله والإقامة على طاعته ولهذا فسرها بعضهم بقوله: لبيك أي أنا مجيب لك مقيم على طاعتك وهذا تفسير جيد.
فإذا قال قائل: أين النداء من الله حتى يلبيه المحرم ؟
قلنا: هو قوله تعالى ) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً ((9) أي أعلم الناس بالحج أو ناد فيهم بالحج و ) يَأْتُوكَ رِجَالاً ( أي: على أرجلهم وليس المعنى ضد الإناث والدليل على أنهم على أرجلهم ما بعدها ) وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (.
وهذه قاعدة مفيدة في التفسير ( فإنه قد يعرف معنى الكلمة بما يقابلها ).
ومثلها قوله تعالى: وهو أخفى من الآية التي معنا: ) فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً ((10)فمعنى ثبات: متفرقون مع أن ثبات يبعد جدا أن يفهمها الإنسان بهذا المعنى لكن لما ذكر بعدها ) أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً ( علم أن المراد بالثبات المتفرقون.
والتثنية في التلبية هل المقصود بها حقيقة التثنية أي أجبتك مرتين أو المقصود بها مطلق التكثير؟
الجواب: المقصود بها الثاني لأن المعنى إجابة بعد إجابة وإقامة بعد إقامة فالمراد بها مطلق التكثير أي: مطلق العدد وليس المراد مرتين فقط.
ولهذا قال النحويون: إنها ملحقة بالمثنى وليست مثنى حقيقة لأنه يراد بها الجمع والعدد الكثير.
ولماذا جاءت بالياء الدالة على أنها منصوبة ؟
قالوا: لأنها مصدر لفعل محذوف وجوبا لا يجمع بينه وبينها والتقدير ألببت إلبابين لك.
ألببت يعني: أقمت بالمكان إلبابين.
لكن حصل فيها حذف حرف الهمزة وصارت لبابين بعد حذف الهمزة.
ثم قيل: تحذف أيضا الباء الثانية فنقول لبيك والياء علامة للإعراب.
وقوله: « اللهم » معناها: يا الله لكن حذفت ياء النداء وعوض عنها الميم وجعلت الميم أخيرا ولم تكن في مكان الياء تبركا بذكر اسم الله ابتداءً وعوض عنها الميم لأن الميم أدل على الجمع ولهذا كانت الميم من علامات الجمع.
فكأن الداعي جمع قلبه على ربه عز وجل لأنه يقول يا الله.
قوله: « لبيك » الثانية من باب التوكيد اللفظي ولم يتغير عن لفظ الأول لكن له معنى جديد فيكرر ويؤكد أنه مجيب لربه مقيم على طاعته: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك ، لأنك تجيب الله عز وجل وكلما أجبته ازددت إيماناً به وشوقاً إليه فكان التكرير مقتضى الحكمة ولهذا ينبغي لك أن تستشعر - وأنت تقول: لبيك - نداء الله عز وجل لك وإجابتك إياه لا مجرد كلمات تقال.
وقوله « لا شريك لك » أي: لا شريك لك في كل شيء وليس في التلبية فقط لأنه أعم ، أي: لا شريك لك في ملكك ولا شريك لك في ألوهيتك ولا شريك لك في أسمائك وصفاتك ولا شريك لك في كل ما يختص بك.
ومنها إجابتي هذه الإجابة فأنا مخلص لك فيها، ما حججت رياءً ولا سمعة ولا للمال ولا لغير ذلك إنما حججت لك ولبَّيت لك فقط.
وقوله: « لا شريك لك » إعرابها: لا نافية للجنس ، وشريك: اسمها ، ولك خبرها ، والنافية للجنس أعم من النافية لمطلق النفي لأن النافية للجنس تنفي أي شيء من هذا بخلاف ما إذا قلت لا رجلٌ في البيت بالرفع فهذه ليست نافية للجنس بل هذه لمطلق النفي.
ولهذا يجوز أن تقول لا رجلٌ في البيت بل رجلان ، لكن لو قلت: لا رجلَ في البيت بل رجلان صاح عليك العالمون بالنحو وقالوا: هذا غلط لا يصح أن تقول لا رجلَ في البيت بل رجلان فتنفي الجنس أولا ثم تعود وتثبت ولكن إن شئت فقل لا رجلَ في البيت بل أنثى.
وقوله « إن الحمد والنعمة لك » يقال: بكسر همزة إن ورويت بالفتح. فعلى رواية فتح الهمزة « أن الحمد لك » تكون الجملة تعليلية أي: لبيك لأن الحمد لك فصارت التلبية مقيدة بهذه العلة أي: بسببها والتقدير لبيك لأن الحمد لك.
