24 ساعة
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


 
24 ساعةالأخبارالرئيسيةأحدث الصورالمقالاتالتسجيلدخولالفيديو والمالتيمدياتابعنا على فيس بوك24 يوتيوبتابعنا على تويتر

 

 كتب إسلامية 2010 كتاب كيف ندعو الناس للشيخ محمد قطب

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
24akhbar

24akhbar



كتب إسلامية 2010 كتاب كيف ندعو الناس للشيخ محمد قطب Empty
02082010
مُساهمةكتب إسلامية 2010 كتاب كيف ندعو الناس للشيخ محمد قطب


كتب إسلامية 2010 كتاب كيف ندعو الناس للشيخ محمد قطب



مقدمة
الدعوة إلى الله تكليف دائم بالنسبة لهذه الأمة.
{ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (1) .
ذلك أنها أمة خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم ، التي تحمل رسالته من بعده، ورسالته صلى الله عليه وسلم موجهة إلى البشرية كافة، وإلى الزمن كله، من لدن بعثته إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وهي رسالة ذات شقين: شق موجه للذين لم يؤمنوا بهذا الدين بعد، لدعوتهم إلى الإيمان؛ وشق موجه للذين آمنوا، لتذكيرهم وترسيخ إيمانهم:
{ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } (2) .
{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ } (3) .
ولكن الأمة الإسلامية تمر اليوم بظروف خاصة، ربما لم تمر بها من قبل، فقد هبطت معرفتها بالإسلام إلى أدنى حد وصلت إليه في تاريخها كله، وأما ممارستها للإسلام فهي أدنى من ذلك بكثير!
_________
(1) سورة آل عمران: 104 .
(2) سورة الذاريات: 55 .
(3) سورة النساء: 136 .

ولذلك فإن مهمة الدعوة اليوم أخطر بكثير من مهمتها في الظروف السابقة، فلم تعد مجرد التذكير، بل أوشكت أن تكون إعادة البناء، الذي تهاوت أسسه وأوشكت أن تنهار، في الوقت الذي تداعت فيه الأمم على الأمة الإسلامية من كل جانب، كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم : « يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها)). قالوا: أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: ((بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله المهابة من صدور أعدائكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن)). قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: ((حب الدنيا وكراهية الموت » (1) .
وكلنا ثقة أن البناء سيعود بإذن الله، وسيعود شامخاً كما كان، والمبشرات كلها تشير إلى جولة جديدة للإسلام، ممكنة في الأرض، على الرغم من كل الحرب التي تشنها الجاهلية في الأرض كلها على الإسلام. ولكنها مهمة شاقة في الغربة الثانية للإسلام: « بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ » (2) . مهمة تحتاج إلى شغل فائق وبصيرة نافذة.
_________
(1) أخرجه أحمد وأبو داود
(2) أخرجه مسلم.

ففي الغربة الأولى كان الإسلام معلوماً عند الناس في أصوله العامة على الأقل، وهي الإيمان بالله الواحد والإيمان بالوحي والنبوة والإيمان بالبعث، سواء في ذلك من دخل في الدين الجديد، ومن وقف يحاربه أشد الحرب، ويرصد طاقته كلها لمحاولة القضاء عليه، وإنما كان سبب الغربة قلة المؤمنين به، وضعفهم وهوانهم على الناس، وكثرة الرافضين له، وطغيانهم في الأرض.
قال ورقة بن نوفل لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، حين أخبرته خديجة رضي الله عنها بقصة الوحي: « ليتني أكون فيها جذعاً حين يخرجك قومك! قال: ((أومخرجي هم؟)) قال: ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودي ! » (1) .
« وسأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم : إلى أي شيء تدعو الناس؟ قال: ((أدعوهم لـ لا إله إلا الله)). قال: قال هذا أمر لا تتركه لك العرب! »
أما في الغربة الثانية فالأمر مختلف، وإن كانت الغربة غربة في جميع الأحوال.
الإسلام اليوم غريب على أهله، فضلاً عن غربته على باقية الناس، وحين تعرضه عليهم على حقيقته يستوحشون منه، ويقولون لك: من أين جئت بهذا؟ ليس هذا هو الإسلام الذي نعرفه!
_________
(1) انظر كتب السيرة.

حين نقول للطائف حول الضريح، يتمسح به، ويطلب البركات من صاحبه المتوفى منذ سنين أو منذ قرون: أن هذا شرك لا يجوز! يقول لك: من أين جئت بهذا؟ إنك أنت الذي تريد أن تجرد الإسلام من روحانيته!
وحين تقول لمن يشرع بغير ما أنزل الله، ولمن يرضى بشرع غير شرع الله: هذا شرك. يقول لك: من أين جئت بهذا؟ هذا تطرف وجمود ورجعية! الدنيا تطورت! أو يقول لك على أقل تقدير: شرك دون شرك! شرك لا يخرج من الملة!
وحين تقول لأستاذ علم الاجتماع، وأستاذ علم النفس، وأستاذ التربية، وأستاذ التاريخ.. إن ما درستموه من علوم الغرب، وما تدرسونه لطلابكم مخالف للمفاهيم الإسلامية، وفي بعض الأحيان مصادم مصادمة صريحة للعقيدة، يقولون لك- إلا ما رحم بك-: ما للإسلام وهذه الأمور؟ تريدون أن تحشروا الإسلام في كل شيء؟ هذا علم، والإسلام دين! والدين لا دخل له بالعلم!
ومئات من الأمور. حين تعرض حقيقة الإسلام فيها للناس يستوحشون، وفي أقل القليل يستغربون، وتحتاج إلى جهد كبير لإقناعهم بأن هذا هو ما جاء من عند الله، وليس ما تصوروه هم على أنه الإسلام!
وذلك كله في مجال((المعرفة)). أما مجال الممارسة فالجهد المطلوب فيه قد يكون أشد!

إن المعرفة وحدها لا تكفي، وإن كانت هي البداية التي لا بد من البدء بها قبل كل شيء، وقد كانت الكلمة الأولى التي بدأ بها الوحي هي كلمة { اقْرَأْ } ، (1) ثم نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فترة قوله تعالى: { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ } (2) . والعلم- كما فهمه السلف الصالح رضوان الله عليهم- ليس مجرد المعرفة، إنما هو المعرفة التي تؤدي إلى العمل، ومن ثم انتقلت المعرفة من طور التعرف على الحقيقة إلى طور العمل بمقتضاها.
ولئن كان تعريف الناس بدقائق مفهوم لا إله إلا الله قد استغرق من جهد الرسول صلى الله عليه وسلم شيئاً غير قليل في غربة الإسلام الأولى، فإن الجهد الحقيقي الذي بذله رسول الله صلى الله عليه وسلم - في مكة خاصة- كان هو تربية المؤمنين الذين قبلوا الحق وآمنوا به، على مقتضيات لا إله إلا الله، مرحلة بعد مرحلة حتى استقاموا على الطريق، بدءاً بتربية القاعدة الصلبة الراسخة البنيان، ثم تربية سائر الناس.
واليوم- في غربة الإسلام الثانية- تواجه الدعوة ضرورة بذل الجهد في الأمرين معاً: التعريف والتربية.
_________
(1) سورة العلق: 1 .
(2) سورة محمد: 19 .

فالتعريف بالإسلام لقوم يعرفون بعضه ويجهلون بعضه، ويظنون في الوقت ذاته أنهم يعرفونه كله، مشكلة تحتاج إلى جهد ليس بالقليل. أما التربية- بالنسبة للقاعدة على الأقل- فمشكلة تحتاج إلى جهد أكبر؛ لتعدد مجالات التربية المطلوبة من جهة، ولأن النفوس لا تتخلى عن مألوفاتها بسهولة، ولا تستجيب استجابة فورية لكل ما يطلب منها من تكاليف. فضلاً عن كون المطلوب ليس مجرد بناء نفوس مؤمنة، بل إعداد شخصيات فائقة التكوين، تصلح لحمل المهمة الضخمة التي تواجهها.
ومن المهم- إلى الدرجة القصوى- أن نعرف كيف ندعو الناس. فالأزمة التي يمر بها العالم الإسلامي اليوم أزمة حادة، ربما كانت أشد أزمة مرت به في التاريخ. وتجمع الأعداء لحرب الإسلام، بما لم يسبقه من قبل تجمع بهذا الحجم وبهذا الإصرار. وحاجة البشرية إلى الإسلام اليوم لا تقل عن حاجتها إليه يوم أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وما لم نسر في طريق الدعوة على خطى مستبصرة، مستمكنة في ذات الوقت، فقد لا نصل إلى ما نهدف إليه، وقد يذهب الكثير من جهدنا بغير طائل حقيقي.

ولقد كان موضوع الدعوة يشغل تفكيري منذ أمد ليس بالقصير، فيرد على خاطري سؤال ملح: كيف ندعو الناس؟ ما الأسلوب الصحيح للدعوة؟ خاصة وأنا أرى في مسيرة الدعوة- بين الحين والحين- ما يبدو أنه تقصير في بعض الجوانب، أو تعجل في بعض الجوانب، أو انحراف في بعض الجوانب. فأقول في نفسي: إنه لا بد من مراجعة شاملة لمسيرة الدعوة خلال ما يزيد عن نصف قرن؛ حتى نستكمل ما وقع في مسيرتنا من نقص، ولا نكرر ما وقعنا فيه من أخطاء، وحتى نستفيد من عبرة الماضي لتقويم الحاضر، وتسديد العمل من أجل المستقبل، وتلك مهمة جادة يجب أن تشغل الدعاة في كل مرحلة من مراحل السير.
وفي هذه الصفحات، أحاول أن أعرض ما يجول في خاطري من أفكار في هذا الشأن، وهو أولاً وآخراً اجتهاد يخطئ ويصيب، أدعو الله أن يوفقني فيه إلى السداد: { إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } (هود : 88).
محمد قطب
تأملات في نشأة الجيل الأول
نحتاج أن نقف وقفات طويلة نتأمل فيها نشأة الجيل الأول؛ لأن فيها زاداً كاملاً لكل من أراد أن يدعو، أو يتحرك بهذا الدين في عالم الواقع، فقد صنع ذلك الجيل على عين الله سبحانه وتعالى، كما قال سبحانه لموسى عليه السلام : { وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } (طه : 39)، ونشأ على يدي أعظم مرب في تاريخ البشرية، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان جيلاً فريداً في تاريخ البشرية كله، يوجهه الله بالوحي، ويتابعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتربية والتوجيه، فاكتملت له كل وسائل النشأة الصحيحة في أعلى صورة، فأصبح كالدرس ((النموذجي))، الذي يلقيه الأستاذ ليعلم طلابه كيف يدرسون، حين يئول إليهم أمر التعليم.
ثم إن إرادة الله سبحانه وتعالى قد اقتضت أن يتم أمر هذا الدين على السنن الجارية - لا الخارقة- لحكمة أرادها الله، لكي لا يتقاعس جيل من الأجيال فيقول: إنما نصر الجيل الأول بالخوارق، وقد انقطعت الخوارق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم !

فما كان في هذا الدين من عناصر غير بشرية، فهو الوحي المنزل من عند الله، وذلك باق ومحفوظ بحفظ الله: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } (الحجر:9).
وهو بالنسبة للجيل الأول كالجيل الأخير، هو كلمة الله لهذه الأمة، وللبشرية كافة، تحمل حقيقة هذا الدين، وتحمل المنهج الرباني، الذي يريد الله من البشر، إلى قيام الساعة، أن يقيموا عليه حياتهم، ويؤسسوا عليه بنيانهم، سواء كان هو الكتاب المنزل، أو البيان الذي قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا الكتاب، بالسنة القولية أو العملية: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } (النحل: 44) . { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى }{ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } (النجم : 3-4).

أما قتال الملائكة مع المؤمنين في بدر، فلم يكن هو في ذاته الخارقة: { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } (الأنفال : 12) . فنزول الملائكة وتثبيتهم للبشر، لا يقتصر على معركة بدر، إنما قد يحدث بأمر الله في أية مناسبة: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ }{ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ } (فصلت : 30-31) .
إنما كانت الخارقة هي رؤية المؤمنين للملائكة وهي تقاتل معهم : { وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } (آل عمران : 126).

وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد اختص بها أهل بدر من دون المؤمنين، فقد كانت بدر حدثا كونياً لا يتكرر كل يوم : { يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ } (الأنفال : 41) . فهي التي كتبت التاريخ، وليس في كل يوم يكتب التاريخ . إنما تكتب منه سطور إثر سطور!
وفيما عدا هذه الخارقة التي اختص بها أهل بدر، وفيما عدا ما يختص بشخص الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقد جرت أمور الإسلام كلها على السنة الجارية، من استضعاف في المبدأ، وابتلاء وصبر وتمحيص، ثم تمكين على تخوف، ثم تمكين على استقرار وقوة، ثم انتشار في الأرض. لذلك فإن الدروس المستفادة من نشأة الجيل الأول هي دروس دائمة، لا تتعلق بالنشأة الأولى وحدها، وإنما هي قابلة للتطبيق في كل مرة تتشابه فيها الظروف أو تتماثل، لأنها سنن جارية، وليست حوادث مفردة عابرة لا تتكرر.

وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد وجهنا في كتابه المنزل، لتدبر السنن الربانية، ودراسة التاريخ - الذي هو في الحقيقة مجرى السنن في عالم الواقع - فنحن جديرون أن نعكف على دراسة النشأة الأولى؛ لنستخلص منها الدروس والعبر، ولتكون هادياً لنا في كل تحرك نقوم به، ومحكاً لاستقامتنا على الطريق أو انحرافنا عنه.
وقد استوقفني في أمر النشأة الأولى عدة أمور، زاد من رغبتي في تدبرها وتأملها ما أراه بين الحين والحين من مخالفة لمقتضياتها في مسيرتنا الحالية، وما أراه قد ترتب على هذه المخالفة من نتائج معوقة للمسيرة، فأحببت أن أعرض بعض هذه الأمور في هذه الصفحات، داعياً الله أن يجنبنا الزلل دائماً وأن يهدينا إلى سواء السبيل.
* * *
من أشد ما استوقفني في مسيرة الجيل الأول، ذلك الأمر الرباني للمؤمنين أن يكفوا أيديهم في مرحلة التربية بمكة، وأن يتحملوا الأذى صابرين، وقد أشار الله إلى هذا الأمر في قوله تعالى، مذكراً به: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } (النساء : 77).

« وكان بعض الصحابة رضوان الله عليهم قد سأل الرسول صلى الله عليه وسلم حين اشتد الأذى بالمؤمنين: ألا نقاتل القوم؟ فقال عليه الصلاة والسلام : (( ما أمرنا بقتالهم )) » (1) .
ولم يرد في النصوص - لا في الكتاب ولا في السنة - بيان لحكمة هذا الأمر الرباني، ومن ثم فالأمر متروك للاجتهاد لمعرفة الحكمة منه، وربما كان أيسر سبيل للتعرف على حكمته، أن نفترض أن المؤمنين كانوا قد دخلوا في معركة مع قريش في ذلك الحين، فماذا كان يمكن أن يترتب على ذلك؟ ثم نتدبر الفوائد التي تحققت حين كفوا أيديهم ولم يدخلوا في معركة في ذلك الوقت.
أبسط ما يمكن أن يتصور من نتائج هذه المعركة غير المتكافئة، أن تتمكن قريش من إبادة المؤمنين، وهم حينئذ قلة مستضعفة لا سند لها، فينتهي أمر الدعوة الجديدة في معركة واحدة أو عدة معارك متلاحقة، دون أن يتحقق الهدف، ودون أن يتعرف الناس على حقيقة الدعوة، ودون أن يكتب لها الانتشار .
ونفترض أن المعركة - على الرغم من عدم تكافئها - لم تؤد إلى إبادة المؤمنين كلهم، فثمة أمر آخر على غاية من الأهمية، يلفت انتباهنا بشدة، لاتصاله بما يجري من أحداث في وقتنا الحاضر.
_________
(1) انظر كتب السيرة .

لمن كانت الشرعية في تلك المرحلة في مكة؟ لقد كانت في حس الناس جميعاً لقريش.!
وما وضع المؤمنين يومئذ؟ وضعهم أنهم خارجون على الشرعية .!
ومن حق صاحب الشرعية - ولا شك - أن يؤدب الخارجين عليه !
وصحيح أن قريشاً تشتد في ((التأديب)) إلى حد الفظاظة والقسوة، وأن بعض الناس قد يتأذى لهذه الفظاظة، حتى ليحاول أن يبسط حمايته - أو جواره - على بعض المعذبين المستضعفين، ولكن يظل الأمر في حس الناس - من حيث المبدأ - أن قريشاً هي صاحبة الشرعية، وأن المؤمنين خارجون على الشرعية، وأن من حق صاحب الشرعية أن يؤدب الخارجين عليه!
فهل كان من مصلحة الدعوة أن يدخل المؤمنون يومئذ في معركة مع قريش، وهذا التصور هو السائد بين الناس؟!
كلا بالطبع !
والآن فلننظر ماذا تم حين استجاب المؤمنون للأمر الرباني وكفوا أيديهم.
لقد تمت أمور كثيرة في الحقيقة .

