الخطب المكتوبة منحة الإسراء والمعراج
صالح بن عبد الله الهذلول
ملخص الخطبة
1- منحة الإسراء والمعراج وقعت حين بلغت الدعوة أصعب مراحلها. 2- الظروف الصعبة التي سبقت حادثة الإسراء والمعراج. 3- وصف حادثة الإسراء والمعراج كما وصفها النبي . 4- فضل الصلوات الخمس. 5- دعوة للخشوع في الصلاة. 6- علو منزلة النبي ورفعة قدره. 7- اختلاف العلماء في تعيين ليلة الإسراء والمعراج. 8- عدم مشروعية الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج لوجهين اثنين.
الخطبة الأولى
أما بعد: أيها المؤمنون، حادثة الإسراء والمعراج لنبينا محمد تواترت بها الروايات عن خمسٍ وعشرين صحابيًا نقلوها عن نبيهم ، وإنها نعمة انفرد بها ، وتكريم خصه الله تعالى به من بين سائر رسله وأنبيائه صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وجاء هذا التكريم للنبي الكريم ونال هذه المنحة من مولاه بعد أن بلغت الدعوة أصعب مراحلها وأقسى أيامها، ووصلت عداوة المناوئين له الذروة في إلحاق الأذى به وأصحابه حتى كاد الأمر يتجاوز قوة احتماله.
عمُّه الذي كان يحميه ويدافع عنه مات، وزوجته الرؤوم خديجة رضي الله عنها التي كانت تواسيه وتسلّيه وتسرّي عنه ماتت، ففقد الحماية وفقد المؤانسة والقوم في طغيانهم يعمهون، فتحتم عليه البحث عن بدائل؛ فذهب إلى الطائف يعرض دعوته على ثقيف، إلا أن الرد جاء قاسيًا ومؤيِّسًا؛ رفضوا دعوته، وطردوه، وأغروا به سفهاءهم، وعاد طريدًا وحيدًا إلى بلدٍ أُخرج منها، ليقبل عليها خائفًا يترقب، ولم يستطع دخول مكة إلا بجوار رجل كافر هو المطعم بن عدي.
في هذه الأثناء وجو الدعوة ملبدٌ بسحبٍ من الأذى كثيفة وعلاماتُ وقرائن قحط الإجابة بادية على أهل مكة، هنا تفيض رحمة الله على عبده وأحبِّ خلقه إليه وأفضل الأنبياء كافة، تأتي منحة الإسراء والمعراج، وكان ذلك في السنة الثانية عشرة من البعثة.
جاء في الصحيحين أن النبي كان في بيته، فجاءه جبريل عليه السلام، فأخذه إلى المسجد الحرام، وفي الحجر ـ وهو جزء من الكعبة ـ فرج صدره، ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئٍ حكمة وإيمانًا فأفرغه في صدره، ثم أطبقه، ثم أسرى به إلى بيت المقدس على البراق، وهناك صلى بالأنبياء، ثم عرج به إلى السماء الدنيا، وتنقل من سماءٍ إلى التي تليها، وأثناء تنقله في السماوات التقى بالأنبياء: آدم في السماء الدنيا، وعيسى ويحيى بن زكريا في السماء الثانية، ويوسف في السماء الثالثة، وإدريس في الرابعة، وهارون في الخامسة، وموسى في السادسة، وإبراهيم في السابعة عليهم الصلاة والسلام، وسمع صريف أقلام الملائكة، وهناك فرض الله عليه خمسين صلاة في اليوم والليلة، فراجع ربه بمشورة من أخيه موسى عليه السلام حتى خُففت إلى خمس صلوات. ثم انطلق به جبريل حتى انتهى إلى سدرة المنتهى، وهي شجرة عظيمة جدًا فوق السماء السابعة، ينتهي إليها ما يعرج من الأرض، وينزل إليها ما ينزل من الله تعالى من الوحي وغيره.
أيها المؤمنون، لئن كان الرسول منح معراجًا في جسده وروحه إلى السماء وكشف الله له معاينة كثير من الآيات وعجائب الأرض والسماوات، فإن غيره من المسلمين لهم أيضًا حظ من هذا المعراج كلَّ يوم خمس مرات، لكنه معراج بالروح فقط، إنها الصلوات الخمس؛ يقف المسلم فيها بين يدي ربه. أخرج الإمام أحمد والترمذي بسند صحيح عن النبي قال: ((إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بهن))، فذكر منها: ((وآمركم بالصلاة، فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده ما لم يلتفت، فإذا صليتم فلا تلتفتوا))، وفي صحيح مسلم أن النبي كان يقول في ركوعه: ((خشع لك سمعي وبصري، ومخي وعظمي، وما استقلت به قدمي))، وفي صحيح مسلم أيضًا أن النبي قال: ((أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد))، ولا زال نبينا يأمر بالصلاة ويعلمها أصحابه حتى كانت آخر وصاياه قبل أن يفارق الدنيا، فقد أوصى الناس فقال: ((الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم)) كرر ذلك مرارًا. رواه البخاري.