أما على رواية الكسر: « إن الحمد لك » فالجملة استئنافية وتكون التلبية غير مقيدة بالعلة بل تكون تلبية مطلقة بكل حال ، ولهذا قالوا: إن رواية الكسر أعم وأشمل فتكون أولى أي: أن تقول: إن الحمد والنعمة لك، ولا تقل: أن الحمد والنعمة لك ، ولو قلت ذلك لكان جائزاً.
والحمد والمدح يتفقان في الاشتقاق أي في الحروف دون الترتيب ح- م - د موجودة في الكلمتين فهل الحمد هو المدح أو بينهما فرق ؟
الجواب: الصحيح أن بينهما فرقاً عظيماً لأن الحمد مبني على المحبة والتعظيم.
والمدح لا يستلزم ذلك فقد يبنى على ذلك وقد لا يبنى وقد أمدح رجلاً لا محبة له في قلبي ولا تعظيم ولكن رغبة في نواله فيما يعطيني مع أن قلبي لا يحبه ولا يعظمه.
أما الحمد فإنه لا بد أن يكون مبنياً على المحبة والتعظيم ولهذا نقول في تعريف الحمد: هو وصف المحمود بالكمال محبةً وتعظيماً ، ولا يمكن لأحد أن يستحق هذا الحمد على وجه الكمال إلا الله عز وجل.
وقول بعضهم: الحمد هو الثناء بالجميل الاختياري، أي: أن يثني على المحمود بالجميل الاختياري. ويفعله اختياراً من نفسه ، تعريف غير صحيح، يبطله الحديث الصحيح: « أن الله قال: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، فإذا قال: الحمد لله رب العالمين ، قال: حمدني عبدي ، وإذا قال: الرحمن الرحيم قال: أثنى عليَّ عبدي »(11) فجعل الله تعالى الثناء غير الحمد لأن الثناء تكرار الصفات الحميدة ، وأل في الحمد للاستغراق ، أي: جميع أنواع المحامد لله وحده ، المحامد على جلب النفع وعلى دفع الضرر ، وعلى حصول الخير الخاص والعام ، كلها لله على الكمال كله.
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في كتابه «بدائع الفوائد»(12)بحثاً مستفيضاً حول الفروق بين ( المدح - والحمد ) وكلمات أخرى في اللغة العربية تخفى على كثير من الناس ، وقال كان شيخنا- ابن تيمية - إذا تكلم في هذا أتى بالعجب العجاب ولكنه كما قيل:
تألق البرق نجدياً فقلت له.... إليك عني فإني عنك مشغول
أي أن شيخ الإسلام رحمه الله مشغول بما هو أهم من البحث في كلمة في اللغة العربية، وأسرار اللغة العربية.
وقوله: « النعمة » أي الإنعام ، فالنعمة لله.
وقوله: « النعمة لك » كيف تتعدى باللام ؟ مع أن الظاهر أن يقال: النعمة منك ؟
الجواب: النعمة لك يعني التفضل لك فأنت صاحب الفضل.
وقوله: « والملك لا شريك لك » الملك شامل لملك الأعيان وتدبيرها وهذا تأكيد بأن الحمد والنعمة لله لا شريك له فإذا تأملت هذه الكلمات وما تشتمل عليه من المعاني الجليلة وجدتها أنها تشتمل على جميع أنواع التوحيد وأن الأمر كما قال جابر رضي الله عنه « أهلَّ بالتوحيد ». والصحابة رضي الله عنهم أعلم الناس بالتوحيد.
فقوله « الملك » من توحيد الربوبية ، والألوهية من توحيد الربوبية أيضا لأن إثبات الألوهية متضمن لإثبات الربوبية ، وإثبات الربوبية مستلزم لإثبات الألوهية ولهذا لا تجد أحداً يوحد الله في ألوهيته إلا وقد وحده في ربوبيته ، لكن من الناس من يوحد الله في ربوبيته ولا يوحده في ألوهيته وحينئذ نلزمه ونقول: إذا وحدت الله في الربوبية لزمك أن توحده في الألوهية ولهذا فإن عبارة العلماء رحمهم الله محكمة:حيث قالوا ( توحيد الربوبية مستلزم لتوحيد الألوهية وتوحيد الألوهية متضمن لتوحيد الربوبية ).
ونأخذ توحيد الأسماء والصفات من قوله « إن الحمد والنعمة ».
فالحمد: وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم.
والنعمة من صفات الأفعال ، فقد تضمنت توحيد الأسماء والصفات.
ومن أين نعرف أنه بلا تحريف ، ولا تعطيل ، ولا تكييف ، ولا تمثيل؟
الجواب: من قوله « لا شريك لك » لأن التمثيل شرك والتعطيل شرك أيضا والمعطل لم يعطل إلا حين اعتقد أن الإثبات تمثيل فمثَّل أولا وعطَّل ثانيا والتحريف والتكييف متضمنان التمثيل والتعطيل.