ففي البيئة العربية المعروفة ((بإباء الضيم))، والتي تحدث فيها المعارك الضارية لأسباب نرى نحن اليوم أنها تافهة، لا تستحق أن تراق فيها قطرة دم واحدة، وقد تطول تلك المعارك سنوات عديدة، ويفنى فيها كثير من الخلق كمعركة داحس والغبراء (1) . في البيئة التي يمتشق فيها الرجل الحسام لأدنى إهانة توجه إليه، والتي يقول فيها عنترة :
ولقد خشيت بأن أموت ولم تدر ... للحرب دائرة على ابني ضمضم
الشاتمي عرضي ولم أشتمهما ... والناذرين إذا لم القهما دمى !
ويقول غيره :
ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا !
في تلك البيئة، يؤذى رجال ذوو حسب ونسب، منهم من هو من أشراف قريش ذاتها، ثم لا يردون!
شيء يلفت النظر ولا شك، لأنه مخالف مخالفة تامة لأعراف البيئة .
بعبارة أخرى، شيء ليس من صنع البيئة . فلا بد أن يكون من صنع شيء آخر خلاف البيئة!
ثم يشتد الأذى ويستمر وهم صابرون!
هنا معنى جديد ليس من صنع البيئة كذلك، ففي سبيل أي شيء يحتمل هؤلاء ما يقع عليهم من الأذى، ثم يظلون مصرين على التمسك بما يعرضهم للأذى؟
أفي سبيل شرف القبيلة؟ أفي سبيل مغنم من مغانم الأرض؟ أفي سبيل شهوة من شهوات الأرض؟
_________
(1) معركة نشبت في أواخر العصر الجاهلي بين قبيلتي عبس وذبيان، بسبب سباق أجرياه على فرسين إحداهما تسمى داحس والأخرى تسمى الغبراء، فاختلفت القبيلتان على نتيجة السباق، فقامت بينهما الحرب، وانضم لكل قبيلة حلفاؤها، وطالب الحرب وقتل فيها خلق كثير، حتى تدخل من تدخل للصلح بينهما، فوضعت الحرب أوزارها.

لا شيء من ذلك كله . إنما هو سبيل ((عقيدة)) يعتقدونها .
وقد تفهم هذه البيئة أن تكون العقيدة أعرافاً وتقاليد، يستمسك الناس بها، وقد يقاتلون من أجلها، أما أن يتحملوا الأذى في سبيلها -وهم لا يردون - فأمر جديد كل الجدة على هذه البيئة، بيئة الأعراف والتقاليد !
ثم نمضي شوطاً آخر، فيتضح أمر جديد .
إن الأذى يشتد حتى يصبح مقاطعة اقتصادية واجتماعية، ويصل إلى حد التجويع، بل يصل ببعض الناس حتى الموت، ولا يتخلفون عن عقيدتهم!
لا يمكن - في عرف البيئة، ولا في عرف البشر عامة - أن يتحمل الناس مثل هذا الأذى من أجل باطل . إنما لا بد أن يكون حقاً يعتقده صاحبه، ويحتمل الأذى من أجله، ويموت من أجله.
بل إن هذا الحق الذي يعتقده هو أغلى عليه من أمنه وراحته ومكانته وكرامته . وحتى من نفسه، حتى من حياته .
تلك المعاني كلها، التي برزت للوجود من خلال كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ هي التي أتت بالأنصار من المدينة، حتى وإن لم تغير كثيراً من الأحوال في مكة !
نستطيع أن نقول في عبارة موجزة : إن أهل مكة اصطلوا النار، ولكن أهل المدينة استضاءوا بها عن بعد، فاهتدوا إلى الحق الذي شاء الله لهم أن يهتدوا إليه .
* * *

ولم يكن هذا وحده هو الذي اتضح للأنصار، من خلال كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ . لقد اتضح أمر أخر له أهميته البالغة في خط سير الدعوة، وهو قضية ((الشرعية)).
يقول سبحانه وتعالى في سورة الأنعام، وهي سورة مكية: { وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ } (الأنعام : 55).
وكأن المعنى: نظل نفصل الآيات حتى تستبين سبيل المجرمين.
وورود هذا المعنى في آية مكية له دلالة واضحة، أو ينبغي أن تكون واضحة، فاستبانة سبيل المجرمين هدف مقصود، تبينه لام التعليل في قوله تعالى : { وَلِتَسْتَبِينَ } . ونزول هذه الآية في الفترة المكية، معناه أن استبانة سبيل المجرمين هي من أهداف الدعوة، بل من لوازم الدعوة في الفترة الأولى التي يتم فيها نشأة الجماعة المسلمة.
فما الذي تحققه استبانة سبيل المجرمين للدعوة؟
إن استبانة سبيل المجرمين تتضمن أمرين: أولاً : بيان من هم المجرمون؟ وثانياً: بيان السبيل الذي يسلكونه، والذي من أجله أصبحوا مجرمين.
فمن هم المجرمون؟ وما سبيلهم؟ وما علاقة تفصيل الآيات باستبانة سبيلهم؟
لقد فصلت الآيات قضية الألوهية، وهى القضية الأولى والكبرى في القرآن كله، والسور المكية بصفة خاصة .

فصلت الآيات أنه إله واحد لا شريك له، ولا يمكن أن يكون له شركاء في الخلق ولا في التدبير، ولا في أي شأن من الشيئين، وظلت الآيات تتنزل مبينة صفات ذلك الإله، وتنفي عنه الشركاء حتى صار المعنى واضحاً تماماً، سواء لمن آمن أو لمن كفر، فقد كان الكفار قد أصبحوا على بينة تامة مما يريد منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلموه ويؤمنوا به، حتى قالوا كما روى الله عنهم: { أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } (ص:5).
ولما تبين أنه إله واحد لا شريك له، طلب من الناس أن يعبدوه وحده بلا شريك؛ لأنه وحده الحقيق بالعبادة، وأن ينبذوا ما يدعون من الآلهة الزائفة، وأن يتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم، ولا يتبعوا من دونه أولياء: { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ } (الأعراف: 3).
وعلى هذا فقد انقسم الناس فريقين اثنين: فريق المؤمنين، وهم الذين آمنوا أنه إله واحد، فعبدوه وحده بلا شريك، واتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم، وفريق المجرمين وهم الذين أبوا أن يؤمنوا به، وأن يعبدوه وحده، وأن يتبعوا ما أنزله إليهم.

وإذن، فأين تقع قريش في هذا التقسيم؟
لقد كانت قبل تفصيل الآيات هي صاحبة الشرعية، وكان المؤمنون في نظر قريش، وفي نظر الناس أيضاً، خارجين على الشرعية، فما الموقف الآن بعد تفصيل الآيات؟ وبعد ما رفضت قريش أن تؤمن بالله الواحد، وتعبده وحده بلا شريك، وتتبع ما أنزل الله؟ هل بقيت هي صاحبة الشرعية، وبقي المؤمنون هم الخارجين على الشرعية؟ أم تبدل الحال عند بعض الناس على الأقل، فأصبحت قريش وأمثالها هم المجرمين، وأصبح أصحاب الشرعية هم المؤمنين؟!
إنها نقلة هائلة في خط سير الدعوة، أن يتبين الناس من هم المجرمون، وما سبيلهم، ويتبينوا في المقابل من هم الذين على الحق، وما هو سبيل الحق.
ولقد كان الإشكال بالنسبة لقريش خاصة أنهم هم سدنة البيت، الذي يعظمه العرب جميعاً، فضلاً عن كونهم أصحاب ثروة وأصحاب جاه وحسب ونسب، فاجتمعت لهم بمقاييس الجاهلية كل مقومات الشرعية، ممتزجة ببقايا الدين المحرف الذي ينتسبون به إلى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام. فلم تكن زحزحة الشرعية عنهم أمراً هيناً، خاصة والخارجون على شرعيتهم ضعاف فقراء لا قوة لهم ولا مال ولا سند من أحد من ذوي السلطان!

لقد كانت العقيدة الصحيحة وحدها هي التي يمكن أن تجليهم عن شرعيتهم المدعاة، وتكشفهم على حقيقتهم، وهي أنه مجرمون لا شرعية لهم، لرفضهم الإيمان بالله الواحد، وعبادته وحده بلا شريك، واتباع ما أنزل الله.
وهنا نسأل : لو أن المؤمنين في مكة دخلوا في معركة مع قريش، فهل كانت تستبين سبيل المجرمين؟ لو دخلوا المعركة وفي حس الناس أن قريشاً هي صاحبة الشرعية، وأن المؤمنين خارجون على الشرعية، فهل كان يمكن أن يستقر في خلد أحد - كما استقر في خلد الأنصار - أن القضية لها معيار آخر غير سدانة البيت، وغير المال والجاه، وكثرة العدد، ورصيد العرف، ورصيد التاريخ؟ وأن هذا المعيار هو : لا إله إلا الله. هو الإيمان بألوهية الله وحده بلا شريك، وما يترتب على ذلك من ضرورة اتباع ما أنزل الله، وأن هذا هو الحق الذي لا شيء بعده إلا الضلال، وأن هذه هي القضية الكبرى التي يقاس بها كل شيء، وينبني عليها كل شيء؟

هل كان يمكن أن يصل الحق الذي يحمله المؤمنون إلى أفئدة فريق من الناس، كما وصل إلى أفئدة الأنصار، لو أن المؤمنين دخلوا معركة مع قريش، أم كان غبار المعركة يغشي على حقيقة القضية، وتنقلب القضية بعد قليل إلى قضية ضارب ومضروب، وغالب ومغلوب، وتصبح قضية ((لا إله إلا الله)) على هامش الصورة، إن بقي لها في حس الناس وجود على الإطلاق؟!
أظن الصورة واضحة .
لقد كانت ((كفوا أيديكم)) هي سر الموقف كله !

كانت هي التي أتاحت لقضية لا إله إلا الله - وهي قضية الرسل جميعاً من لدن آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم - أن تبرز نقية شفافة واضحة، غير مختلطة بأي قضية أخرى على الإطلاق، فتنفذ إلى القلوب التي أراد الله لها الهداية صافية من كل غبش، فتتمكن من تلك القلوب، ويرسخ فيها الإيمان، كما تنفذ إلى القلوب التي لم يرد الله لها الهداية، صافية من كل غبش، فيكفر أصحابها كفراً لا شبهة فيه، كفراً غير مختلط لا بالدفاع عن النفس، ولا الدفاع عن المال، ولا الدفاع عن الأمن والاستقرار؛ إنما هو الرفض الصريح الواضح للا إله إلا الله. وذلك توطئة لقدر قادم من أقدار الله، هو سنة من السنن الجارية : { لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ } (الأنفال : 42).
هذا الوضوح الذي أتاحته للقضية ((كفوا أيديكم)) ، هو من مستلزمات الدعوة . فبغير استبانة سبيل المجرمين، على أساس ((لا إله إلا الله))، واستبانة سبيل المؤمنين في المقابل، على ذات الأساس، لا يمكن أن تتسع القاعدة بالقدر المعقول في الزمن المعقول، وتظل الدعوة تراوح مكانها، إن لم يحدث لها انتكاس بسبب من الأسباب.

وحين وضحت القضية على هذا النحو من خلال ((كفوا أيديكم)) ، جاء الأنصار !
وحين جاء الأنصار اتسعت القاعدة، وحدث تحول في التاريخ !
* * *
ولنا هنا وقفة عند هذه القضية .
من هم الأنصار ؟
هل هم جماهير متحمسة، ألهب حماستها الإعجاب بشخص الرسول صلى الله عليه وسلم ، والتعاطف مع هذه الفئة الفذة من البشر، الذين صبروا على الابتلاء، هذا الصبر الطويل الجميل، وثبتوا رغم الصعاب وشدة البلاء ؟!
أم هم جنود جاءوا يعرضون جنديتهم على القائد، ويدخلون في صف المجاهدين؟
ما أبعد الشقة بين هذا الوضع وذاك في خط سير الدعوة !
لا شك أن الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان قائماً في قلوبهم، من كثرة ما رأوا وسمعوا عن خصاله الكريمة صلى الله عليه وسلم ، وقد كان نموذجاً فريداً في البشر، لا يدانيه أحد ممن عرفوه أو سمعوا عنه خلال التاريخ. ولاشك أن التعاطف مع المعذبين في الأرض، كان قائماً في قلوبهم، من كثرة ما رأوا وسمعوا من ألوان التعذيب، وألوان الصبر على التعذيب.

ولكن هذا وذاك لم يكن الدافع الأوحد الذي يحركهم؛ إنما حركهم ابتداء أنهم آمنوا أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله . آمنوا بالله ربا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً، وبالإسلام ديناً، فجاءوا يبايعون على السمع والطاعة، وعلى الموت والحياة.
قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( تمنعوني؟)) قالوا : نمنعك مما نمنع منه نساءنا وأطفالنا. وقالوا : لو استعرضت بنا الصحراء قطعناها، ولو خضت بنا هذا البحر خضناه .
جندية كاملة للدعوة الجديدة.
لم يأن بعد أوان ((الجماهير))! إنما يأتون في موعدهم المقدر عند الله .
ولكن ماذا لو كان الأنصار رضي الله عنهم، مجرد جماهير متحمسة، جاءت بدافع الحماسة والحب والتعاطف فحسب. هل كانت حماستهم تصبر على لأواء الطريق؟ هل كانت تصبر للصدام حين يأتي الإذن من الله العلي القدير برد العدوان ؟!

أما أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان سيفرح بدخولهم في الدعوة واعتناقهم الإسلام، فأمر لا نظنه موضع شك. وأما أن المؤمنين من أهل مكة كانوا سيفرحون برؤية إخوان لهم في العقيدة، فأمر لا نظنه كذلك موضع شك . أما أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان سيتحرك بهم في خط الدعوة، فأمر يحوطه الشك الكثيف، ودليله سؤال الرسول صلى الله عليه وسلم لهم : ((تمنعوني))؟ فالسؤال لم يكن عن إيمانهم، وقد جاءوا يعرضونه صريحاً بلا مواربة، إنما كان عن خطوة أخرى وراء الإيمان، وهي تجنيدهم أنفسهم لما آمنوا به وعرفوا أنه الحق .
لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم سيتحرك بهم، لو أنه رأى من أحوالهم أنهم مجرد جماهير متحمسة، لم تجند نفسها بعد للدعوة . ولم يكن سيعتبر أن القاعدة قد اتسعت بتلك الجماهير المتحمسة التي آمنت - نعم - ولكنها لم تجند نفسها لاحتمال التكاليف.
* * *
متى جند الأنصار أنفسهم للدعوة؟
قلنا من قبل: إن النار التي اصطلى بها المؤمنون في مكة، هي النور الذي استضاء به الأنصار في المدينة، فجاءوا يعرضون أنفسهم لنصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم والدين الجديد .
لقد جاءوا بقدر من الله - نعم - ولكن بسنة من سنن الله كذلك .

إن وجود النموذج الواقعي، الذي يشهد للدعوة الجديدة، هو النواة التي يحدث حولها التجمع، ويحدث التجمع تلقائياً حول النواة ((الأم))، ثم يتسارع بعد ذلك، كلما زاد حجم النواة. سنة ربانية في الكون المادي وفي حياة البشر سواء !
والنواة الأم كانت هي الجماعة المؤمنة التي تكونت في مكة حول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والتي شكلها الوحي المنزل من عند الله، وصقلها المربي العظيم صلى الله عليه وسلم بما أضفى عليها من روحه، وأعطاها من جهده، وتابع نموها بصبره وجلده وسعة صدره وحكمته وبصيرته. ثم جاءت الابتلاءات فزادتها صقلاً وصلابة وقرباً من الله .
ومن خلال ((كفوا أيديكم)) تكونت النواة الأم التي صنعت التاريخ !
ولو كان المؤمنون قد دخلوا في معركة مع قريش في مكة، لتأخر كثيراً تكون النواة الأم، ولتغيرت كثيراً صفاتها التي اكتسبتها، وذلك فوق الغبش الذي كان سيصيب قضية لا إله إلا الله، حين تتحول إلى قضية ضارب ومضروب، وغالب ومغلوب، ولتأخر كذلك التجمع الصلب حول النواة الصلبة المصقولة المتينة البناء .
* * *
والآن فلنستعرض ما تم حتى الآن من خلال ((كفوا أيديكم)).
ولقد تمت أمور على غاية من الأهمية في مسيرة الدعوة .

تم تحرير موضع النزاع، إن صح التعبير . إنه قضية ((لا إله إلا الله)) دون غيرها من القضايا .
ليس الصراع الدائر بين قريش وبين المؤمنين على سيادة أرضية، ولا على السلطة السياسية (وقد عرضت السلطة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأباها، وأصر على لا إله إلا الله، والمؤمنون من جانبهم لم يتحركوا حركة واحدة، تهدف إلى الاستيلاء على السلطة)).
ليس الصراع على ((شرف)) سدانة البيت، ولا ((وجاهة)) خدمة الحجيج.
ليس على القوة الاقتصادية التي تملكها قريش وحدها دون المؤمنين، وتحارب المؤمنين من خلالها بالحصار والتجويع، والمؤمنون لا يتعرضون لها من قريب ولا بعيد.
الصراع كله على القضية الكبرى التي هي - والتي يجب أن تكون دائماً - القضية الأولى، والقضية الكبرى في حياة الإنسان، قضية من المعبود؟ ومن ثم من صاحب الأمر؟ من المشرع؟ من واضع منهج الحياة؟ قريش تريدها حسب أهوائها وخيالاتها وموروثاتها وأعرافها، والمؤمنون حول رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدونها لله.
وتم تركيز الجهد وتوفيره لتربية القاعدة الصلبة، التي ستحمل البناء (1) .
وتم تحرير قضية ((الشرعية)) ، بتفصيل الآيات واستبانة سبيل المجرمين.
_________
(1) سنتكلم عن عملية التربية في فصل قادم .