إذا وقفت ـ أيها المسلم ـ بين يدي مولاك في الصلاة فتحقق أنه سبحانه مقبل بوجهه عليك، يسمعك ويراك، فاعبده بالإحسان كأنك تراه، ولا تلتفت عنه بعينك أو قلبك فينصرف وجهه عنك، تفكر وتدبر أن الصلاة شرعت وفرضت على نبينا حين عرج به إلى السماء، وتذكر أن الله تعالى خالقُ الدنيا والآخرة وما فيها، وعالم الغيب والشهادة، وأنه على كل شيء قدير، فاعرج بنفسك لمولاها، وأشغلها بتملقه ودعائه؛ لأن النفس لا بد أن تنشغل، فالصلاة أقوال وأفعال، فللأقوال معنى، وللأفعال مغزى، ولا تحرم نفسك من فيوضات الجليل الرحيم سبحانه ونعمه التي أودعها في الصلاة، ومن أعظمها وأجلها المناجاة بينك وبين السميع البصير وأنت تقرأ سورة الفاتحة، ليست الصلاة طقوسًا ولا حركاتٍ آلية لا يعقل لها معنى، وإنما هي مدرسة تربي المؤمنين على أنبل معاني الخير والحب والفضيلة في زحمة الحياة وصخبها وشرورها. إنها معراج الروح إلى الله تعالى في اليوم خمس مرات.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة: 45، 46].
الخطبة الثانيةالحمد لله، استقرت حكمته سبحانه أن السعادة والنعيم والراحة لا يوصل إليها إلا على جسر المشقة والتعب، ولا يُدخل إليها إلا من باب المكاره والصبر وتحمل المشاق؛ ولأجل ذلك حفت الجنة بالمكاره والنارُ بالشهوات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، عبد ربه حق العبادة حتى كأنه يراه، وجُعلت قرة عينه في الصلاة، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الحشر والتناد، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: أيها المؤمن، تذكر أنك عندما تريد أن تلقى مسؤولاً يفوقك بمنصبه تطلب المقابلة أولاً، فينظر في الطلب وموضوعه، ويحدّد الزمان والمكان، هذا إذا قُبل الطلب، وقد لا يقبل، أما مقابلة الحق سبحانه فهي بيد العبد زمانًا ومكانًا، لا ينهيها الله عز وجل حتى ينصرف العبد مختارًا. قال بكر بن عبد الله: يا ابن آدم، إذا شئت أن تدخل على مولاك بغير إذن وتكلمه بلا ترجمان دخلت عليه، قيل: وكيف ذلك؟ قال: تسبغ وضوءك، وتدخل محرابك، فإذا أنت قد دخلت على مولاك بغير إذن، فتكلمه بغير ترجمان.
معاشر المسلمين، يا أمة محمد ، تضافرت الروايات أن نبينا محمدًا صلى بالأنبياء إمامًا في بيت المقدس ليلة أسري به قبل عروجه إلى السماء، وجاء في خبر صححه الحافظ ابن كثير أنه صلى بهم بعد أن هبط من السماء؛ هبطوا معه تكريمًا له وتعظيمًا عند رجوعه من الحضرة الإلهية الجليلة، وإمامته الأنبياء دليل على جلالة قدره وعلو مرتبته وأنه أفضل الأنبياء وسيدهم، وهو دليل على دخول جميع الرسالات السماوية تحت رسالته، وانضواء الرسل كلهم بأقوامهم تحت لوائه، قال الله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ أي: بعد ذلك العهد والميثاق المؤكد بالشهادة من الله ومن رسله، فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ [آل عمران: 81، 82]، وهذا أبلغ بيان، ومن أقوى الأدلة على أن اليهود والنصارى وغيرهم من الأمم والأقوام الأخرى إن لم يتبعوا دين محمد ولم يؤمنوا به ويدخلوا فيه استحقوا الفسق الموجب للخلود في النار، وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ [آل عمران: 85].
أيها المؤمنون، لئن كان الإسراء والمعراج تم للنبي روحًا وجسدًا إلا أن معرفة تلك الليلة وتحديدها ـ أي: ليلة الإسراء والمعراج ـ لم يرد في حديث صحيح مقبول عنه أهل العلم بالحديث. واحتفال كثير من المسلمين في الأقطار الإسلامية بذكرى تلك الليلة مخالف للشرع من وجهين:
الوجه الأول: لأن المحتفلين يجزمون بتعيين تلك الليلة في السابع والعشرين من شهر رجب، وهذا لم يثبت بنقل صحيح شرعًا كما تقدم.
الوجه الثاني: لو ثبت تعيين وتحديد ليلة الإسراء والمعراج لم يجز لمسلم أن يخصها بشيء من الاحتفالات؛ لأن النبي لم يحتفل بها ولم يخصها بشيء، ولو كان ذلك دينًا وفعله النبي لنقله الصحابة إلى من بعدهم ووصل إلينا، فإنهم نقلوا عن نبيهم كل شيء تحتاجه الأمة، ولم يفرطوا في شيء من الدين، بل هم رضي الله عنهم السابقون لكل خير وفضيلة.
فاتقوا الله عباد الله، ودعوا وتجنبوا ما يقصيكم عن ربكم ويبعدكم عن سنة نبيكم وإن فعل ذلك آباءٌ ومشايخ وفضلاء هم عندنا محل احترام ومحبة وتقدير، لكن دين الله تعالى أحب إلينا من كل أحد، وما مات محمد إلا وقد كَمُل الدين وتم، فإياكم ومحدثات الأمور. احرصوا على ما ينفعكم، واعرجوا بالأرواح إلى ربكم بكثرة الصلاة والمحافظة عليها، فإنك ـ يا ابن آدم ـ ما ركعت لله ركعة أو سجدت سجدة إلا ازددت بها من الله قربًا ومحبة.
اللهم حبب إلينا الإيمان...