وبهذا تبين أن هذه الكلمات العظيمة مشتملة على التوحيد كله ومع الأسف أنك تسمع بعض الناس في الحج أو العمرة يقولها وكأنها أنشودة ، لا يأتون بالمعنى المناسب تقول: ( لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك ).
لكنهم يقفون على ( إن الحمد والنعمة لك ) ثم يقولون: ( والملك لا شريك لك ).
مسألة: فهل لنا أن نزيد على ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من التلبية التي رواها جابر رضي الله عنه ؟
نقول: نعم فقد روى الإمام أحمد في المسند: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: « لبيك إله الحق » (13) و « إله الحق » من إضافة الموصوف إلى صفته أي: لبيك أنت الإله الحق.
وكان ابن عمر رضي الله عنهما يزيد: « لبيك وسعديك ، والخير في يديك ، والرغباء إليك والعمل »(14).
فلو زاد الإنسان مثل هذه الكلمات فلا بأس ، اقتداء بعبدالله بن عمر رضي الله عنهما ، لكن الأولى ملازمة ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهل لهم أن يكبروا بدل التلبية إذا كان في وقت التكبير كعشر ذي الحجة ؟
الجواب: نعم، لقول أنس رضي الله عنه « حججنا مع النبي صلى الله عليه وسلم منا المكبر ومنا المهل » (15) وهذا يدل على أنهم ليسوا يلبون التلبية الجماعية ولو كانوا يلبون التلبية الجماعية لكانوا كلهم مهلين أو مكبرين لكن بعضهم يكبر ، وبعضهم يهل ، وكل يذكر ربه على حسب حاله.
مسألة: قال العلماء رحمهم الله: وينبغي أن يذكر نسكه في التلبية ، فإذا كان في العمرة يقول: لبيك اللهم عمرة ، وفي الحج: لبيك اللهم حجاً ، وفي القران: لبيك اللهم عمرة وحجاً.
ثم قال جابر رضي الله عنه : « حتى إذا أتينا البيت » يعني الكعبة.
وقوله: « استلم الركن » أي الحجر الأسود. وأطلق عليه اسم الركن لأنه في الركن، والاستلام قال العلماء رحمهم الله أن يمسحه بيده وليس أن يضع يده عليه لأن الوضع ليس فيه استلام بل لابد من المسح، والمسح يكون باليد اليمنى لأن اليد اليمنى تقدم للإكرام والتعظيم.
وهل يقبله ؟ نقول: نعم لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقبله(16) لكن يقبله محبةً لله عز وجل وتعظيماً له لا محبةً للحجر لكونه حجراً ولا يتبرك به أيضاً كما يصنعه بعض الجهال فيمسح يده بالحجر الأسود ثم يمسح بها بدنه أو يمسح صبيانه الصغار تبركاً به فإن هذا من البدع.
ولهذا لما قبّل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه الحجر الأسود قال: « إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك »(17) فأفاد رضي الله عنه بهذا أنه مجرد تعبد واتباع للرسول صلى الله عليه وسلم. إذاً فتقبيلنا للحجر الأسود هو محبةٌ لله عز وجل وتعظيمٌ له ومحبة للقرب منه سبحانه وتعالى. فإن شق الاستلام والتقبيل فإنه يستلمه بيده ويقبل يده(18).
وهذا بعد استلامه ومسحه لا أنه يقبل يده بدون مسح وبدون استلام فإن شق اللمس أشار إليه(19). وإذا أشار إلـيه فإنه لا يقبل يده.
كل هذه الصفات وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم وهي مرتبة حسب الأسهل.
فأعلاها استلام اليد وتقبيل الحجر ثم استلام باليد مع تقبيلها، ثم استلام بعصاً ونحوه مع تقبيله إن لم يكن فيه أذية، والسنة إنما وردت في هذا للراكب فيما نعلم ثم إشارة.
فالمراتب صارت أربعاً تفعل أولاً فأول بلا أذية ولا مشقة.
مسألة: كيفية الإشارة ؟ هل الإشارة كما يفعل العامة أن تشير إليه كأنما تشير في الصلاة أي: ترفع اليدين قائلاً الله أكبر ؟ الجواب: لا بل الإشارة باليد اليمنى. كما أن المسح يكون باليد اليمنى. ولكن هل تشير وأنت ماشٍ والحجر على يسارك، أم تستقبله ؟ الجواب: روي عن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: « إنك رجل قوي فلا تزاحم فتؤذي الضعيف إن وجدت فرجة فاستلم وإلا فاستقبله وهلل وكبر»(20) قال: « وإلا فاستقبله » فالظاهر: أنه عند الإشارة يستقبله ولأن هذه الإشارة تقوم مقام الاستلام والتقبيل والاستلام والتقبيل يكون الإنسان مستقبلاً له بالضرورة لكن إن شق أيضاً مع كثرة الزحام فلا حرج أن يشير وهو ماشٍ.