وتم أخيراً اتساع القاعدة بالجنود الذين استضاءوا بالنار التي اكتوى بها أهل النواة الأم، فتجمعوا بقدر من الله، وبحسب سنة من سنن الله، حول تلك النواة، مضيفين إليها قوة حقيقية في الصراع.
ثم تم أمر آخر بالغ الأهمية كذلك، هو التجرد لله .
إن التجرد لله عنصر من أهم العناصر التي تحتاج إليها الدعوة، إن لم يكن أهمها على الإطلاق، بالنسبة للقاعدة بصفة خاصة، وبالنسبة لجميع العاملين على وجه العموم.
ولقد تعمق التجرد لله في قلوب الصفوة المختارة، خلال فترة التربية في مكة، من خلال الآيات المنزلة من عند الله، تدعو إلى إخلاص العبادة لله، ومن خلال القدوة المباشرة في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم ، يعلمهم بالسلوك العملي كيف يكون إخلاص العبادة لله.
فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أدبه ربه فأحسن تأديبه .
كان عليه الصلاة والسلام، في مبدأ قيامه بالدعوة، شديد التأثر بتكذيب الناس له، شديد الحرص على هدايتهم، شديد الحزن عليهم بسبب إعراضهم عن الهدى الرباني، وذلك بما فطر عليه صلى الله عليه وسلم من حب الخير لجميع الناس.

وكان الوحي يتنزل عليه صلى الله عليه وسلم ، لتسليته والتسرية عنه : { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } (الأنعام : 33). { وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ } (النحل : 127).

ويتنزل الوحي لصرفه صلى الله عليه وسلم عن شدة الحزن، وشدة التطلع لآية من عند الله تجعلهم يؤمنون: { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا }{ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا }{ وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا } (الكهف : 6-8) . { وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ }{ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } (الأنعام : 35-36).
ويتنزل الوحي ليقول للرسول صلى الله عليه وسلم : إن مهمته هي البلاغ فحسب، أما النتائج فمن صنع الله وحده : { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } (القصص:56)
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

كتب إسلامية 2010 كتاب كيف ندعو الناس للشيخ محمد قطب :: تعاليق

24akhbar
تابع الكتاب
مُساهمة 02.08.10 17:57 من طرف 24akhbar
ومن أشد ما يلفت النظر في هذا الشأن، أنه في خلال فترة التربية في مكة، لم يتنزل وعد واحد بالنصر لشخص الرسول صلى الله عليه وسلم ، إنما كان يقال له: { وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ } (الرعد : 40) . بينما كان النصر والتمكين لهذا الدين مستيقناً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم .
يقول خباب بن الأرت رضي الله عنه : « شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ (وذلك لما اشتد إيذاء المشركين للمؤمنين في مكة) فقال صلى الله عليه وسلم : قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل، فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار، فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه. والله ليتمن الله هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت، لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون » (1) .
_________
(1) رواه البخاري .

وبتوجيهات الوحي، تجرد قلب الرسول صلى الله عليه وسلم ، حتى من رغبة التمكين لهذا الدين أثناء حياته، وتجرد للبلاغ. ثم ربى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه على التجرد لله، حتى خلت نفوسهم من حظ نفوسهم، كما تحكي عنهم كتب السيرة، وصار همهم كله أن يخلصوا العبادة لله .
ولما علم الله من قلوبهم أنها تجردت له، مكن لهم في الأرض، وأذن لهم في رد العدوان : { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ }{ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ }{ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } (الحج : 39-41)
موضع القدوة في الجيل الفريد
يرى كثير من الناس أن ما كان طبيعياً ومناسباً للجيل الأول في فترة التربية بمكة، لا ينطبق على وضعنا الحاضر، ومن ثم فعلينا أن ندرسه للتاريخ، وليس للعبرة ولا للقدوة !
وهذا الأمر يحتاج إلى تجلية واضحة، لأنه مفرق طريق في العمل الإسلامي في الوقت الحاضر، وما لم تتضح الصورة تماماً - وبموضوعية كاملة - فستظل تيارات العمل الإسلامي تتصادم مع بعضها البعض، ولا تصل إلى موقف موحد أو متجانس، بينما أعداء هذا الدين يقفون موقفاً موحداً، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، متكالبين كلهم على الأمة الإسلامية، يجاهدون للقضاء عليها، متعاونين متساندين، كما حدث في البوسنة والهرسك، وفي كشمير، وفي بلاد الشيشان، وفي كل مكان على ظهر الأرض.
هل نحن في المرحلة المكية، حيث المجتمع مشرك شركا واضحاً لا لبس فيه، والمؤمنون هم أولئك القلة التي آمنت بالدين الجديد، مستضعفة منبوذة من ذلك المجتمع، تتحرك حسب مقتضيات ذلك الوضع؟ أم نحن في مجتمع مسلم منحرف عن الإسلام، نعمل على تصحيح الأوضاع فيه، بردها إلى الصورة الإسلامية الصحيحة؟ أم ماذا نحن على وجه التحديد؟

ولخطورة هذه القضية ، وما ثار حولها من جدل، وما ترتب على هذا الجدل من الفرقة، نود أن نتدارسها بروية، وأن نصل فيها إلى تصور واضح، غير متأثرين فيه بعواطفنا، أو بمواقف نحبها أو نكرهها.
لسنا في المرحلة المكية بكل تأكيد! فنحن - العاملين في حقل الدعوة، والمستجيبين لها - نصوم ونحج، وقد فرض الصيام والحج في المدينة! ونحن نحرم كل ما حرم الله، ونوجب كل ما أوجب الله، غير منحصرين فيما نزل من التحريم والتحليل في مكة !
ولسنا في المرحلة المدنية بكل تأكيد! فليس الدعوة ممكنة في الأرض، وشريعة الله ليست هي المحكمة في الجزء الأكبر من العالم الإسلامي، والقائمون بالدعوة إما مغيبون في السجون، أو معلقون على أعواد المشانق، وإما مضيق عليهم بمختلف وسائل التضييق.
فأين نحن على وجه الدقة؟ وأي منهج هو المناسب لنا؟ أهو المنهج الذي اتبعه الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة بأمر من الله؟ أم هو منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة، الذي اتبعه بأمر من الله؟ أم شيء أخر غير هذا وذاك، نجتهد فيه من عند أنفسنا بغير ضابط محدد؟!
قضية - كما ترى - لها أهميتها، وتحتاج إلى تحديد .
* * *

هناك فروق واضحة بيننا وبين المجتمع ولا شك، يتكئ عليها كثير من الناس للتفريق بين وضعنا وبين ذلك المجتمع .
لقد كان الناس في المجتمع المكي ينكرون فكرة الإله الواحد إنكاراً مطلقاً، حتى إن القرآن الكريم قد حكى عنهم تعجبهم مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من التوحيد : { أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } (ص: 5) . بينما نحن في العالم الإسلامي كله نقر بأن الله واحد، ولا نعتقد أن هناك آلهة أخرى مع الله.
وكان الناس ينكرون فكرة البعث إنكاراً مطلقاً، حتى إن القرآن قد حكى عنهم تعجبهم مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من عقيدة البعث: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ }{ أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ } (سبأ : 7-8) . بينما نحن - في العموم - نؤمن بالبعث، والجزاء والحساب، والجنة والنار، ودع عنك القلة القليلة الملحدة التي لا يقام لها وزن في هذا المجال.

وكان الناس ينكرون بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته، كما حكى القرآن عنهم: { وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ } (ص: 4)، كما قالوا : { أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا } (ص:8). ونحن - ودع عنك القلة الملحدة التي لا يقام لها وزن - نؤمن ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأنه مرسل من ربه، وأن القرآن كلام الله، أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم ، لا هو من كلام البشر، ولا هو من أساطير الأولين .
ولا شك أن هذا كله حقائق .
ولكن تعال ننظر من الجانب الآخر .
جاء الإسلام لينفي كل وساطة بين العبد والرب، ويجعل الصلة مباشرة بين العباد وبين الله: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } (البقرة : 186).

فماذا فعلت الصوفية في عقائد الناس؟ لقد جسمت الشيخ في حس المريد، حتى أصبح واسطة بين العبد وربه، لا يملك أن يدعو الله باسم من أسمائه الحسنى إلا بإذن الشيخ، الذي يطلع على الأفئدة، ويقرر لكل فؤاد ما يصلح له من الأسماء، والمدة التي يستخدم فيها الاسم الممنوح له، ويظل سلطان الشيخ قائماً في قلوب المريدين، حتى بعد موته بألف عام، فالموت لا يحول بين السلطان الروحي وبين القلوب . والتمسح بالضريح، والدعاء عنده، والاستغاثة والاستعانة والذبح، هي علامات الإخلاص من المريد للشيخ، وهي كذلك وسائط التقرب إلى الله!
هل يختلف هذا كثيراً عن قول الذين كانوا يقولون : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } (الزمر : 3) . أليس هذا شركاً واضح الأركان؟

وجاء الإسلام ليلغي كل تشريع من صنع البشر، ليقيم شريعة الله وحدها، وربط ذلك بأصل العقيدة : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } (المائدة: 44). وجعل علامة النفاق الذي ينفي الإيمان، الإعراض عن شريعة الله: { وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ }{ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ }{ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ }{ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }{ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (النور : 47- 51).

وجعل اتباع البشر فيما يشرعون بغير ما أنزل الله بمثابة اتخاذهم أرباباً من دون الله، على مستوى عبادة غير الله سواء بسواء: { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } (التوبة : 31).
فماذا فعلت العلمانية في حياة الناس؟ كم حكومة في الأرض الإسلامية تحكم بما أنزل الله؟ وماذا يقال على ألسنة العلمانيين عن شريعة الله؟ أليس هذا شركاً واضح الأركان؟
كيف نحكم إذن على هذه الأوضاع؟
يكمن الإشكال في الحكم على الأوضاع القائمة اليوم في العالم الإسلامي، في التناقض الشديد بين ما يعلنه الناس عقيدة لهم، وما يمارسونه في الواقع . ثم الاختلاف في الحكم على هذا التناقض، هل هو مخرج من الملة، أم هو دون ذلك؟ بعبارة أخرى: الإشكال هو الحكم على الناس.
وفي رأيي - من سنوات عديدة - أن هذه القضية لا ينبغي أن تشغلنا في مجال الدعوة، ولا ينبغي أن نقف عندها ونفترق حولها، ونتجادل ونتحزب، ويذهب كل فريق منا في اتجاه.

إن الناس - إلا من رحم ربك - واقعون في الشرك لا جدال في ذلك، سواء شرك الاعتقاد، أو شرك العبادة، أو شرك الحاكمية (شرك الاتباع) . ولكن الحكم عليهم بأنهم مشركون قضية أخرى مختلفة، فليس كل من وقع في الشرك يحكم عليه بأنه مشرك، إلا إذا توفرت فيه شروط معينة، وانتفت عنه الموانع التي تمنع تنزيل الحكم عليه .
يقول ابن تيمية رحمه الله :

((وكنت أبين لهم أن ما نقل عن السلف والأئمة، من إطلاق القول تكفير من يقول كذا وكذا، فهو أيضاً حق، ولكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين، وهذه أول مسألة تنازعت فيها الأمة من مسائل الأصول الكبار، وهي مسألة الوعيد، فإن نصوص القرآن في الوعيد مطلقة، كقوله : { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا } الآية . وكذلك سائر ما ورد : من فعل كذا فله كذا، فإن هذه مطلقة عامة، وهي بمنزل قول من قال من السلف: من قال كذا فهو كذا. ثم الشخص المعين يلتغي حكم الوعيد فيه بتوبة أو حسنات ماحية أو مصائب مكفرة أو شفاعة مقبولة . والتكفير هو من الوعيد، فإنه وإن كان القول تكذيباً لما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم ، لكن قد يكون الرجل حديث عهد بإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة، ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجة. وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص، أو سمعها ولم تثبت عنده، أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها، وإن كان مخطئاً)) (1) .
_________
(1) مجموع الفتاوى- المجلد الثالث- ص23.-231 .

وقال رحمه الله في مكان آخر: (1) ((فإن نصوص الوعيد التي في الكتاب والسنة، ونصوص الأئمة بالتكفير والتفسيق ونحو ذلك، لا يستلزم ثبوت موجبها في حق المعين، إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع، لا فرق في ذلك بين الأصول والفروع)).
وقال في موضع ثالث: (2) ((وأما تكفيرهم وتخليدهم ففيه أيضاً للعلماء قولان مشهوران، وهما روايتان عن أحمد، والقولان في الخوارج والمارقين من الحرورية والرافضة ونحوهم. والصحيح أن هذه الأقوال التي يقولونها، التي يعلم أنها مخالفة لما جاء به الرسول كفر، وكذلك أفعالهم التي هي من جنس أفعال الكفار بالمسلمين هي كفر أيضاً. وقد ذكرت دلائل ذلك في غير هذا الموضع، ولكن تكفير الواحد المعين منهم، والحكم بتخليده في النار موقوف على ثبوت شروط التكفير وانتفاء موانعه. فإنما نطلق القول بنصوص الوعد والوعيد والتكفير والتفسيق، ولا نحكم للمعين بدخوله في ذلك العام، حتى يقوم فيه المقتضى الذي لا معارض له، وقد بسطت هذه القاعدة في قاعدة التكفير)).
وهذا هو مفتاح القضية بالنسبة للدعوة ومنهج الحركة.
_________
(1) مجموع الفتاوى- المجلد العاشر- ص372 .
(2) مجموع الفتاوى- المجلد الثامن والعشرون- ص 5.-5.1 .

فالناس- إلا من رحم ربك- واقعون في شرك يشبه شرك الجاهلية، وإن لم يكونوا بالضرورة كلهم ممن يتنزل عليهم حكم الشرك. والذي يهمنا في الدعوة هو بيان حقيقة الإيمان، وبيان نواقص الإيمان، ودعوة الناس إلى ترك ما هم واقعون فيه من الشرك- بصرف النظر عن كونهم مشركين أو غير مشركين في حكم الله- ودعوتهم إلى اعتناق الإسلام الصحيح، وممارسته في عالم الواقع، لا في عالم الأماني، ولا في عالم الأوهام.
ليس الذي يهمنا أن نقول لفلان من الناس: أنت مشرك(أو نقول عنه ذلك)، إنما مهمتنا أن نقول له: إن ما تفعله شرك، وندعوه- بالحكمة والموعظة الحسنة- إلى الخروج من ذلك الشرك، والدخول في حقيقة الإسلام.
هذا من جانب الواقع الذي يعيشه الناس، وواجبنا تجاهه.
ومن جانب آخر فإن الأوضاع القائمة في العالم الإسلامي- إلا ما رحم ربك- أوضاع تحارب الدعوة، وتمنع الدعاة من بيان الحقيقة كاملة عن الإيمان ونواقص الإيمان، خاصة فيما يتعلق بالتشريع بغير ما أنزل الله؛ والسجون والمعتقلات والمشانق محشودة في الطريق، تترصد كل من يريد أن يبين حقيقة لا إله إلا الله كما أنزلت من عند الله.

فما المنهج الأنسب للدعوة؟ إلى أي شيء ندعو؟ وعلى أي شيء نركز؟ وأي الوسائل يوصلنا- أو يقربنا- لما نريد؟
إذا تصورنا الأوضاع القائمة على حقيقتها، وتخلصنا في الوقت ذاته من الإشكالات التي تترتب على إصدار أحكام على الجيل الحالي من الناس، قبل إقامة الحجة عليهم بالحكمة والموعظة الحسنة، فإننا نجد أنفسنا أقرب ما نكون إلى المرحلة المكية من الدعوة، وإن لم نكن في وضع مماثل لها تماماً، بسبب بعض الفروق بين هذا الوضع وذاك، وهي فروق قد تتسبب في اختلاف الحكم على الناس، ولكنها لا تغير الحكم على الأوضاع، والأوضاع هي التي تقرر في الحقيقة منهج الدعوة، وتقرر أقرب الوسائل إلى بلوغ الأهداف.
ومن هنا نجد أن موضع الاقتداء بالجيل الأول أوسع بكثير مما قد يبدو عند الوهلة الأولى، وأن قضايا كثيرة يلزمنا أن نرجع فيها إلى تلك الفترة، نتدبرها ببصيرة مفتوحة، ونستلهم منها طريقنا في الدعوة، ونتطلع إلى فضل الله أن يلهمنا فيها الصواب.
* * *

إذا درسنا أحوال الأمة الإسلامية- كما ينبغي أن نصنع- فسنجد انحرافات كثيرة، وقعت في مسيرة الأمة خلال الأربعة عشر قرناً الماضية، ظلت تبعد الناس رويداً رويداً عن حقيقة الإسلام، حتى صار الإسلام إلى غربته الثانية التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم : « بدأ الإسلام غريباً، وسيعود كما بدأ » (1) .
وإذا تتبعنا هذه الانحرافات- وينبغي لنا أن نفعل، لأنه لا بد لنا من تشخيص الداء، لتحديد نوع العلاج- فسنجد أن الانحراف لم يقتصر على السلوك وحده، إنما تطرق إلى المفاهيم، وأن كل مفاهيم الإسلام قد أصابها الانحراف، حتى مفهوم لا إله إلا الله- بل بدءاً بمفهوم لا إله إلا الله- بالإضافة إلى مفهوم العبادة، ومفهوم القضاء والقدر، ومفهوم الدنيا والآخرة، ومفهوم الحضارة، ومفهوم التربية، ومفهوم الجهاد. إلخ (2) .
_________
(1) أخرجه مسلم.
(2) انظر إن شئت كتاب((مفاهيم ينبغي أن تصحح)).

فإذا كان الأمر كذلك، فبأي شيء نبدأ؟ هل لنا مناص من أن نبدأ بتصحيح مفهوم لا إله إلا الله؟ وهل يمكن تصحيح حياة الناس على قاعدة إسلامية، إذا لم نصحح مفهوم لا إله إلا الله في عقول الناس وقلوبهم؟ فأما العقول فمهمتها إدراك الحق، وأما القلوب فمهمتها تحويل الإدراك الذهني إلى شحنة وجدانية دافعة إلى السلوك العملي في عالم الواقع. وهذا هو طريق الإصلاح.
والآن فلننظر ماذا أصاب مفهوم لا إله إلا الله في حس الناس؟
لقد أصابه انحسار شديد، حتى أصبحت لا إله إلا الله مجرد كلمة تقال باللسان، لا تأثير لها في واقع الكثرة الكاثرة من الناس، إلا من رحم ربك، بل إنها لم تعد مانعة من الوقوع في الشرك عند كثير من الناس، سواء شرك الاعتقاد، أو شرك العبادة، أو شرك التشريع.
والفرق بين واقعنا المعاصر وواقع المجتمع الجاهلي وقت البعثة، أن القوم كانوا يمارسون الشرك الظاهر الصريح، ويرفضون في الوقت ذاته أن يقولوا : لا إله إلا الله . أما الناس في واقعنا المعاصر - إلا من رحم ربك - فإنهم يقولون بأفواههم : لا إله إلا الله، ثم يقعون في الشرك بنوع من أنواعه، أو بجميع أنواعه.

لذلك فإننا نحتاج إلى منهج شديد الشبه بمنهج الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة، لبيان حقيقة لا إله إلا الله، ثم تحويلها إلى واقع معاش في حياة الذين يعتنقون هذا الدين.
وفي ظني أنها مهمة شاقة، لا تقل مشقة، ولا حاجة إلى بذل الجهد، عما بذل في الجولة الأولى، لإزالة الغربة عن الإسلام أول مرة، بل ربما كانت الغربة الثانية أعسر في إزالتها من الغربة الأولى، حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حاضراً بشخصه يمثل القدوة الحية ومنبع الإلهام.
لقد كان العسر في الجولة الأولى ناشئاً من لدد الخصومة، بالإضافة إلى شدة التمسك بعرف الآباء والأجداد: { فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا } (مريم : 97) . { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ } (البقرة : 170).

أما في الجولة الثانية، فلن نجد مشقة في أن نجعل الناس ينطقون بأفواههم: لا إله إلا الله، فهم ينطقونها صباح مساء! ولكن المشقة أنهم يظنون أنهم بمجرد نطقهم للا إله إلا الله صاروا مسلمين، ولصقت بهم صفة الإسلام، أياً كان سلوكهم الواقعي، وأياً كان مدى نقضهم لمقتضيات لا إله إلا الله في عالم الواقع! وأنك إن قلت لهم: إن للا إله إلا الله مقتضيات لا يثبت للإنسان إسلامه إلا بالتزامها، وإلا أخذ عليه إقراره اللساني واعتبر مرتداً، كذبوك! وقالوا : ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين!
إنهم - معظمهم - واقعون في لوثة الفكر الإرجائي، الذي يقول: ((من قال لا إله إلا الله فهو مؤمن، ولو لم يعمل عملاً واحداً من أعمال الإسلام))! والذي يقول: ((الإيمان هو التصديق، أو هو التصديق والإقرار، وليس العمل داخلاً في مسمى الإيمان))! والذي يعتبر المخالفات كلها بجميع أشكالها، مجرد معاص، ثم يقول: ((لا يضر مع الإيمان معصية))!

وإزالة آثار هذه اللوثة من حياة الناس، وردهم إلى المفهوم الصحيح للإيمان، الذي كان عليه السلف الصالح، والذي يقول: إن الإيمان قول واعتقاد وعمل، هو المهمة كالحقيقية ((للغرباء))، الذين بشرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بجزيل الأجر: « طوبى للغرباء » ، وقال عليه الصلاة والسلام : « فطوبى للغرباء يصلحون ما أفسد الناس من سنتي » (1) .
وسنتحدث عن التربية في فصل مستقل، ولكنا هنا نقرر أن نقطة البدء في الدعوة يجب أن تكون هي التعريف بلا إله إلا الله، التي صارت حقيقتها مجهولة في غربة الإسلام الثانية، وصارت حين تعرض على حقيقتها تستوحش لها النفوس!
ونقرر كذلك أن التعريف بلا إله إلا الله - فضلاً عن التربية على مقتضياتها - ليس مجرد معلومات تلقى، وليس مجرد خطبة أو درس أو موعظة، إنما هو جهد حقيقي دائب، يحتاج إلى متابعة ومثابرة، ويحتاج إلى تتبع مسارب النفس ومداخلها، لتنقيتها من الغبش الذي أحدثه الفكر الإرجائي، فضلا عن الغبش الذي أحدثه الفكر العلماني المستحدث، وكلاهما حمض أكال يوهن بناء العقيدة، ويفرغها من محتواها الحي، ويفقدها قوتها الفاعلة التي كانت لها يوم أن كانت على حقيقتها كما أنزلها الله .
_________
(1) رواه الترمذي وقال حديث حسن.

ثم نقرر أخيراً أن الاستعجال في هذا الأمر - على أساس أنه أمر بديهي واضح، لا يحتاج إلى بذل الجهد فيه، أو على أساس أن ما بذل من الجهد فيه، فيه الكفاية، أو على أساس أن لدينا مهام كثيرة، وليس لدينا وقت كثير ننفقه في التعريف بلا إله إلا الله - فضلاً عن التربية على مقتضياتها- هذا الاستعجال لا يأتي بخير، ولا يخدم الدعوة، ولا يجعل لها مردوداً مثمراً في نهاية المطاف.
وموضع الاقتداء هنا بالجيل الفريد، أن نتدبر مدى عناية القرآن الكريم بهذه القضية، وعناية الرسول صلى الله عليه وسلم ببيانها، فضلاً عن التربية على مقتضياتها، وأنها استغرقت الجزء الأكبر من مجموع سنوات الدعوة، ومن جهدها كذلك.
وإذا ظننا أن سبب تركيز القرآن الكريم على هذه القضية في السور المكية، أن المخاطبين بهذا القرآن أول مرة كانوا مشركين، فلنتذكر أننا نواجه اليوم بالدعوة قوماً واقعين في الشرك، وإن لم يكونوا كلهم بالضرورة مشركين، وأن الشرك الذي هم واقعون فيه هو من ذات الأنواع التي كان العرب المشركون واقعين فيها : شرك الاعتقاد، وشرك العبادة ، وشرك الحاكمية.

ولكن علينا أن نتذكر كذلك أن التركيز على هذه القضية ليس سببه دائماً أن المخاطبين مشركون! فالمؤمنون كذلك يحتاجون إلى مداومة التذكير بها وبمقتضياتها، والدليل على ذلك أن الحديث عن لا إله إلا الله لم ينقطع في القرآن الكريم، حتى بعد أن تكونت الجماعة المسلمة، وتمكنت في الأرض، ودخلت المعارك من أجل لا إله إلا الله، فقد أنزل الله في سورة النساء: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا } (النساء : 136).
وأنزل الله آيات كثيرة في السور المدنية تربط التوجيهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بلا إله إلا الله ومقتضياتها.

{ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }{ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }{ لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } (آل عمران : 26-28).
{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } (النساء : 59).
والأمثلة على ذلك كثيرة .
ومن ثم فليست لا إله إلا الله درساً يتلى ثم ينتقل منه إلى غيره، إنما هي - كما قلت في كتاب سابق - درس يتلى وينتقل معه إلى غيره، ويظل هو حديث الأمة المسلمة إلى قيام الساعة.
* * *

ما
السبيل للتعريف بلا إله إلا الله
؟
إنه كما حدده الله تعالى : الحكمة والموعظة الحسنة : { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } (النحل : 125).
ويجب أن ندرك أن الحكمة والموعظة الحسنة ليست هي التي ترتبت على أخطاء الناس وانحرافاتهم، ودغدغة مشاعرهم، لكي يرضوا عنا ويتقبلوا منا !
فأدرى الناس بمراد ربه هو الرسول صلى الله عليه وسلم إلى عمه أبي طالب، فقالوا : سفه أحلامنا وسب آلهتنا وكفر آباءنا! وقد كانت مواجهة العرب بكل ذلك، هي مقتضى الحكمة كما نفذها رسول الله صلى الله عليه وسلم !
إنما كانت الحكمة كف الأيدي، وعدم الدخول مع المشركين في معركة في ذلك الأوان، مع عدم استفزازهم بما يعطيهم مبرراً للعدوان، مع التصريح بالحقائق كلها بلا نقصان.
وهنا نصل إلى قضية هامة من قضايا الحاضر، لننظر موضع القدوة فيها من الجيل الفريد: هل كان يحسن بنا - أو يجدر بنا- أن ندخل في صراع مسلح في الوقت الحاضر مع أصحاب السلطان؟

أما العدوان من جانب أي سلطة لا تحكم بما أنزل الله، فأمر لا بد أن نتوقعه دائماً؛ لأنه سنة من سنن الله، ولم يحدث قط أن سلطة جاهلية رضيت عن دعوة لا إله إلا الله، أو حتى هادنتها حين تطلب المهادنة!
حينما قال شعيب عليه السلام لقومه : { وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ } (الأعراف : 87)، لم يقبل الملأ هذه المهادنة، وأصروا على إخراج المؤمنين أو إكراههم على ترك دينهم : { قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ } (الأعراف: 88).

وفي الجاهليات الحديثة التي تسمى نفسها ((ديمقراطية))، تتاح الحرية لجميع الفئات وجميع الدعوات، إلا الفئة التي تدعو للا إله إلا الله! ويكفي ما حدث في الجزائر نموذجاً لما نقول، حيث التزم الإسلاميون - بصرف النظر عن خطأ ذلك أو صوابه (1) - التزموا قواعد الجاهلية ومنهجها، فوصلوا إلى الأغلبية عن طريق صندوق الانتخاب كما تشترط الجاهلية، فإذا تلك الجاهلية تتنكر لكل مبادئها، التي تتيحها للفئات كلها والدعوات كلها، وتقف للإسلاميين بالعنف تقول لهم : لنخرجنكم . أو لتعودن !
لا مجال لأن يسأل سائل : هل هناك وسيلة يمكن أن تستخدمها الدعوة، لا تستثير غضب السلطة الجاهلية؟ فالأمر مفروغ منه! إنما السؤال الذي سألناه : هل كان يحسن بنا - أو يجدر بنا - أن ندخل في صراع مسلح في الوقت الحاضر مع أصحاب السلطان؟
وللإجابة على هذا السؤال نعود لمراجعة الدرس المستفاد من تاريخ النشأة الأولى، والذي عالجناه في الفصل الماضي، فنسأل بادئ ذي بدء : متى أذن الله للمسلمين في رد العدوان بقوله تعالى : { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ } (الحج : 39)؟
24akhbar
تابع الكتاب
مُساهمة 02.08.10 17:58 من طرف 24akhbar
(1) سنتحدث عن هذه القضية فيما بعد .

جاء الإذن بعد أن تحقق ما يأتي : تحرير قضية لا إله إلا الله . تحرير قضية الشرعية. بناء القاعدة على أسس متينة .اتساع القاعدة بمجيء الأنصار . تربية القاعدة على التجرد لله.
والآن فلننظر، ماذا تحقق من هذه الأمور في المسيرة الحالية، وبأي قدر تحقق؟
هل تم تحرير قضية لا إله إلا الله، لا نقول عند الجماهير، بل عند الدعاة أنفسهم؟
هل وضح عند الدعاة أن التشريع بغير ما أنزل الله شرك مخرج من الإيمان، وأن الرضى بهذا التشريع هو كذلك شرك مخرج من الإيمان؟ أم لا يزال الجدل يدور بينهم حول هذه القضية، ما بين شاك وبين مقتنع؟
ودع عنك قضية الحكم على الناس، فتلك قضية لا نتعرض لها هنا، وندعو دائماً ألا تشغلنا عن مهمة الدعوة لبيان حقيقة لا إله إلا الله .

إنهما قضيتان منفصلتان - أو يجب أن تكونا منفصلين - إحداهما عن الأخرى . إحداهما قضية تعليمية، قضية بيان الحقائق للناس، تلك الحقائق التي صارت مجهولة عند كثير من الناس بسبب الغربة الثانية للإسلام، وهي أمانة الله لا بد من أدائها وعدم كتمانها، مهما استوحش الناس منها عند عرضها على حقيقتها . والثانية قضية تطبيقية، والتطبيق لا بد أن يسبقه إقامة الحجة على الناس أولاً، بالبيان المستفيض المتحمض للبيان، بلا اشتباك بأي قضية أخرى تغشى عليها، وتلقى عليها ظلالاً تصرف الناس عن حقيقتها.
ونعود للسؤال: هل وضحت قضية التشريع بغير ما أنزل الله عند الدعاة أنفسهم - ودع عنك الآن جماهير الناس - أم لا يزال يختلط عليهم قول ابن عباس رضي الله عنهما : كفر دون كفر، كفر لا يخرج من الملة؟!
إن الذي قال عنه ابن عباس رضي الله عنهما إنه كفر دون كفر، ليس هو التشريع بغير ما أنزل الله، إنما هو الحكم في قضية معينة بغير ما أنزل الله، جهلاً أو تأولاً أو شهوة أو لقاء رشوة أو هوى، دون جعل هذا الحكم تشريعاً مغايراً لحكم الله.

إن القاضي الذي يؤتى له بإنسان ثبت شربه للخمر، وتفوح من فمه رائحته، فلا يقيم عليه الحد، لأنه تلقى رشوة من أهل الرجل، فالتوى عن حكم الله بحجة من الحجج، هو قاض فاسق، ولكنه لا يكفر بفسقه . أما يوم يقول : إن شرب الخمر ليس جريمة، أو إنها جريمة لا يقام عليها حد، إنما توقع عليها عقوبة أخرى، فإنه يكون كافراً كفراً مخرجاً من الملة، لأنه أنشأ حكماً في القضية مخالفاً لحكم الله، وذلك باتفاق الفقهاء جميعاً.

حين حكم التتار بالياسق وهو - كما قال الحافظ ابن كثير رحمه الله : مجموعة أحكام بعضها مأخوذ من القرآن، وبعضها من الإنجيل، وبعضها من التوراة، وبعضها من وضع جنكيز خان - قال ابن كثير رحمه الله ، في مناسبة تفسير الآية الكريمة : { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } (المائدة : 50 ) : ((ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله، المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات، مما يضعونها بأهوائهم وآرائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية، المأخوذة عن ملكهم جنكيز خان الذي وضع لهم الياسق ، وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام اقتبسها من شرائع شتى، من اليهودية والنصرانية والإسلامية وغيرها، وفيها كثير من الأحكام أخذها بمجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعاً متبعاً، يقدمونه على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فمن فعل ذلك منهم فهو كافر، يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكم سواه في قليل ولا

كثير)) (1) .
وقد علق على هذه القضية سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ (2) في رسالة ((تحكيم القوانين الوضعية)) - وهو المشهود له بغزارة العلم والقوة في الحق - بعد أن أورد قول ابن كثير رحمه الله :
((فانظر كيف سجل سبحانه وتعالى عن الحاكمين بغير ما أنزل الله الكفر والظلم والفسوق، ومن الممتنع أن يسمي الله سبحانه وتعالى الحاكم بغير ما أنزل الله كافرا ولا يكون كافرا، بل هو كافر مطلقاً، إما كفر عمل وإما كفر اعتقاد. وما جاء عن ابن عباس رضي الله عنه في تفسير هذه الآية من رواية طاوس وغيره يدل على أن الحاكم بغير ما أنزل الله كافر، إما كفر اعتقاد ناقل عن ملة الإسلام، وإما كفر عمل لا ينقل عن الملة؛ أما الأول وهو كفر الاعتقاد فهو أنواع:
_________
(1) تفسير ابن كثير ج2 ص68
(2) المفتي الأسبق للمملكة العربية السعودية ، ومن أكابر علمائها .

أحدها : أن يجحد الحاكم بغير ما أنزل الله أحقية حكم الله ورسوله، وهو معنى ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه، واختاره ابن جرير، أن ذلك هو جحود ما أنزل الله من الحكم الشرعي، وهذا ما لا نزاع فيه بين أهل العلم، فإن الأصول المقررة المتفق عليها بينهم أن من جحد أصلا من أصول الدين، أو فرعا مجمعا عليه، أو أنكر حرفا مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، فإنه كافر الكفر الناقل عن الملة.