ويقول عند محاذاته ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ومنه عند ابتداء الطواف « بسم الله والله أكبر »(21) « اللهم إيماناً بك وتصديقاً بكتابك ووفاءً بعهدك واتباعاً لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم »(22) كما كان ابن عمر رضي الله عنهما يقول ذلك.
أما في الأشواط الأخرى فإنه يكبر كلما حاذى الحجر اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم(23). إذاً الحجر الأسود له سنتان: سنة فعلية وسنة قولية.
وأما الركن اليماني فيستلمه بلا تقبيل ولا تكبير ولا إشارة إليه عند التعذر. لأن ذلك لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم. والقاعدة الفقهية الأصولية الشرعية: ( أن كل ما وجد سببه في عهد
صلى الله عليه وسلم ولم يفعله فالسنة تركه ) وهذا قد وجد سببه فالركن اليماني كان
صلى الله عليه وسلم يستلمه ولم يكن يكبر وعلى هذا فلا يسن التكبير عند استلامه.
مسألة: وهل يستلمهما في آخر شوط ؟
الجواب: يستلم الركن اليماني ولا يستلم الحجر الأسود لأنه إذا مر بالركن اليماني مر وهو في طوافه. وإذا انتهى إلى الحجر الأسود انتهى طوافه.ولهذا لا يستلم الحجر الأسود ولا يكبر أيضاً في آخر شوط. لأن التكبير تابع للاستلام ولا استلام الآن والتكبير في أول الشوط ، وليس في آخر الشوط.
مسألة: ماذا يقول بين الركن اليماني والحجر الأسود ؟
الجواب: يقول « ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ».
قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله: ( والمناسبة في ذلك أن هذا الجانب من الكعبة هو آخر الشوط وكان النبي صلى الله عليه وسلم يختم دعاءه غالبا بهذا الدعاء ).
وأما الزيادة « وأدخلنا الجنة مع الأبرار يا عزيز يا غفار » فهذه لم ترد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا ينبغي للإنسان أن يتخذها تعبداً لله لكن لو دعا بها لم ينكر عليه لأن هذا محل دعاء.
ولكن كونه يجعله مربوطا بهذه الجملة ( ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ) غير صحيح وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كـان يقول أيضاً: « اللهم إني أسألك العفو والعافية » ولكنه حديث ضعيف(24).
وقوله: « فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً » قال العلماء رحمهم الله: الرمل هو سرعة المشي مع مقاربة الخطا.
والظاهر أن مرادهم مع تقارب الخطا أي أن الإنسان لا يمد خطوه لأن العادة في الإنسان إذا أسرع تكون خطوته أبعد. لكن يسرع ولا يمد خطوه بل يكون طبيعيا وليس الرمل هو هز الكتفين كما يفعله الجهال.
« ثلاثاً » أي: ثلاثة أشواط « ومشى أربعاً » يعني أربعة أشواط مشى على عادته بدون إسراع. ويسن له الإضطباع في الطواف وهو : أن يجعل وسط ردائه تحت عاتقه الأيمن، وطرفيه على عاتقه الأيسر والحكمة من ذلك: الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم(25) وإظهار القوة والنشاط إذ هو أنشط للإنسان مما لو التحف والتف بردائه.
مسألة: وهل الإضطباع مثل الرمل يكون في الأشواط الثلاثة أو يكون في جميع الأشواط ؟
الجواب: نقول يكون في جميع الأشواط.
وقوله « ثم نفذ إلى مقام إبراهيم » يدل على أن هناك زحاما، وفي رواية ثم تقدم إلى مقام إبراهيم والجمع بينهما أنه نفذ متقدما إلى مقام إبراهيم ليصلي خلفه.
ومقام إبراهيم هو الحجر الذي كان إبراهيم عليه الصلاة والسلام يرقى عليه لما ارتفع جدار الكعبة.
وقوله: « فقرأ ) وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّى ( » قرأ ذلك في حال نفوذه إشارة إلى أنه إنما فعل ذلك امتثالا لأمر الله تعالى في قوله ) وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّى ((26) وهذا أمر مطلوب منا عندما نفعل العبادات أن نستشعر بأننا نقوم بها امتثالا لأمر الله تعالى لأن شعور الإنسان عندما يفعل العبادة بأنه يفعلها امتثالا لأمر الله تعالى فإن هذا مما يزيد في إيمانه ويجد لها لذة وهذه هي نية المعمول له. بخلاف الذي يفعل العبادة وهو غافل عن هذا المعنى فإن العبادة تكون كالعادة، ولهذا قال المتكلمون على النيات إن النية نوعان نية العمل ونية المعمول له والأخيرة أعظم مقاما من الأولى لأن نية العمل تأتي ضرورة فما من إنسان عاقل يقوم بعمل إلا وقد نواه وقصده حتى قال بعض العلماء رحمهم الله لو كلفنا الله عملاً بلا نية لكان من تكليف مالا يطاق. لكن المقام الأسنى والأعلى نية المعمول له التي تغيب عنا كثيراً.