الثاني : ألا يجحد الحاكم بغير ما أنزل الله كونه حكم الله ورسوله حقا، ولكن اعتقد أن حكم غير الرسول صلى الله عليه وسلم أحسن من حكمه، وأتم وأشمل لما يحتاجه الناس من الحكم بينهم عند التنازع، إما مطلقا، أو بالنسبة لما استجد من الحوادث التي نشأت عن تطور الزمان وتغير الأحوال، وهذا أيضا لا ريب أنه كفر لتفضيله أحكام المخلوقين التي هي محض زبالة الأذهان وصرف حثالة الأفكار على حكم الحكيم الحميد . وحكم الله ورسوله لا يختلف في ذاته باختلاف الأزمان وتطور الأحوال وتجدد الحوادث . فإنه ما من قضية كائنة ما كانت إلا وحكمها في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، نصا ظاهرا، أو استنباطا، أو غير ذلك، علم ذلك من علمه وجهله من جهله ..

الثالث : ألا يعتقد أنه أحسن من حكم الله ورسوله، ولكنه اعتقد أنه مثله، فهذا كالنوعين اللذين قبله، في كونه كافرا الكفر الناقل عن الملة، لما يقتضيه ذلك من تسوية المخلوق بالخالق، والمناقضة والمعاندة لقول الله عز وجل { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } ونحوها من الآيات الكريمات الدالة على تفرد الرب بالكمال وتنزيهه عن مماثلة المخلوقين، في الذات والصفات والأفعال، والحكم بين الناس فيما يتنازعون فيه.
الرابع : أن لا يعتقد كون الحكم بغير ما أنزل الله مماثلا لحكم الله ورسوله، فضلا عن أن يعتقد كونه أحسن منه، لكن اعتقد جواز الحكم بما يخالف حكم الله ورسوله. فهذا كالذي قبله، يصدق عليه ما يصدق عليه، لاعتقاده جواز الحكم بما يخالف حكم الله ورسوله بالنصوص الصحيحة الصريحة القاطعة بتحريمه.

الخامس : وهو أعظمها وأشملها وأظهرها معاندة للشرع، ومكابرة لأحكامه، ومشاقة لله ولرسوله، ومضاهاة بالمحاكم الشرعية إعدادا، وإرصادا، وتفريعا، وتشكيلا، وتنويعا، وحكما، وإلزاما، ومراجع ومستندات، فكما أن للمحاكم الشرعية مراجع ومستندات مرجعها كلها إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فلهذه المحاكم مراجع هي القانون الملفق من شرائع شتى، وقوانين كثيرة، كالقانون الفرنسي، والقانون الأمريكي، والقانون البريطاني، وغيرها من القوانين، ومن مذاهب بعض البدعيين المنتسبين إلى الشريعة وغير ذلك.
السادس : ما يحكم به كثير من رؤساء العشائر والقبائل من البوادي ونحوهم، من حكايات آبائهم وأجدادهم وعاداتهم التي يسمونها ((سوالف)).

وأما القسم الثاني من قسمي كفر الحاكم بغير ما أنزل الله وهو الذي لا يخرج من الملة، فقد تقدم أن تفسير ابن عباس رضي الله عنه لقول الله عز وجل: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } قد شمل ذلك القسم، وذلك في قوله رضي الله عنه في الآية ((كفر دون كفر)) وقوله أيضاً ليس بالكفر الذي تذهبون إليه أ.هـ، وذلك أن تحمله شهوته على الحكم في قضية بغير ما أنزل الله مع اعتقاده أن حكم الله ورسوله هو حق، واعترافه على نفسه بالخطأ ومجانبة الهدى.
وهذا إن لم يخرجه كفره عن الملة، فإن معصيته عظمى أكبر من الكبائر، كالزنا وشرب الخمر والسرقة واليمين الغموس وغيرها، فإن معصية سماها الله في كتابه كفرا، أعظم من معصية لم يسمها كفرا. نسأل الله أن يجمع المسلمين على التحاكم إلى كتابه، انقيادا ورضاءً، إنه ولي ذلك والقادر عليه)).
* * *
فهل اتضحت القضية عند الدعاة أنفسهم، أم ما يزال بعضهم تختلط عليه الأمور، مرة من مقالة ابن عباس رضي الله عنهما، ومرة من أثر الفكر الإرجائي الذي يفصل بين الإيمان والعمل، حتى لو كان نقضاً صريحاً للا إله إلا الله، كالتشريع بغير ما أنزل الله؟

وإذا كان الأمر ما يزال مختلطاً عند بعض الدعاة، فماذا نتوقع من أمر الجماهير؟ وكم من الجهد ما زال أمامنا، حتى تتضح هذه القضية بغير غبش في حس الناس، ويتمكنوا من رؤية الحق الرباني فيها دون أن تستوحش نفوسهم من الحق؟!
هذا في قضية الحاكمية، وهي ليست وحدها التي تحتاج إلى تجلية في قضية لا إله إلا الله. فتحرير القضية يستلزم تخليصها كذلك مما يشتبك بها من قضايا الوطنية والقومية والعدالة الاجتماعية، وأمثال ذلك من القضايا التي تداخلت معها في مسيرة الدعوة.
لقد كانت أمام الرسول صلى الله عليه وسلم قضايا كثيرة يمكن أن يثيرها للاستكثار من ((الجماهير)).
كان الفرس يحتلون جزءا من الجزيرة العربية، والروم يحتلون جزءاً أخر، وكان في إمكان الرسول صلى الله عليه وسلم أن يثير حمية العرب القومية لتلتف حوله الجماهير، حتى إذا اجتمعوا وآمنوا بزعامته قال لهم : قولوا لا إله إلا الله.

وكانت هناك قضية اجتماعية، فالأغنياء يصلون إلى درجة الثراء الفاحش، والفقراء يصلون إلى درجة الفقر المدقع، ولا أحد يفكر في الحد من غنى الأغنياء، بإلغاء الربا - على الأقل- وأخذ جزء من الفائض عند الأغنياء، ورده على الفقراء لرفع مستواهم، وكان في إمكان الرسول صلى الله عليه وسلم أن يثير القضية، فتلتف حوله جموع الفقراء المسحوقين، فيكون منهم قوة يواجه بها جبروت قريش، وفي حمية الصراع يقول لهم : قولوا لا إله إلا الله .
وكان غير ذلك من القضايا مادة مفيدة في تجميع الجماهير وإثارة حماستهم، ثم استمالة الناس للدعوة من خلال تلك القضايا العامة، التي تستهوي بطبيعتها كثيراً من الناس، فيتجمعون لها بسهولة، ويلتفون حول من ينادى بها، ويمنحونه ودهم وحماستهم. ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم - بتوجيه من الوحي الرباني - لم يثر أية قضية من هذه القضايا في فترة التربية بمكة؛ وإنما أثار القضية الواحدة التي جلبت له عداء ((السادة)) وبالتبعية عداء الجماهير، وظل مصرا عليها وحدها، حتى أذن الله أن تتفتح لها قلوب أفضل الخلق بعد رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم.

ولم يكن ذلك لأن هذه القضايا كلها ليس لها أهمية في حياة الأمة، كلا! فقد تناولتها الحركة الإسلامية كلها واحدة إثر الأخرى؛ ولكن لأن القضية الكبرى - في المنهج الرباني وفي واقع البشر - هي قضية لا إله إلا الله، التي يتوقف عليها منهج حياة الإنسان في الدنيا، ومصيره في الآخرة، ولأن قضايا الحياة كلها - في المنهج الرباني - يجب أن تكون نابعة من لا إله إلا الله، ومرتبطة بها ارتباطاً حيوياً، فيتوفر لها الصدق والإخلاص والتجرد . ومن ثم جرى المنهج الرباني على تحرير قضية لا إله إلا الله أولاً ، وتجريدها من أي شيء يمكن أن يشوبها في مرحلة التكوين، لتكون عبادة خالصة لله، هدفها رضوان الله وحده، حتى إذا تمحضت في قلوب أصحابها، وصلت بها كل قضايا الأرض اللازمة لحياة الأمة، دون خشية من اختلاط الأمور في تلك القلوب، بينما الخشية قائمة في مرحلة التكوين، وحين يحدث الاختلاط في المنشأ، فما أسرع ما تغلب مصالح الأرض، وتصبح مداخل للشيطان!

هل تجردت قضية لا إله إلا الله في قلوب الدعاة أنفسهم - ودع عنك الآن قلوب الجماهير - فتمحضت لتقرير العبودية الخالصة لله، غير مختلطة بقضايا القومية والوطنية والعدالة الاجتماعية، والدعاة - من أجل استمالة الجماهير - يتحدثون عن ((اشتراكية الإسلام))، ((وديمقراطية الإسلام))، و((التعددية في الإسلام))؟
* * *

هل تم تحرير قضية الشرعية، لا نقول عند الجماهير، بل عند الدعاة أنفسهم؟
ما مفهومنا عن الشرعية؟
في الغربة الثانية للإسلام - وخاصة بعد تنحية الشريعة الإسلامية عن الحكم في معظم بلاد المسلمين - نسينا معاييرنا الإسلامية، واستبدالنا بها معايير الغرب، خاصة في مجال ((السياسة الشرعية)).
والغرب يقول : إن مقياس الشرعية هو النجاح في الانتخابات. فمن فاز بأكبر عدد من الأصوات فهو صاحب الشرعية الذي يحق له أن يتولى الحكم.
ودعك مؤقتاً من التغير الحاد الذي أصاب هذا المعيار، حين كان الفائزون بأكبر عدد من الأصوات هم الإسلاميين في الجزائر! فقد عودنا الغرب ((العظيم!)) أن يكيل بمكيالين في أي قضية يكون المسلمون طرفا فيها، وذلك لشدة إيمانه بالقيم والمبادئ واحترام الآخر، واحترام حقوق الإنسان!!
دعك من الغرب ومواقفه، وتعال نسأل الإسلاميين: هل هذا هو المعيار الإسلامي في هذه القضية؟
هب أن إنساناً أو حزباً أو هيئة - أو ما يكون من الأشكال السياسية - حصل على أغلبية ساحقة في الانتخابات، حصل على مائة في المائة من أصوات الناخبين، ثم لم يحكم بما أنزل الله، فهل تكون له شرعية في دين الله؟!

لقد اختلط علينا - في غربة الإسلام الثانية - أمران مختلفان: طريقة اختيار الحاكم، ونوع الحكم الذي يحكم به الناس .
وحين كان الإسلام هو الحاكم في الأرض الإسلامية، تكلم فقهاء السياسة الشرعية عن الشروط الواجبة في الحاكم، وتكلموا عن البيعة الحرة، وعن الشورى، وعن غيرها من الأمور المتعلقة بسياسة الحكم، وتحدثوا عن ((فقه الضرورة)) ، وما يمكن التنازل عنه من الشروط تحت ضغط الضرورة، فقالوا : ((وللمتغلب السمع والطاعة)) . ولكن لم يدر في خلدهم قط أن حاكماً يمكن أن يشرع بغير ما أنزل الله، ثم يكون حاكماً شرعياً على المسلمين!!
إن الشرط الأساسي لشرعية الحكم في الإسلام، أن يكون التشريع القائم هو الشريعة الربانية، ومر بنا أنفاً قول ابن كثير رحمه الله في الحاكم الذي لا يحكم بما أنزل الله، إنما يحكم بتشريع مخالف للشريعة.
فهل تحررت هذه القضية في أذهان الدعاة أنفسهم، فضلاً عن الجماهير. أم إن حديثنا كله يجري حول الانتخابات، وهل هي حرة أم مزورة؟ وكم صوتاً نلنا حتى الآن في البرلمان؟ وكم يلزمنا من الجهد لزيادة نصيبنا من الأصوات؟!

إن الظن بأننا إذا حصلنا على أغلبية في البرلمان، فسيترك لنا المجال لتطبيق شريعة الله، ظن ساذج إلى أقصى درجات السذاجة، ويكفي واقع الحال في الجزائر دليلاً على ذلك.
ولكن اختيارنا لهذا الطريق - من حيث المبدأ - من أجل الوصول إلى الحكم، ثم محاولة تطبيق شريعة الله من هذا الطريق، مخالفة شرعية؛ لأنه يجعل الناس هم المرجع في اختيار نوع الحكم الذي يحكمون به، ((ولا نتحدث هنا عن اختيار الحاكم))، فإذا اختاروا الإسلام حكم الإسلام، وإذا اختاروا غيره حكم غيره! فهل هذا هو الإسلام؟!
وأين نحن من قوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } (الأحزاب : 36).
إن مصدر الإلزام في تحكيم شريعة الله ليس هو اختيار البشر أو عدم اختيارهم ما داموا مسلمين. فما داموا مسلمين فقد لزمهم التحاكم إلى شريعة الله بداهة، وإلا انتفى الإيمان عنهم إن أعرضوا عن شريعة الله، واتجهوا إلى غيرها من الشرائع، وإن صلوا وصاموا وزعموا أنهم مسلمون!

{ وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ }{ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ } (النور : 47-48)
{ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } (النساء : 65).

حقيقة إنه لا يمكن في عالم الواقع أن يحكم الإسلام ما لم يكن هناك مؤمنون، يصرون على تحكيم شريعة الله، ويرفضون أي شريعة سواها، يقيناً منهم أن الرضى بشرع غير شرع الله كفر مخرج من الملة. . وأن هذه العينة من المؤمنين هي الآن قلة في المجتمع تستضعفهم الجاهلية وتعصف بهم . هذه حقيقة، ولكن مقتضاها هو أن نظل ندعو، ونظل نبين للناس هذه الحقيقة، أنه لا إيمان لأحد إذا رضي بشرع غير شرع الله، ونظل نربي الناس على مقتضيات هذه الحقيقة، حتى تصبح القاعدة المؤمنة من القوة بحيث يصبح في يدها مقاليد الأمور، وهذه هي مهمة الدعوة في وقتها الحاضر، مهما طال بها الأمر لتحقيقها، وليست مهمتها أن تستفتي الناس عن طريق صناديق الانتخاب: هل يريدون أن يكونوا مسلمين أم لا يريدون!
فهل وضحت هذه القضية في حس الدعاة أنفسهم، فضلاً عن الجماهير، أم إنهم انزلقوا بغير وعي منهم إلى معايير الديمقراطية التي تجعل الجماهير - في ظاهر الأمر على الأقل (1) - هم المحكمين في نوع الحكم، وليس الله الذي له الخلق والأمر : { أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ } (الأعراف: 54). وهذا مفرق طريق رئيسي بين الجاهلية والإسلام!
* * *
_________
(1) في مسرحية الديمقراطية تتوهم الجماهير أنها هي التي تحكم ، بينما الحكم في الحقيقة في يد الرأسمالية! أما من وجهة النظر الإسلامية فسواء كان الحكم للجماهير حقيقة أم كان في يد الرأسمالية فهو في الحالين تشريع بغير ما أنزل الله.
هل تم بناء القاعدة على أسس متينة
؟
نقول بادئ ذي بدء : إنه إذا كانت لم تتبلور بعد قضية لا إله إلا الله، ولا قضية الشرعية في حس بعض الدعاة على الأقل، فكيف تكون القاعدة قد قامت على المواصفات المطلوبة؟
إن القاعدة المطلوبة - وهي تتكون أساساً من جيل الدعاة الذين يعدون لنشر الدعوة على نطاق أوسع - تقوم على أساسين كبيرين : فهم واع لحقيقة الإسلام، وتربية عميقة على متطلبات هذا الدين وتكاليفه.
وقد رأينا أن الفهم الواعي لحقيقة الإسلام، ما زال يعتريه النقص في قضيتين رئيسيتين من قضايا الإسلام، وهما قضية لا إله إلا الله، وقضية الشرعية، فضلاً عن قضايا أخرى سيأتي الحديث عنها فيما بعد، تتعلق بمنهج الحركة، أما التربية فشأنها أخطر، والنقص في مجالاتها أشد.
وإذا رجعنا إلى النشأة الأولى، فقد كان الهم الأكبر لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الفترة المكية هو تربية القاعدة على أسس متينة غاية في المتانة، راسخة شديد الرسوخ، فائقة من جميع المجالات: الإيمانية والأخلاقية، التصورية والسلوكية، الوجدانية والعملية.

وقد لا يتكرر جيل مثل جيل الصحابة رضوان الله عليهم إلى قيام الساعة - وإن لم يخل جيل من الأجيال من أفراد على ذلك المستوى الرفيع - ولكن يبقى موضع القدوة لنا في ذلك الجيل الفريد، أن القاعدة ينبغي أن تكون على أعلى ما هو متاح لها من إمكانات الرسوخ العقدي والسلوكي، وأعلى درجة في حدود طاقتها من التمثيل الصادق لحقيقة الإسلام، لأنه على أكتافها ستقوم الدعوة، وفي أشخاصها ستكون القدوة، وعلى جهدها يتوقف مردود الحركة في إزالة الغربة الثانية للإسلام، كما ألقى على عاتق الجماعة الأولى مهمة إزالة الغربة الأولى للإسلام.
وسنخصص لموضوع التربية فصلاً رئيسياً من فصول الكتاب، ولكن نقول هنا: إنه يجب علينا أن نعلم ابتداءً أن المطلوب للجولة الحالية - بالنسبة للقاعدة - ليس أي مستوى على علاته، إنما مستوى خاص؛ لأنها تقوم بمهمة خاصة، وتواجه عقبات من نوع غير عادي، وعداوة فذة في كيدها وتدبيرها، ومقدار الغل الذي تحمله في صدرها للإسلام. وليس أي مستوى يصلح لتلك المهمة العظيمة، ولا لمواجهة تلك العقبات وتلك العداوات.

وعلى الرغم من المشقة الواضحة في الوصول إلى المستوى المطلوب، فإنه أمر لا حيلة فيه ولا غنى عنه، والأمة - ممثلة في طليعتها - تدفع ثمن تقاعسها وتفلتها من حمل تكاليف هذا الدين، ذلك التقاعس الذي أوصلها إلى تداعي الأمم عليها كما تداعى الأكلة على قصعتها. ولابد من جهد غير عادي تبذله اليوم، يعوض شيئاً من ذلك التقاعس الذي استمر أكثر من قرنين من الزمان، تمكن العدو فيهما من الأمر، وجثم على صدر الأمة لا يريد أن يتحرك.
وإذا كان الجيل الأول، وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والوحي يتنزل عليهم، قد بذلوا جهداً غير عادي لإزالة الغربة الأولى للإسلام. فنحن - وليس فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشخصه، ولا يوجه الوحي خطانا توجيهاً مباشراً كالجيل الأول - أحوج إلى بذل أقصى غاية الجهد، مستعينين بالله العلي العظيم، الرءوف الحليم، أن يبارك جهدنا ويسدد خطانا، ويكتب على أيدينا إزالة الغربة الثانية.

وأشد المجالات حاجة إلى بذل الجهد هو بناء القاعدة، ولكن الذي نراه اليوم من عثرات في العمل الإسلامي دليل لا يخطئ على أننا تعجلنا الخطى، ولم نعط قضية التربية ما تستحقه من الجهد، بل لم ندرك في بعض الأحيان أن هذا الأمر أو ذاك محتاج إلى تربية وإعداد!
* * *
هل اتسعت القاعدة إلى الحد المعقول، الذي يتناسب ما هو مطلوب منها في الجولة الحالية؟!

فأما إن قصدنا القاعدة الجماهيرية، فقد اتسعت ولا شك من خلال عمل الدعوة الدائب، ما يزيد على نصف قرن، ومن خلال الشهداء الذين قدموا أرواحهم ودماءهم في سبيل الدعوة، ومن خلال حماقات الجاهلية في إراقة الدماء والسجن والتشريد والتعذيب للمسلمين، وتلك سنة ربانية يغفل عنها الطغاة دائماً : أن الدعوة التي يقدم لها الدم لا تموت! والطغاة يحسبون أنهم إن أكثروا من إراقة الدماء، والسجن والتشريد والتعذيب، فسيقضون على الدعوة، ويجعلون هذا تحدياً قائماً أمامهم لا بد أن ينتصروا فيه، فيكون هذا ذاته هو قدر الله لتمحيص المؤمنين، ومحق الكافرين في نهاية المطاف: { وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ }{ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ }{ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ } (آل عمران : 139-141).

نعم، اتسعت القاعدة الجماهيرية، وتفرعت وتشعبت وشملت العالم الإسلامي كله، وانضم إليها ألوف وألوف من الشباب، ولدوا في ظل النظم الجاهلية، ولكن أراد الله لهم أن يختاروا طريق الإسلام، متأثرين بنشاط الدعوة وحماقات الجاهلية، ولكن ما وزن هذه الجماهير بالنسبة للحركة؟
أما أن الدعاة قد فرحوا باتساع القاعدة على هذا النحو فأمر لا شك فيه، وأما أن هذه الجماهير قد جندت أنفسها للدعوة، كما جند الأنصار أنفسهم لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فأمر تحوطه الشكوك!
ونسأل أولاً : هل هذه الجماهير المتحمسة للإسلام تظل على حماستها حين ترتكب الجاهلية حماقاتها، فتقتل المسلمين وتعذبهم وتشردهم، وتسلبهم أمنهم وطمأنينتهم، وتلاحقهم بالأذى والتنكيل، أم يقول قائلهم يومئذ : لذلك الحد لم تبلغ صداقتنا! ويتخلى عن الطريق؟!
بل لو فرضنا جدلاً أن المسلمين تولوا الحكم في بلد من البلاد، فقامت الجاهلية العالمية: الصليبية الصهيونية، تحاربهم بالحصار الاقتصادي - ودع عنك الوسائل الأخرى - فهل تصبر هذه الجماهير المتحمسة على الجوع من أجل إقامة حكم الإسلام؟ أم ترتد على أعقابها بحثاً عن لقمة الخبز؟!

بل لو فرضنا جدلاً أن المسلمين تولوا الحكم في بلد من البلاد ولم تتعرض لهم الجاهلية العالمية بالحرب، لا الحرب الاقتصادية ولا غيرها من أنواع الحرب، ولكنهم فقط ألغوا الأغاني المتسيبة المتميعة من الإذاعة، وألغوا المشاهد الخليعة من التلفزيون، وحرموا التبرج في الطريق. فهل هذه الجماهير المتحمسة ستظل كلها على حماستها، أم يتقاعس بعضها على الأقل ويقول: هذا تزمت لا موجب له!!
أليس من الضروري أن تتلقى هذه الجماهير قدراً من التربية على الأقل، لكي تجند نفسها لتكاليف الإسلام، ولا تنفر من هذه التكاليف حين يواجهها الأعداء بالحرب، أو حين تقام في الأرض أحكام الإسلام؟
ومن الذي يربي تلك الجماهير، والقاعدة ذاتها لم تستكمل حظها من التربية، ولم تعد نفسها للتوسع الجماهيري، فجاءت الجماهير تلهبها الحماسة فلم تجد المربين؟!

أما الحديث عن التجرد لله فحديث شائك! وما بنا أن نتكلم في حق أحد بعينه، وما نبرئ أنفسنا، والله وحده هو المطلع على دخائل النفوس: { يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ } (غافر: 19) . ولكنا نقول فقط إن ظاهرة التنازع والشقاق والتشرذم التي تحيط بالعمل الإسلامي اليوم تحمل دلالة معينة: أن هناك نقصاً في تربية ((الأخوة الإسلامية)) في نفوس العاملين في حقل الدعوة، ونقصاً في التجرد الحقيقي لله.
ليس الخلاف في ذاته عيباً، وإن كان ينبغي أن تكون له ضوابط تضبطه، بحيث لا يصبح تعصباً لهوى في النفس، أو لشخص من الأشخاص، أو فرقة من الفرق. وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يختلفون، ولكنهم لم يكونوا يفترقون، وهذا هو محور القضية. حين نختلف ونحن متجردون لله، متجردون للحق، فسيقل التنازع والشقاق والتشرذم دون شك، وتقل ظاهرة التحزب القائمة اليوم في العمل الإسلامي، والتي تؤدي إلى التعصب للرأي، وللفكر، وللقائد، وللجماعة، وللطريق.

وبطبيعة الحال ليس الاجتماع مطلوباً في ذاته ولو كان على الخطأ، فالخطأ لا يخدم الدعوة، والإصرار عليه مفسدة، ولكن التجرد في بيان الحق أدعى إلى تأليف القلوب، من التنابذ بدعوى تصحيح الخطأ وإظهار الصواب!
وخلاصة القول: أننا تعجلنا الطريق، وأن أمامنا مشواراً لا بد أن نقطعه، لنستحق عند الله التمكين.
لقد بين الله لنا طريق التمكين : { هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ }{ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }{ يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ }{ يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ } (الأنفال: 62-65)
فتلك شروط أربعة، في أربع آيات متواليات من سورة واحدة، تبين الشروط الأساسية للنصر: وجود مؤمنين صادقي الإيمان، متآلفة قلوبهم، متجردين لله، مستعدين للقتال حين تقتضي ذلك ظروف الجهاد.
فإذا نظرنا إلى واقع الدعوة في ضوء هذه الشرط فسنجد ولا شك أننا قطعنا شوطاً، ولكننا استعجلنا الطريق!

أسباب التعجل في الحركة المعاصرة
والنتائج التي ترتبت عليه
هناك ثلاثة أسباب رئيسية أدت إلى التعجل في الحركة المعاصرة :
أولاً : عدم التقدير الدقيق لمدى بعد الأمة عن حقيقة الإسلام .
ثانياً : الانخداع بحماسة الجماهير، والظن بأن المهمة وإن كانت شاقة فهي قريبة المنال.
ثالثاً : عدم التقدير الكافي لرد فعل الأعداء .
وسنتناول كل واحد من هذه الأسباب بشيء من البيان .
حين بدأت الدعوة قبل أكثر من نصف قرن، لم يكن حال الأمة قد انكشف تماماً من كل جوانبه، فقد كانت بقايا من المظاهر الإسلامية تخايل للرأي، فيظن أن الخير باق ما يزال. لم يكن الغزو الفكري قد تمكن من الأمة تمكنه الحالي، وكانت بقايا التقاليد تستر الخواء القابع وراءها، فلا تظهر الصورة على حقيقتها.

فأما الغزو الفكري فكان قد بدأ منذ وقعت بلاد العالم الإسلامي في قبضة الغرب، وبدأ العالم الإسلامي من جانبه ينبهر بما عند الغرب من تقدم مادي وعلمي، بينما المسلمون يومئذ متخلفون في جميع الميادين، ثم عملت مناهج التعليم ووسائل الإعلام على تعميق الغزو وترسيخه، وتخريج أجيال تنسلخ تدريجياً من الإسلام، وتدخل تدريجياً في عملية التغريب. ولكنه حين بدأت الدعوة قبل أكثر من نصف قرن، لم يكن قد آتى ثماره كاملة، فلم يكن يتعرى على الشاطئ إلا نساء الطبقة الأرستقراطية! أما بنات الطبقة المتوسطة فكن ما زلن يستحين من ذلك العري، وإن اشتهته أنفسهن من كثرة ما تنشر الصحف والمجلات من صوره وأخباره! وأما بنات الشعب فكن ينفرن منه نفوراً ويستنكرنه استنكاراً! وكانت الصداقات ((البريئة!)) بين الأولاد والبنات تتم على استحياء شديد، وفي تكتم عن الآباء والأمهات، والفتاة التي تستعلن به تعتبر ساقطة في نظر الناس! وكان الفكر الغربي ينشر في الصحف والكتب إما منسوباً إلى أصحابه الأصليين من مفكري الغرب، إذا كان الناقل أميناً يحترم نفسه، وإما مسطواً عليه ومنسوباً إلى ناقله في كثير من الأحيان! وكان المسرح، وكانت السينما، وكانت

الإذاعة، كلها تعمل لحساب الغزو الفكري، ولكن روادها بعد محدودون، وتأثيرها بعد ما يزال في منشئه.
باختصار لم تكن عملية التحول قد تسارعت بالدرجة التي صارت إليها فيما بعد، والتي قفزت قفزات سريعة بعد الحرب الكبرى الثانية بصفة خاصة.
ومن جانب أخر كانت بقايا التقاليد ما تزال قائمة، يخيل للرائي أنها ستصمد لضغط الغزو الفكري، كما صمدت حوالي نصف قرن قبل ذلك! فقد كان ما يزال هناك من يرتاد المساجد من الشباب، حتى في العواصم الكبرى التي تركز فيها الغزو الفكري، وفي رمضان يصوم الصغار والكبار، ولا يجرؤ أحد أن يستعلن بتناول طعام أو شراب، حتى لو كان مفطراً في واقع الأمر! وكان الزواج يتم بمعرفة الأبوين وعن طريقهما في أغلب الأحيان، وكانت الأسرة ما تزال متماسكة، لرب الأسرة فيها كلمة مسموعة، والأولاد والبنات متقيدون بالتقاليد العامة لا يخرجون عنها، ومن خرج عليها يجد من الناس الإعراض والنفور؛ أما الريف فكان في مجموعه باقياً على حاله كما كان منذ أجيال، يستنكر الفساد الموجود في المدينة، ويتحسر على ((أيام زمان)).
في مثل هذه الظروف كان يمكن أن تخفي على الرائي حقائق كثيرة!

لقد كان الإسلام قد تحول منذ فترة غير قصيرة إلى مجموعة من التقاليد أكثر منه شحنة حقيقية حية . وفي فترة معينة في حياة الأمم يكون تمسك الناس بالتقاليد شديداً، إلى حد يتوهم معه الإنسان أن الناس على دين حقيقي! ولكن التقاليد تجف بعد فترة حين ينقطع عنها المدد الحي الذي يمنحها الحيوية والفاعلية، فتبدأ تيبس وتجمد من ناحية، وتفقد تماسكها من ناحية أخرى. وقد تبقى على ذلك قروناً إذا لم يحدث تغيير عنيف في المجتمع، وإن كان مالها إلى التفتت والانهيار في النهاية، بفعل عوامل ((التعرية)) الفكرية إن صح التعبير؛ أما حين تحدث تغييرات عنيفة فإن التقاليد لا تستطيع أن تصمد، وسرعان ما تنهار.
والذي حدث في العالم الإسلامي أن معاول الهدم- المتمثلة في الغزو الفكري- كانت عنيفة شديدة العنف، موجهة بشدة لهدم الإسلام ذاته فضلاً عن تقاليده الظاهرية، فلا جرم تنهار التقاليد انهياراً سريعاً تحت طرقات المعاول التي تعمل ليل نهار، في دأب لا يفتر، وإصرار لا يتحول عن أهدافه.

وفي نصف قرن تغيرت الأمور تغيراً مريعاً، حتى لكأن الأمة الأولى قد ذهبت، وجاءت بدلاً منها أمة أخرى لا صلة بينها وبينها إلا تشابه الأسماء! وسرى الفساد الذي أطلقوا عليه اسم((النهضة)) سريعاً، كسريان السم في البدن الملدوغ. فلم تعد بنات الأسر الارستقراطية وحدهن هن اللواتي يتعرين على الشاطئ، إنما صارت بنات الطبقة الوسطى، ورويداً رويداً وصلت العدوى للريف! وصارت العلاقات بين الأولاد والبنات- البريء منها وغير البريء- شيئاً عادياً في المجتمع، بل أصبحت إحدى أصوله. وتفككت الأسرة ولم يعد سلطان عليها، وصار للأولاد والبنات شأنهم الخاص الذي لا يجوز للوالدين أن يتدخلا فيه. وأصبح((الدين))عموماً علامة الجمود والانغلاق، وعلامة التخلف عن ركب الحياة الحي المتحرك، وأصبح الثبات على أي شيء عيباً يعير به صاحبه، لأن الأصل في الأشياء هو التطور وليس الثبات!
في نصف قرن حدث هذا كله، ونسب إلى التطور وإلى النهضة، وإلى مواكبة العالم المتحضر، وإلى ثورة التكنولوجيا وثورة الاتصالات!

وما كان يمكن بطبيعة الحال أن يبقى العالم الإسلامي خارج الأحداث التي تمور بها الأرض، ولكن صورة أخرى مختلفة تماماً كانت قمينة أن تحدث، لو أن الإسلام كان حيا في نفوس أصحابه، وليس مجرد تقاليد خاوية من الروح.
فأما التقدم العلمي والتكنولوجي فهو لا يشكل مشكلة للإنسان المسلم، وقديماً استوعب المسلمون كل الحركة العلمية التي كانت قائمة في الأرض، ثم أخذوا يضيفون إليها إضافات جذرية، أبرزها استخدام المنهج التجريبي في البحث العلمي، فضلا عن كشوف علمية أخرى كانت هي نواة التقدم الحالي. ولكن المسلم لا تهتز عقيدته حين يتعلم العلم، ولا يهتز إيمانه بالله واليوم الآخر، لأنه صاحب كيان سوي تتجاوز فيه- وتتعاون- نزعة الإيمان ونزعة المعرفة، بلا تعارض ولا تناقص ولا تضاد: { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } (فاطر: 28).

إنما حدث التعارض والتناقض في أوروبا، نتيجة خلل في الدين الذي كانت تعتنقه، وخلل في الكيان الذي أورثها إياه ذلك الدين، لا لأن الدين بطبيعته مناقض للعلم، ولا لأن العلم يمكن أن يكون بديلا من الدين! ولو أن الإسلام كان حياً في نفوس أصحابه، وليس مجرد تقاليد خاوية من الروح، فقد كانت الأمة الإسلامية قمينة أن تقدم للبشرية نموذجاً حضارياً مختلفاً عن النموذج الجاهلي الغربي الذي ينتقل من اختلال إلى اختلال، والذي لا يستوعب في أي طور من أطواره إلا أحد شقي الإنسان: إما الشق الروحي، وإما الشق المادي. إما الشق الذي يعمل من أجل الآخرة، ويهمل الحياة الدنيا، وإما الشق الذي يعمل من أجل الدنيا ويهمل الآخرة، ويعجز في جميع الأحوال عن استيعاب الإنسان كله كما خلقه الله، بشقيه معاً مجتمعين مترابطين: قبضة الطين ونفخة الروح: { إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ }{ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ } (ص: 71-72).

وإن عجز الأمة عن استيعاب التقدم العلمي والتكنولوجي الحادث في الأرض، وعجزها عن تقديم النموذج الحضاري المتميز، كانت له دلالة لا ينبغي أن تفوت صاحب الدعوة. دلالته العامة أن الشعلة الحية لهذا الدين في نفوس أصحابه قد خبت، أو ضعفت إلى الحد الذي يعجزها عن التفاعل الحي مع الأحداث، كما تفاعلت من قبل مع أحداث التاريخ. وهذا الضعف لا بد له بطبيعة الحال من أسباب، فهو ليس من طبيعة هذا الدين الحي المواري بالحيوية، الذي صنع الأعاجيب في حياة البشرية كلها، حين آمن به أصحابه إيماناً صادقاً واعياً، وتحركوا به في دنيا الواقع. ولا بد أن تكون هناك أمراض أصابت القلب فمرض الجسد كله: « ألا إن في الجسد مضغةً إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب » (1) . ولو انكشفت تلك الأمراض لأصحاب الدعوة من أول الطريق، لعملوا على علاجها أولاً قبل الانطلاق. لو اتضح لهم أن كل ألوان التخلف التي وقع فيها المسلمون، من تخلف علمي ومادي وسياسي وحربي وحضاري وثقافي، نشأت كلها من التخلف العقدي الذي أصابهم في الفترة الأخيرة بصفة خاصة، لوضعوا منهجاً للدعوة غير الذي ساروا عليه بالفعل، ولكانت لهم رؤية مختلفة في طريق
_________
(1) أخرجه البخاري.