وقوله تعالى: ) وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّى ( استدل بعض العلماء رحمهم الله باستشهاد النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الآية على أن ركعتي الطواف واجبة وهذا له حظ من النظر لأن النبي صلى الله عليه وسلم فسر به الآية الدالة على الوجوب للأمر بها ولهذا لا ينبغي للإنسان أن يدع الركعتين بعد الطواف.
وقوله « فجعل المقام بينه وبين البيت » المقام أي مقام إبراهيم جعله بينه وبين الكعبة.
وهذا يشعر بأن المقام في مكانه الحالي لأنه لو كان لاصقا بالبيت كما في الرواية المشهورة ما احتاج أن يقول جعل بينه وبين البيت لأن المقام لاصق بالبيت.
وهذه المسألة اختلف فيها المؤرخون وأكثر المؤرخين على أنه كان في أول الأمر لاصقا بالبيت ثم زحزح ولكن الذي يظهر أنه من الأصل في مكانه هذا.
ومقام إبراهيم جعل الله فيه آية وهي أثر قدمي إبراهيم عليه الصلاة والسلام وقد شهده أوائل هذه الأمة شهدوا أثر القدم ولكنه انمحى وزال لكثرة مسه من الناس. وقد أشار إلى هذا أبو طالب في قوله:
وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة... على قدميه حافيا غير ناعل(27)
وقوله: « فصلى » يعني ركعتين. واعلم أن المشروع في هاتين الركعتين التخفيف وأن يقرأ فيهما بـ ) قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ( و ) قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ( وأنه ليس قبلهما دعاء وليس بعدهما دعاء.
والحكمة من تخفيفهما أن تفسح المجال لمن هو أحق منك فالناس ينتهون من الطواف أرسالاً فإذا انتهى الطائفون وأنت حاجز هذا المكان تطيل الصلاة فمعناه أنك حجزت مكاناً لمن هو أحق منك فلا تطل الصلاة ثم إنه قد يكون المطاف مزدحما فيحتاج الطائفون إلى المكان الذي أنت فيه أيضا فمن ثم خفف النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة واختار أن يقرأ بعد الفاتحة بسورتي الكافرون و الإخلاص ) قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ( و ) قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ( لأن إمام الحنفاء هو صاحب هذا المقام وهو إبراهيم عليه الصلاة والسلام الذي قال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ((28).
والحكمة في قراءة هاتين السورتين أن فيهما التوحيد كله بنوعيه التوحيد الخبري والتوحيد الطلبي العملي فالتوحيد الخبري في ) قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ( والعملي الطلبي في ) قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (.
وهل للمقام دعاء ؟
الجواب: ليس للمقام دعاء ولا دعاء قبل الركعتين ولا بعدهما ولكن المشكلة أن مثل هذه البدع صارت كأنها قضايا مسلمة مشروعة حتى إن الحاج ليرى أن حجه ناقص إذا لم يفعل هذا وكل هذا بسبب تقصير العلماء أو قصورهم وإلا فمن الممكن أن يعطى هؤلاء الحجاج مناسك من بلادهم توجههم للطريق الصحيح.
وقوله: « ثم رجع إلى الركن فاستلمه » يعني استلم الحجر الأسود ولم يقبله ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أشار إليه وعلى هذا فيكون هنا استلام بلا تقبيل ولا إشارة إليه عند التعذر.
وقوله: « ثم خرج من الباب إلى الصفا » يعني بعد أن صلى الركعتين خلف المقام رجع إلى الركن فاستلمه ثم خرج من الباب أي من باب المسجد إلى الصفا ومن المعلوم أنه سيختار الباب الذي يلي الصفا. والصفا هو الجبل الذي يكون أمام الحجر الأسود من الكعبة أو يميل قليلا إلى الركن اليماني.
وهو جبل معروف يسمى جبل أبي قبيس(29).
وقوله: « فلما دنا من الصفا » يعني قرب منه. « قرأ ) إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ( أبدأ بما بدأ الله به ».
وفائدة هذه القراءة إشعار نفسه بأنه إنما اتجه إلى السعي امتثالاً لما أرشد الله إليه في قوله:) إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ( (30) وليعلم الناس أنهم إنما يسعون بين الصفا والمروة من أجل أنهما من شعائر الله ، وليعلم الناس أيضا أنه ينبغي للإنسان إذا فعل عبادة أن يشعر نفسه أنه يفعلها طاعة لله عز وجل كما لو توضأ الإنسان فينبغي أن يستشعر عند وضوئه أن يتوضأ امتثالا لقوله تعالى: ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ((31) الآية. ويشعر أيضا أنه يتوضأ كأن النبي صلى الله عليه وسلم أمامه يتبعه في وضوئه وهكذا جميع العبادات فإذا استشعر الإنسان عند فعل العبادة أنه يفعلها امتثالا لأمر الله فإنه يجد لها لذةً وأثراً طيباً.
وقوله: قرأ ) إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ( يحتمل أنه قرأ الآية كلها وكان السلف يعبرون ببعض الآية عن جميعها، ويحتمل أنه لم يقرأ إلا هذا فقط الذي هو محل الشاهد، وهو كون الصفا والمروة من شعائر الله وكون الصفا هو الذي يبدأ به، وهذا هو المتعين وذلك لأن الأصل أن الصحابة رضي الله عنهم ينقلون كل ما سمعوا وإذا لم يقل: حتى ختم الآية أو حتى أتم الآية فإنه يقتصر على ما نقل فقط.
وقوله ) مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ( الشعائر جمع شعيرة وهي النسك أو العبادة المتميزة عن غيرها بتعظيم الله عز وجل.
وقوله: « أبدأ بما بدأ الله به » لأن الله بدأ بالصفا فقال: ) إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ ( وفيه إشارة إلى أن الله إذا بدأ بشيء كان دليلاً على أنه مقدم إلا بدليل.
وقوله: « فرقي الصفا » أي: عليه وهذا الرقي ليس بواجب وإنما هو سنة وإلا لو وقف على حد الصفا من أسفل حصل المقصود لقوله تعالى ) فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا ( (32) وحد الواجب الآن هو حد هذه الأسياخ التي جعلوها للعربات وعلى هذا فلا يجب أن يصعد ويتقدم ولا سيما في أيام الزحام.
وقوله: « حتى رأى البيت » أي: الكعبة « فاستقبل القبلة فوحد الله وكبره وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ».
وقوله: « وحد الله » أي: نطق بتوحيده ولعله قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير الله أكبر. والنفي هنا نفي للإله الحق أي: لا إله حق إلا الله وأما الآلهة التي تعبد من دون الله فليست بحق كما قال تعالى ) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ ((33).
وقوله: « وكبره وقال لا إله إلا الله » يحتمل أنه زائد على قوله فوحد الله أو أنه تفسير له. لكن وردت السنة بأنه يكبر ثلاث تكبيرات ولكنه ليس كتكبير الجنازة كما يتوهم بعض العامة حيث يقول الله أكبر بيديه يشير بها كما يشير بها في الصلاة هذا خطأ. لكن يرفع يديه ويكبر ثلاثاً ويقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده.
وقوله: « وحده لا شريك له » وحده تأكيد للإثبات و « لا شريك له » تأكيد للنفي واستفدنا توحده بالملك من تقديم الخبر « له الملك » لأن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر. والملك يشمل ملك الذوات أي الأعيان وملك التصرف والله سبحانه وتعالى مالك لكل ما في السموات والأرض مالك للتصرف فيهما لا شريك له في ملكه ولا في تدبيره.
وقوله: « وله الحمد » يعني أنه يحمد على كمال صفاته وعلى كمال إنعامه و إحسانه وكذلك على كمال تصرفه وأفعاله. وأعقب به قوله « له الملك » ليفيد أن ملكه ملك يحمد عليه فما كل من ملك شيئا وتصرف فيه يحمد على تصرفه لكن الله عز وجل يحمد على ملكه وتصرفه.
وقوله: « وهو على كل شيء قدير » كل شيء فالله تعالى قادر عليه إن كان موجوداً فهو قادر على إعدامه وتغييره وإن كان معدوماً فهو قادر على إيجاده. والقدرة: صفة يتمكن بها من الفعل بدون عجز وهي أخص من القوة من وجه وأعم من وجه لأن القوة يوصف بها من له إرادة ومن لا إرادة له فيقال: حديد قوي وإنسان قوي وأما القدرة فلا يوصف بها إلا من كان ذا إرادة فيقال الإنسان قدير ولا يقال الحديد قدير لكن القوة أخص لأنها قدرة وزيادة ولهذا نقول: كل قوي ممن له قدرة فهو قادر ولا عكس.
وقوله: « لا إله إلا الله وحده » كرر ذلك لأن باب التوحيد أمر مهم ينبغي تكراره ليثبت ذلك في قلبه وهو مع ذلك يؤجر عليه.
وقوله: « أنجز وعده » يعني: بنصر المؤمنين فأنجز للرسول صلى الله عليه وسلم ما وعده قال الله تعالى ) لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ ( (34)
وقوله: « ونصر عبده » هذا اسم جنس يشمل كل عبد من عباد الله قائم بأمر الله فإنه منصور قال الله تعالى ) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ((35).
وقوله: « وهزم الأحزاب وحده » الأحزاب جمع حزب وهم الطوائف الذين تحزبوا على الباطل وتجمعوا عليه ) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ ((36).