العلاج.
ولا شك أن حقيقة بعد الأمة عن الصورة الصحيحة للإسلام، كانت واضحة وضوحاً كاملاً للدعاة؛ لأنها كانت أظهر من أن تخفى على أحد. ولكن مدى هذا البعد ونوعيته، هما اللذان كانا خافيين تحت قشرة التقاليد الخادعة، التي تخيل للرائي أن البناء تحتها ما يزال سليماً، أو أنه لا يحتاج إلا إلى ترميمات قليلة هنا وهناك!
كان ينبغي للدعوة أن تكشف عن الأساس ذاته، لترى إن كان قد بقي سليماً، أم تهرأ خلال الهزات المتوالية التي مرت بالأمة خلال التاريخ، ليتقرر في حسها نقطة البدء: هل هي ترميم البناء، أم تجديد الأساس.
لم يكن الفساد الذي ألم بالأمة هو فساد السلوك وحده، إنما تعدى ذلك إلى فساد المفاهيم، وفساد المفاهيم أخطر كثيراً وأشق علاجاً من فساد السلوك.
حين يفسد سلوك فرد أو جماعة أو أمة، مع وجود مفاهيم صحيحة، فالإصلاح- مهما بلغت مشقته- أيسر منالا وأقرب رجاءً مما لو كانت المفاهيم ذاتها قد فسدت، لأنك عندئذ تحتاج إلى جهد مضاعف، جهد في تصحيح المفاهيم وهو الأشق، وجهد في تصحيح السلوك.

وحين بدأت الدعوة كانت المفاهيم كلها في الحقيقة قد فسدت- كما ألمحنا من قبل- حتى مفهوم لا إله إلا الله، بل بدءاً بمفهوم لا إله إلا الله، فلم يبق منها غير الكلمة المنطوقة باللسان، إلى جانب بعض الشعائر التعبدية عند بعض الناس، يؤدونها تقليداً أكثر مما يؤدونها أداء حياً واعياً، يربط الإنسان بمنهج حياة متكامل، يشمل الحياة كلها: عبادتها وعملها، سياستها واقتصادها، روابطها الاجتماعية وروابطها الفكرية كلها في آن.
كانت عوامل كثيرة قد أثرت في إفساد مفاهيم الإسلام الأساسية في حس الناس، فلم يعودوا على وعي بها في صورتها الصحيحة التي أنزلت بها من عند الله، ووعاها ومارسها الجيل الأول رضوان الله عليهم، والأجيال التي تلته.
كان الفكر الإرجائي قد أخرج العمل من مسمى الإيمان،! وزعم أن الإيمان هو التصديق والإقرار لا أكثر! وأن من قال: لا إله إلا الله فهو مؤمن، ولو لم يعمل عملاً من أعمال الإسلام!

وكان الفكر الصوفي قد حول الإسلام إلى سبحات روحية، وأوراد وأذكار، وهيام وجداني لا يتحرك في واقع الأرض، ولا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر، ولا يقوم بجهاد، فضلاً عن الخلل العقدي في عبادة الأضرحة والأولياء والتقدم إليها بألوان من العبادة لا تجوز لغير الله.
وكان الاستبداد السياسي منذ بني أمية، فبني العباس، فالمماليك، فالعثمانيين، قد صرف الناس عن الاشتغال بالأمور العامة، ووجههم إلى الاهتمام بشئونهم الخاصة، وحصر مفهوم العبادة في الشعائر التعبدية، والفضائل الفردية التي لا تتدخل في شئون المجموع.
وتحول التوكل إلى تواكل سلبي دون الأخذ بالأسباب، وتحولت عقيدة القضاء والقدر إلى تخاذل وتقاعس، بعد أن كانت عقيدة إقدام وجرأة في مواجهة الأعداء والأحداث: { قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ }{ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ } (التوبة: 51- 52).

وانفرج الطريق بين العمل للدنيا والعمل للآخرة، بعد أن كان طريقاً واحداً أوله في الدنيا وآخره في الآخرة: { وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا } (القصص: 77). { هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } (الملك: 15). فأهمل مجموع الأمة طريق الدنيا، من علم وقوة وتمكن في الأرض وعمارة لها وتحسين لأحوالها، وانصرفوا إلى ما ظنوا أنه يقربهم إلى الله، من حلقات الذكر وهيمان الوجد، بينما انصرف مجموعة من شرار الناس إلى الدنيا بمغرياتها، من أموال وبنين وزينة وزخرف وترف وتسلط على الناس، ونسوا البعث والنشور، والحساب والجزاء، فعاثوا فساداً في الأرض، والأمة في قبوعها السلبي لا تتعرض لهم بسوء!
وهذه الأمراض كلها، التي أفرغت الدين من محتواه الحي، وأفرغت لا إله إلا الله من شحنتها الفاعلة، كانت تستلزم البدء بتصحيح مفهوم لا إله إلا الله، وتربية قاعدة صلبة راسخة البناء، قبل التوجه إلى تجميع الجماهير!
* * *

وإذا كانت بقايا التقاليد، التي كانت قائمة في المجتمع عند بدء الدعوة، قد خدعت الدعاة عن حقيقة المرض الذي أصاب الأمة في أساس عقيدتها، فإن حماسة الجماهير في تلقي الدعوة قد زادتهم انخداعاً عن حقيقة الواقع.
تلقت الجماهير الدعوة بحماسة ملحوظة، وتجمع حول الإمام الشهيد في سنوات معدودة، ما يقدر بنصف مليون من البشر فيهم الكثير من الشباب، وتلك نسبة عالية إذا قدرنا أن تعداد الشعب المصري كله في ذلك الوقت كان أقل من عشرين مليوناً، وإذا استبعدنا من تعداد النساء والأطفال والشيوخ، الذين لا يفكرون في الانشغال بأي أمر من الأمور العامة، أو يرحبون بأي جديد يظهر في الساحة!
ولا شك أن الفيض الروحي الذي كان يتمتع به الإمام الشهيد، وقدرته الفائقة على التأثير في مشاعر الناس، كان لها أثر في تلك الحماسة الفياضة التي قوبلت بها الدعوة من جمهور كبير من الناس، وما كان يمكن لشخص لا يملك تلك الموهبة، أن يجمع هذا الحشد الهائل من البشر، في مثل هذا الوقت القصير.
ولكن فلننظر من جانب آخر في تلك الجماهير، لأي شيء تجمعت على وجه التحديد؟

لقد وجدت تلك الجماهير من يشبع جوعتها الروحية، بطريقة ((متنورة)) تختلف عن حلقات الذكر التي يلجأ إليها العامة لإشباع روحانيتهم عند مشايخ الطرق الصوفية، والتي كان المثقفون ينفرون منها ولكنهم يفتقدون البديل المتنور، فوجدوه في شخص الإمام الشهيد وكلامه المؤثر، يشبع روحانيتهم ويحافظ في الوقت ذاته على وعيهم، فلا يغرق في الخدر الذي يسلب الشعور. ووجدت من يحيي آمالها في عودة الإسلام إلى الوجود، بعد النكسة الحادة التي أصابت الناس بزوال الخلافة. ووجدت من يرتفع بها عن ألوان الدنس التي كانت قد أخذت تلوث المجتمع، ويردها إلى المثل الرفيعة والأخلاق الفاضلة. وكل ذلك دون أن يتعرضوا لأية مخاطر، ولا يبذلوا من الجهد أكثر من الحضور والاستماع!
ولكن هذه الجماهير التي جاءت بهذه السهولة ذهبت بالسهولة ذاتها حين بدت في الأفق بوادر المخاطر! ذهبت ولم تعد! فما كان في تقديرها قط أن حضورها واستماعها سيعرضها لأية مخاطر، ولا كانت مستعدة أي استعداد أن تعرض نفسها للمخاطر. ولو عرفت ذلك أو توقعته من مبدأ الأمر ما جاءت ولا فكرت في المجيء!

لم يبق حول الإمام الشهيد إلا الذين رباهم على عينه، ووهب لهم طاقته الحقيقية وجهده الحقيقي.
هل كان كسباً للدعوة مجيء هذه الجماهير الحاشدة التي فرت عند أول بوادر الخطر، أم كان أحد أسباب التعويق؟
سننظر في هذا الأمر حين نستعرض ردود فعل الأعداء. ولكن لنا هنا وقفة: ما الذي جعل الدعوة تتجه في تلك الفترة الباكرة إلى الجماهير؟! إنه وهم حسن النية، يحسن الظن بأحوال الناس، ويعتقد أن نقطة الخلل عندهم هي فساد السلوك، فإذا وعظوا بالقول المؤثر فقد انحلت المشكلة، واستقامت هذه الجماهير على طريق الإسلام، وأصبحت جنوداً مخلصة للدعوة، أو في القليل خامات صالحة للتجنيد، فتتحرك بهم الدعوة نحو الهدف المنشود!

لم يتضح لأصحاب الدعوة في مبدأ الأمر- كما اتضح لهم فيما بعد- أن الخلل ليس مقصوراً على فساد السلوك، ولكنه واصل كذلك إلى المفاهيم، وخاصة فيما يتعلق بتحكيم شريعة الله، وأن الأمر في حاجة إلى جهد لتوصيل الحقيقة إلى الجماهير. لقد اتضح ذلك فيما بعد (1) . ولكن بعد ما كانت الدعوة قد قطعت شوطاً في التوجه إلى((الجماهير))، على أساس أنها صالحة- بالموعظة المؤثرة والشحن العاطفي- أن تكون جنوداً مخلصة للدعوة، أو في القليل خامات صالحة للتجنيد. وبعد ما كان هذا التوجه إلى الجماهير، وحشدها بهذه الصورة، والتحرك بها على الساحة السياسية، قد أثار ردود الفعل المتوقعة وغير المتوقعة عند الأعداء.
عندما تتحرك الجماهير تنزعج السلطات المحلية، وحينما تكون الحركة إسلامية تنزعج السلطات المحلية والسلطات العالمية في آن واحد. وقد يكون انزعاج السلطات العالمية أشد! ولكي ندرك هذا الأمر على حقيقته ينبغي أن نقرأ صفحات من التاريخ.
_________
(1) أنشأ الإمام الشهيد عام1948 سلسلة مقالات بعنوان((معركة المصحف)) بين فيها بوضوح أن أوضاع الأمة ليست إسلامية، وأنها لا تكون إسلامية حين تحكم شريعة الله دون غيرها من الشرائع. وهذا المعنى بهذا التحديد لم يكن واضحا في خط سير الدعوة الأول، وكان بداية مرحلة جديدة من التوجيه. ولكن هذه السلسلة توقفت بسبب قيام حرب فلسطين، ثم اغتيل الإمام الشهيد في فبراير سنة 1949 قبل أن يستوعب أتباعه الاتجاه الجديد.

في القرنين الأخيرين، كان قد ظهر جلياً أن أحوال العالم الإسلامي في تدهور مستمر في جميع المجالات. فالدولة العثمانية التي كانت أوروبا تخشاها وترهبها، قد أخذ سلطانها يتضاءل ويتقلص، وبدأت روسيا القيصرية تعدو على أملاكها دون أن تستطيع الرد، أو استرداد ما تفقده من الولايات، وتمردت بلاد البلقان بتحريض الدول الأوروبية، وتمردت الأقليات في داخل العالم الإسلامي، وبدأت الدولة تترنح تحت وقع الأحداث. أما الأمة الإسلامية فلم تكن أحوالها أقل سوءاً، فالتخلف يحيط بها من كل جانب، والجهل والفقر، والانغلاق على النفس، والتبلد على الأحداث. عندئذ رأت أوروبا أن الفرصة قد سنحت أخيراً للقضاء على عدوها القديم، فاجتمعت وتآمرت، وخططت للاستيلاء على العالم الإسلامي
24akhbar
تابع الكتاب
مُساهمة 02.08.10 17:59 من طرف 24akhbar
لم يكن أحد من القائمين بالدعوة يتوقع لها السلامة من الأذى، فذلك حسب السنة الجارية في حكم المستحيل، ولكن أحداً لم يكن يتوقع أن يصل الأذى إلى هذا الحد الوحشي الذي وقع بالفعل. أن يطلق الرصاص على قائد الجماعة في الشارع في وضح النهار، ثم ترفض المستشفيات إسعافه لينزف حتى الموت بأمر الدولة وتدبيرها، ويؤخذ ألوف من الشباب فيعذبوا في السجون بوحشية تع عنها الوحوش. كل ذلك لم يكن في الحسبان، ولم يكن أحد يتخيل أن يحدث.
ولا شيء بطبيعة الحال يمكن أن يبرر لتلك الوحوش البشرية وحشيتها، مهما حاولت أن تستر جرائمها بدعوى المحافظة على الأمن، أو القضاء على الفتنة، أو ما شابه ذلك من الدعاوى، التي لا تستر شيئاً في الدنيا، ويوم القيامة { يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ } (النور:25).
ولكنا نسأل من جانب أخر، هل كانت الحركة تسير على منهج صحيح، أم إنها تعجلت في حركتها قبل الأوان؟

ولا يحسبن أحد أن الحركة كانت ستهادن لو أنها سلكت مسلكاً أخر. فقد رأينا كيف كان رد الملأ حين عرض عليهم شعيب عليه السلام أن يصبروا حتى يحكم الله بينهم : { وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ }{ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ } (الأعراف : 87-88)
كلا ! لا يمكن أن تطيق الجاهلية دعوة لا إله إلا الله، ولا أن تهادنها أو تصبر عليها.

ولسنا نقول: إن الحركة لو استقامت على منهج صحيح كانت ستنجو من الأذى الذي يمكن أن يصل إلى حد التعذيب والقتل، فإن الجماعة الأولى التي رباها رسول الله صلى الله عليه وسلم على عينه، وسارت على أعظم منهج يمكن لحركة أن تسير عليه، إذ كان الوحي الرباني هو الذي يتولى توجيهها خطوة بخطوة، لم تسلم من الأذى، الذي وصل إلى حد التعذيب والتشريد والتجويع والقتل. فليس السير على المنهج الصحيح مطلوباً من أجل حماية الأشخاص القائمين بالدعوة! إنما هو مطلوب من أجل الدعوة ذاتها، من أجل أن تؤتي ثمارها كاملة، وتؤدي رسالتها على الوجه الأكمل.
عوجلت الحركة معاجلة عنيفة، ولما تستكمل بناء قاعدتها على أساس متين . لقد خرجت فدائيين مخلصين مستعدين أن يموتوا في سبيل الله، ويحتملوا الأذى في شجاعة من أجل الدعوة إلى الله . وخرجت قوماً تربط بينهم أخوة في الله، تعدل بل تفوق عندهم رابطة الدم. وخرجت قوماً نظيفي التعامل، لأنهم يخافون الله. وخرجت قوماً فيهم إيجابية وجلد على بذل الجهد. وكلها صفات طيبة مطلوبة في القاعدة، ولكنها ليست كل شيء، ولا تكفي وحدها لبناء القاعدة المطلوبة. إنهم ليسوا مجرد أفراد يتطهرون لله، وينذرون أنفسهم لله.

إنهم دعوة . تريد أن تنقذ أمة بأسرها مما هي واقعة فيه من الهوان والخسف، بسبب بعدها عن طريق الله، وهذا أمر يتطلب الكثير والكثير.
وسنتكلم عن التربية المطلوبة في الفصل القادم، سواء منها ما كان مطلوباً للقاعدة الصلبة، أو للجماهير التي تتحرك بها الدعوة . ولكنا هنا ندرس أسباب التعجل، والآثار التي ترتبت عليه.
لقد استمرت الحركة في توجهها الجماهيري قبل استكمال بناء القاعدة، والتحرك بالجماهير قبل استكمال وعيها الإسلامي، والصدام مع السلطات في معارك غير متكافئة. وترتب على ذلك نتائج لا تخدم الدعوة في كثير . استمر الغبش حول قضية لا إله إلا الله، إن لم نقل: إنه زاد، بفعل ما اختلط بها من قضايا سياسية واقتصادية واجتماعية، قبل أن تتأصل في قلوب الناس - الدعاة على الأقل - على أنها العبودية الخالصة لله أولاً، بصرف النظر عما يترتب عليها في الحياة الدنيا من نتائج سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية . ثم تكون هذه القضايا كلها حين يجيء دورها نابعة من لا إله إلا الله، ومرتبطة بها لا منفصلة عنها، ولا موازية لها، ولا مقدمة عليها.

ولا ننسى هنا أن التعجل في التحرك بالجماهير قبل أن تستكمل وعيها الإسلامي، إن لم نقل: قبل أن تكون عندها وعي إسلامي، قد أزعج الأحزاب والكيانات العلمانية على ((جماهيرها)) التي تتسرب من بين يديها وتنضم للحركة الإسلامية، فوقفت تستدرج الحركة الإسلامية عن طريقها الأصيل، في صورة تحد تواجهها به : أرونا أين برامجكم التي تنادون بها لتنزعوا بها الشرعية منا، وتزعموها لأنفسكم؟ ومن ثم اندفعت الحركة الإسلامية تبحث عن برامج ترد بها على التحدي، ليصرفها ذلك عن تحرير قضيتها الأولى، قضية لا إله إلا الله .