فهزمهم الله وحده ومثال على ذلك قصة الأحزاب الذين تجمعوا لحرب النبي صلى الله عليه وسلم وحاصروه في المدينة وهم نحو عشرة آلاف نفر ومع ذلك هزمهم الله وحده أرسل عليهم ريحاً وجنوداً فقلقلتهم حتى انهزموا. وهل المراد بهزيمة الأحزاب في قوله « وهزم الأحزاب وحده » ما جرى في عام الخندق أو ما هو أعم !؟ نقول ما هو أعم.
وقوله: « ثم دعا بين ذلك قال مثل هذا ثلاث مرات » يعني قال هذا الذكر ثم يدعو ثم يقوله مرة أخرى ثم يدعو ثم يقوله مرة ثالثة ثم ينزل لأنه قال: « ثم دعا بين ذلك » والبينية تقتضي أن يكون محاطاً بالذكر من الجانبين فيكون الدعاء مرتين والذكر ثلاث مرات.
وقوله: « ثم نزل إلى المروة » أي مشى إلى المروة متجهاً إليها.
والمروة هي الجبل المعروف بقعيقعان(37) وهما جبلان معروفان في مكة أحدهما أبو قبيس والثاني قعيقعان.
وقوله: « حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى » بطن الوادي هو مجرى السيل ومكانه ما بين العلمين الأخضرين الآن وكان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مسيل المياه النازلة من الجبال.
وقوله: « سعى » أي: ركض ركضاً شديداً حتى إن إزاره لتدور به من شدة السعي.
وقوله: « حتى إذا صعدتا » يعني ارتفع عن بطن الوادي « مشى حتى أتى المروة » وإنما فعل ذلك اقتداءً بأم إسماعيل رضي الله عنها فإن أم إسماعيل لما وضعها إبراهيم عليه الصلاة والسلام هي وولدها في هذا المكان وجعل عندهما ماء وتمرا فجعلت الأم تأكل من التمر وتشرب من الماء وترضع الطفل فنفد التمر والماء وجاعت الأم وعطشت ونقص لبنها فجاع الطفل فجعل الطفل يصيح ويتلوى من الجوع فأمه من أجل الأمومة رحمته وخرجت إلى أدنى جبل إليها تستمع لعلها تسمع أحداً أو ترى أحدا فصعدت الصفا وجعلت تستمع وتنظر فلم تجد أحداً فرأت أقرب جبل إليها بعد الصفا المروة فاتجهت إليه تمشي وهي تنظر إلى الولد فلما نزلت بطن الوادي احتجب الولد عنها فجعلت تركض ركضا شديدا من أجل أن تلاحظ الولد فلما صعدت من المسيل مشت حتى أتت المروة ففعلت ذلك سبع مرات وهي في أشد ما تكون من الشدة لا بالنسبة إليها جائعة عطشى فقط ولا بالنسبة إلى الولد فقط وعند الشدة يأتي الفرج فبعث الله عز وجل جبريل فضرب بعقبه أو جناحه الأرض في مكان زمزم فنبع الماء بشدة فجعلت أم إسماعيل تحجر الماء تخشى أن يضيع من شدة شفقتها قال النبي صلى الله عليه وسلم يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم لكانت عيناً معيناً. ولكن لا شك أن هذا من حكمة الله عز وجل ووجه ذلك أنه لو كانت عينا معينا في هذا المكان وقرب الكعبة لصار فيها مشقة على الناس ولكن من نعمة الله عز وجل أن صار الأمر كما أراد الله تبارك وتعالى.
لكنها حجرتها ثم شربت من هذا الماء فكان هذا الماء طعاماً وشراباً و جعلت تسقي الولد والحديث ذكره البخاري مطولا (38) فهذا أصل السعي كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فلذلك سعى الناس.
والمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لما انصبت قدماه في بطن الوادي سعى من أجل أن الناس إنما سعوا من أجل سعي أم إسماعيل.
وقوله: « ففعل على المروة كما فعل على الصفا » لم يذكر جابر رضي الله عنه ماذا يقوله
صلى الله عليه وسلم في بقية سعيه ولكن قد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن السعي لذكر الله فقال: « إنما جعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله »(39). فأي ذكر تذكر الله به فهو خير سواء بالقرآن أو بالتسبيح أو بالتهليل أو بالتكبير أو بالتحميد أو بالدعاء فأي شيء تذكر الله به فإنك قد حصلت على المطلوب.
وهل ينافي ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؟ الجواب: لا، لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الذكر لأنه تذكير للخلق بما شرع الله لهم.
وقوله: « ففعل على المروة كما فعل على الصفا » يعني من الصعود والدعاء والمقام، فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك سبع مرات فلما كان آخر طواف على المروة نادى وهو على المروة وأمر الناس من لم يسق الهدي منهم أن يجعلوا نسكهم عمرة فجعلوا يراجعون النبي صلى الله عليه وسلم حتى قالوا: الحل كله يا رسول الله قال: الحل كله قالوا: نخرج إلى منى وذكر أحدنا يقطر منياً يعني من جماع أهله قال: افعلوا ما آمركم به فلولا أن معي الهدي لأحللت معكم فأحلوا رضي الله عنهم. أما النبي صلى الله عليه وسلم ومن ساق الهدي فلم يحلوا ثم نزلوا بالأبطح(40) في ظاهر مكة فلما كان يوم التروية خرجوا إلى منى فمن كان منهم باقياً على إحرامه فهو مستمر في إحرامه ومن كان قد أحل أحرم بالحج من جديد.
وقوله: « لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة » هل يقال أن النبي صلى الله عليه وسلم تمنى خلاف الواقع أو يقال إن هذا خبر مجرد الجواب: الثاني. فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يتمنَ لأنه يعلم أن هذا هو الأفضل أعني قرانه، لكنه قال للصحابة رضي الله عنهم هكذا لتطيب نفوسهم ويحلوا برضى.
وقوله: « فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا رسول الله ألعامنا هذا أم لأبد ؟ » قوله « فقام سراقة » كان هذا عند المروة والسياق الذي في صحيح البخاري(41) رحمه الله كان عند العقبة فما الجمع بينهما ؟ نقول الجمع بينهما: ربما أن سراقة رضي الله عنه أعاد السؤال مرة ثانية إما لأنه نسي ما قاله عند المروة وإما لزيادة التأكد وهذا يقع.
وقوله: « وقدم علي من اليمن ببدن النبي صلى الله عليه وسلم فوجد فاطمة رضي الله عنها ممن حل ولبست ثياباً صبيغاً، واكتحلت فأنكر ذلك عليها، فقالت: إن أبي أمرني بهذا قال: فكان علي يقول بالعراق: فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم محرشاً على فاطمة للذي صنعت مستفتياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكرت عنه، فأخبرته أني أنكرت ذلك عليها، فقال: « صَدَقتْ صَدَقتْ. ماذا قلت حين فَرضْتَ الحج » قال: اللهم إني أهل بما أهل به رسولك ».
قوله: « قدم علي من اليمن » أي وصل إلى مكة والنبي صلى الله عليه وسلم في الأبطح. والسبب في ذهابه إلى اليمن لأن النبي صلى الله عليه وسلم أرسله إلى اليمن للدعوة إلى الله وأخذ الزكوات منهم وغير ذلك.
وقوله: « ببدن النبي صلى الله عليه وسلم » أي ببعضها لأن بعضها جاء بها علي رضي الله عنه وبعضها جاء بها
صلى الله عليه وسلم كما يأتي في آخر الكلام.
وقوله: « فوجد فاطمة رضي الله عنها ممن حل ولبست ثياباً صبيغاً » أي ثوباً جميلاً وكأنها متهيئة لزوجها رضي الله عنهما.
وقوله: « فأنكر ذلك عليها » لأنهم لم يكونوا يعرفون العمرة في أشهر الحج.
وقوله: « فقالت: إن أبي أمرني بهذا » أي أخبرته أن أباها صلى الله عليه وسلم أمرها بهذا.
وقوله: « فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم محرشاً على فاطمة للذي صنعت مستفتياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكرت عنه » التحريش في الأصل التهييج والإغراء كما يحرش بين البهائم وكما يحرش بين الناس ولهذا يقال حرش فلان على فلان أي هيج غيره عليه وأغراه به. فذهابه للنبي صلى الله عليه وسلم لغرضين الغرض الأول التحريش على فاطمة رضي الله عنها لماذا تحل، والثاني الاستفتاء هل عملها صحيح أو غير صحيح ؟
وقوله: « فأخبرته أني أنكرت ذلك عليها فقال: صدقت صدقت » يعني أمرتها بهذا وكرر ذلك توكيدا لأن المقام يقتضي ذلك. فقوله « صدقت » أي فيما قالت أني أمرتها به. وإنما أمرها النبي صلى الله عليه وسلم كما أمر غيرها لأنها لم تسق الهدي فحلت.
وقوله: « ماذا قلت حين فرضت الحج » أي سأل النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه ماذا قال حين فرض الحج قال قلت اللهم إني أهل بما أهل به رسولك قال: إن معي الهدي فلا تحل.
ففي هذا دليل على مسألة خاصة بعلي رضي الله عنه، وعلى مسألة عامة للمسلمين.
أما المسألة الخاصة بعلي فهو ذكاؤه رضي الله عنه وفطنته وحرصه على التأسي برسول الله صلى الله عليه و
30.10.10 10:45 من طرف 24akhbar