إن قضية لا إله إلا الله - في مرحلة التكوين بالذات- لا ترتبط في حس أصحابها الذين يتربون على المنهج الصحيح، أي ارتباط بالنتائج التي تترتب عليها في الحياة الدنيا، لا السلطان، ولا الاستقرار السياسي، ولا الوفرة الاقتصادية، ولا الهناءة الاجتماعية . فقد لا يترتب عليها شيء من ذلك كله في الحياة الدنيا؛ إنما قد يكون مصير أصحابها هو مصير سحرة فرعون الذين آمنوا، فكان نصيبهم القتل والصلب، أو مصير أصحاب الأخدود، الذين آمنوا فكان نصيبهم الحرق بالنار أحياء عن بكرة أبيهم . إنما كانوا مثلا لمن بعدهم، وكان نصيبهم الذي رضيت به أنفسهم هو رضوان الله، وجنات عدن تجري من تحتها الأنهار.
ولكن التعجل في تجميع الجماهير، والتعجل في التحرك بتلك الجماهير قبل أن تنضج، بل قبل أن تستكمل القاعدة ذاتها نضجها، هو الذي أدى إلى هذا الغبش المتزايد حول القضية الأساسية، وأصبح عماد الدعوة إلى الإسلام أن تطبيقه هو الذي سيحل جميع المشاكل السياسية والاجتماعية والاقتصادية، التي يعاني منها الناس اليوم، وبالتالي البحث عن ((البرامج العملية)) التي تواجه التحدي الذي يقدمه العلمانيون!

وكون الإسلام هو الحل، حقيقة ربانية، الله سبحانه وتعالى هو المتكفل بها بنفسه، وهو الواعد بها، ووعده الحق: { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ } (الأعراف:96) . أما أن هذا الحل سيتحقق بمجرد وصول الإسلاميين إلى الحكم، فأمر لا دليل له من كتاب الله، ولا من وقائع التاريخ، فقد عاش المسلمون سنوات من الشظف الحاد بعد توليهم السلطة، وتأسيسهم الدولة الإسلامية التي تحكم بما أنزل الله، واستمر حتى أيام عمر رضي الله عنه، والناس صابرون على الشظف وعلى المشقات كلها، لأنهم مؤمنون، ولأنهم نذروا أنفسهم للدعوة، ولأنهم يرجون الآخرة، ولا ينظرون إلى شيء من متاع الحياة الدنيا، وهذا هو الذي حقق لهذه الدعوة أن ترسخ في الأرض وتتمكن، وتمتد في الآفاق.

ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أغرى الجماهير بأنهم - إذا تسلم الإسلام السلطة - سيحلون كل مشاكلهم الأرضية، ويرفلون في النعيم، ما صبروا على شظف العيش الذي تلا تأسيس الدولة الإسلامية، واستمر بعد ذلك سنوات، ولا كانت تلك الحركة الباهرة التي غيرت وجه الأرض. وحين نوهم الناس - الذين لم تتمحض قلوبهم للا إله إلا الله - بأنهم إذا تسلم المسلمون سيحلون كل مشاكلهم في التو واللحظة، ثم يستمر الإسلاميون في الحكم سنوات والمشاكل لا تحل، بل تزداد حدة نتيجة اشتداد الصليبية الصهيونية في الحرب، فهل سيصبر الناس، الذين لم يدخلوا من باب العبودية الخالصة لله، بل من باب المصالح الدنيوية؟ هل سيصبرون على الشظف والحرمان والجهاد المر، حتى يتحقق وعد الله في أوانه المقدر عنه الله، أم سينقلبون على الحكم الذي لم يحقق لهم ما جاءوا من أجله، وأدلوا من أجله بأصواتهم في صناديق الانتخاب؟!

إنما تكون الدعوة أولاً وقبل كل شيء، لبيان واجب العباد نحو خالقهم، واجب العبودية الخالصة لله، والالتزام بما جاء من عند الله، بصرف النظر عما يترتب على إخلاص العبادة لله، في الحياة الدنيا، من كسب أو خسارة بحساب الأرض، إنما هو الجزاء الأخروي، مع بيان أن الله وعد هذه الأمة بخاصة أن يحقق لها الاستخلاف والتمكين والتأمين في الحياة الدنيا، ولكن بشرط واضح: أن يعبدوه وحده بلا شريك، ويخلصوا له العبادة، لا بمجرد أن يذهبوا إلى صناديق الانتخاب، ويحصلوا على أغلبية الأصوات، ثم يتولوا السلطة : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا } (النور: 55).

ولا شك أن الدعوة ستمضي في بطء شديد حين تكون على هذا الأساس، ولن تتجمع الجماهير بوفرة في الزمن القصير، ولكن عندئذ يكون قد بدأ التمكين الصحيح بموكب المنهج الرباني، وبموجب السنن الربانية، ويتحقق قدر الله : { وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } (يوسف:21).
* * *
ثم زاد الغبش مرة أخرى من جانبين اثنين: حين دخلت بعض فصائل الحركة في صراعات دموية مع السلطة، وحين دخلت فصائل أخرى مجالس النواب !
لقد أدى انزعاج الصليبية الصهيونية من الحركة الإسلامية، بالإضافة إلى عوامل أخرى مصاحبة، إلى تغير حاد في السياسة العالمية، ليس هنا مجال تفصيله، ولكن لا بد من إشارة سريعة إلى ما يخص العالم الإسلامي منه.

لقد خرجت بريطانيا وفرنسا منهكتين من الحرب الكبرى الثانية (1939 - 1945)، بينما خرجت أمريكا بعافيتها كاملة لم يصبها من دمار الحرب شيء يذكر، وأغرى ذلك أمريكا أن تتزعم ما كان يسمى ((العالم الحر))، وأن تطرد النفوذ البريطاني والفرنسي من أماكن سيطرته، وتحل هي محله على يد زعامات عميلة لأمريكا، تضفي عليها البطولات الزائفة، وتصور في نظر الجماهير على أنها قاهرة الاستعمار، ومخلصة الشعوب من شروره. ولكن هذه اللعبة التي ربما بدت منطقية من نتائج الحرب، كان لها هدف آخر خفي، تواطأت فيه الصليبية مع الصهيونية، ورتبتاه معاً، وهو ضرب الحركات الإسلامية في المنطقة العربية بصفة خاصة، لتأمين إسرائيل، وإتاحة الفرصة لها لكي تستقر وتتمكن، وتتوسع في الأرض الإسلامية كما تشاء، بعد ما بدا واضحاً من أن الضربة الأولى التي قتل فيها الإمام الشهيد، وعذب فيها من عذب من الشباب، لم تكن قاضية، بل كانت كأنها زاد للحركة، زادها اشتعالاً وتوسعاً في الآفاق.

ومن أجل هذا الهدف، اختير الزعماء المطلوبون بعناية . اختيروا كلهم من العسكر! وليس كل العسكر صالحين لهذه المهمة الخطيرة، فلا بد أن تتوافر فيهم شروط ثلاثة رئيسية، ولا بأس بعدها بأية إضافات : جنون السلطة، وقسوة القلب، وكراهية الإسلام. احتذاء للنموذج الأول - المعتمد عندهم - كمال أتاتورك!
وحين توجد هذه الصفات في شخص معين، فسيتجه تلقائياً لضرب الحركة الإسلامية، وبالعنف المطلوب! ومع ذلك فلم تكن الأمور تترك للمصادفة، وإنما كانت تدرس وتدبر للإيقاع بالحركات الإسلامية، (1) وقتل زعمائها وقادتها، واعتقال الألوف من شبابها، وتعذيبهم بألوان من الوحشية تقشعر لها الأبدان. وهنا تبدو ((الحكمة))! من اختيارهم من العسكر لا من المدنيين، فمع العسكر يمكن تسويغ كل شيء وتمريره، الأحكام العسكرية، والمحاكم العسكرية، وعنف البطش، وصرامة الإجراءات . أما لو كانوا مدنيين فلن تكون لهم تلك الجرأة في الإجرام، ولا تلك القوة في الانتقام، ولا ذلك العنف، ولا ذلك الإرهاب.
_________
(1) كما دبر حادث ((المنشية)) لعبد العناصر من أجل مذبحة 1954 - 1955 وغيرها من الوقائع والأحداث.

ومضت المذابح تقام للمسلمين في كل بلد تولى العسكر فيه السلطة، ولا يمكن أن يكون ذكر بالمصادفة بطبيعة الحال! كان عن قصد وتخطيط وتدبير، وعرفت المنطقة أشكالاً من التعذيب الوحشي لا مثيل لها في التاريخ، إلا ما كان من محاكم التفتيش في الأندلس، التي كان هدفها القضاء الكامل على الإسلام. وتوالت الضربات، فما تمر بضع سنوات - وأحياناً بضعة شهور - حتى تكون قد أقيمت مذبحة هنا أو مذبحة هناك، تتجاوب أصداؤها في العالم كله، وترقص لها الصليبية الصهيونية طرباً، وتفرك أيديها سروراً بنجاح (الأولاد) في أداء المهمة التي كلفتهم بها (الأم) الرءوم!

وتولد عن هذا الوضع المؤلم تياران في صفوف الحركة، مختلفان - بل متضادان - في الاتجاه، أحدهما تيار الشباب الذي استفزه ما يقوم به العسكر من إرهاب وحشي، فقرر أنه لا بد من الرد على العنف بالعنف، ظناً منه أن المقاومة المسلحة ستقضي في النهاية على عنف العسكر، وتضطرهم - أو تضطر سادتهم - إلى تغيير الأسلوب. والآخر تيار الشيوخ الذين أنهكهم توالي الضربات، فاختاروا طريق المسالمة إلى أقصى حد ممكن، وقرروا الدخول في لعبة الديمقراطية؛ لكي لا يقال عنهم إنهم من أناصر العنف . وكلا التيارين كان سبباً في مزيد من الغبش حول قضية لا إله إلا الله.
وبصرف النظر عن المبررات التي يقدمها كل فريق لتبرير مسلكه، فنحن هنا نتحدث عن الآثار التي نجمت عن التعجل في الحركة منذ البدء، والتي أضافت معوقات جديدة إلى المعوقات القائمة، أكثر مما كانت عوناً للحركة لكي تتقدم إلى الأمام، وإن بدت في نظر أصحابها خطوات إيجابية مفيدة للحركة، ومقربة إلى الهدف المنشود .

إذا أخذنا في اعتبارنا أن وضع الدعوة الآن أقرب شيء إلى وضع الجماعة المسلمة في مكة، مع بعض الاختلاف، فإن اللجوء إلى العنف لا يخدم الدعوة، ويثير حولها من الغبش أكثر بكثير مما يوضح القضية ويبينها للناس، ولا ننسى أن بيان حقيقة القضية - قضية لا إله إلا الله - عنصر أساسي في الحركة كلها - سواء بالنسبة للقاعدة، أو بالنسبة للجماهير، وأنه لا يمكن إحراز تقدم حقيقي على مسار الدعوة، ما لم تتبلور هذه القضية تصوراً وسلوكاً في حس الناس.
وحين ندخل في معارك غير متكافئة مع السلطة، وقبل أن تحدد قضية ((الشرعية)) عند الناس، يحدث أمران معاً، كلاهما ضار بالحركة :

الأمر الأول : أن القضية تتحول - بعد فترة من الصراع تطول أو تقصر - إلى قضية ضارب ومضروب، وغالب ومغلوب، وتنسى أو تهمش القضية الأساسية التي يدور حولها الصراع كله: قضية من المعبود على الحقيقة: الله أم آلهة زائفة من دونه؟ وهي القضية التي تتضمن في أطوائها مجموعة من القضايا المنبثقة عنها، المترتبة عليها : قضية من المشرع : الله، أم البشر؟ ومن مقرر القيم؟ ومن مقرر المعايير؟ ومن واضع المنهج للناس؟ تلك القضايا التي هي - منذ وضع البشر أقدامهم على الأرض إلى قيام الساعة - موضع الصراع بين الجاهلية والإسلام، بين أهل الباطل وأهل الحق، وهي التي من أجلها أرسل الرسل، وأنزل الوحي، وأقيمت الجنة والنار!
والأمر الثاني : أننا نتيح فرصة هائلة للأنظمة المعادية للإسلام، أن تزعم للناس أنها لا تحارب الإسلام، وإنما تحارب الإرهاب الذي لا يقره الإسلام، وتصدقها الجماهير بعد فترة تقصر أو تطول! وفي ذلك خسارة مؤكدة للدعوة؛ لأنها تغطي الموقف الحقيقي لهذه الأنظمة، وتؤخر في حس الناس تبلور قضية الشرعية، وهي من القضايا الرئيسية التي يتوقف عليها في النهاية مصير الصراع بين الجاهلية والإسلام.

وكذلك حين ندخل في لعبة (الديمقراطية) ، فإننا نخسر كثيراً في قضية لا إله إلا الله.
أول ما نخسره هو تحويل الإلزام إلى قضية خيار تختاره الجماهير، والله سبحانه وتعالى يقول: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } (الأحزاب:36).

إن قضية عبادة الله وحده بلا شريك، وهي قضية لا إله إلا الله، معناها أن يكون الله هو المعبود في الاعتقاد، وهو المعبود في الشعائر التعبدية، وهو المشرع، وهو مقرر القيم والمعايير، وهو واضع منهج الحياة للناس. وهي قضية إلزام لا خيار فيها للمسلم مادام مقراً بالإسلام، بل هي قضية إلزام لكل من نطق بلسانه لا إله إلا الله، ولو كان في دخيلة قلبه منافقاً كارهاً للإسلام، فإنه إن أعرض عن شريعة الله، فإنه يؤخذ بإقراره اللساني، ثم يعتبر مرتداً عن الإسلام { وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ }{ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ } (النور: 47-48). { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } (النساء:65).

وحين ندخل في لعبة الديمقراطية، فأول ما نفعله هو تحويل هذا الإلزام الرباني إلى قضية يستفتى فيها الناس، وتؤخذ عليها الأصوات بالموافقة أو الرفض، مع إتاحة الفرصة لمن شاء أن يقول: إنكم أقلية، والأقلية لا يجوز لها أن تفرض رأيها على الأغلبية . وإذن فهي مسألة رأي، وليست مسألة إلزام، مسألة تنتظر أن يصل عدد أصوات الموافقين عليها مبلغاً حتى تتقرر.
وبصرف النظر عما فعلته الجاهلية في الجزائر، حين وصلت الأصوات إلى المبلغ المطلوب - وهو درس ينبغي ألا يغفل عن دلالته أحد ممن ينادون باتباع هذا الطريق - فإن القضية يجب أن تتحدد على أساس آخر مختلف . إن تحكيم الشريعة إلزام رباني، لا علاقة له بعدد الأصوات، ولا يخير الناس بشأنه، هل يقبلونه أم يرفضونه، لأنهم لا يملكون أن يرفضوه ثم يظلوا مسلمين!

وفرق بين أن تكون إقامة الإسلام في الأرض متوقفة - بعد مشيئة الله سبحانه وتعالى - على وجود قاعدة مؤمنة ذات حجم معين، تملك تحقيق هذا الإلزام الرباني في عالم الواقع، وبين أن يكون الإلزام ذاته موضع نظر! وموضع استفتاء! سواء استطعنا تحقيقه في عالم الواقع، أم لم نستطع لضعفنا وقلة حيلتنا وهواننا على الناس، كما كان حال المسلمين في مكة. ويجب أن تقدمه الدعوة للناس على هذا الأساس: أنه إلزام رباني، وأن الناكل عنه مرتد في حكم الله، وأن جميع الناس مطالبون بتحقيقه، حكاماً ومحكومين، سواء وجدت هيئة أو جماعة تطالب به أم لم توجد؛ لأنه ليس متوقفاً على مطالبة أحد من البشر، بعد أن طلبه رب العالمين من عباده بصيغة الأمر الملزم.
وهذا المعنى يختفي تماماً في حس الناس - أو في القليل يفقد شحنته الفاعلة - حين ندخل في لعبة الديمقراطية، التي تقرر من حيث المبدأ أنه لا إلزام لشيء إلا ما تقرره غالبية الأصوات.

والخسارة الثانية التي نقع فيها حين ندخل في لعبة الديمقراطية، هي تمييع قضية الشرعية، فالشرعية في الديمقراطية هي لمن يأخذ أغلبية الأصوات، وهذا ليس هو المعيار الرباني؛ إنما المعيار الرباني - كما ذكرنا في فصل سابق - هو تحكيم شريعة الله ، ومن أعرض عن تحكيم شريعة الله فلا شرعية له في دين الله، ولو حصل على كل الأصوات لا غالبيتها فحسب، وهنا مفرق طريق حاد بين الإسلام وبين الديمقراطية.
وحين ندخل في لعبة الديمقراطية فلابد أن نقر بشرعية من يأخذ غالبية الأصوات، ولو كان لا يحكم شريعة الله، لأن هذا هو قانون اللعبة، والذي لا نملك مخالفته، وعندئذ نقع في محظور عقدي، وهو إعطاء الشرعية لأمر قال الله عنه إنه كفر، وهو التشريع بغير ما أنزل الله.
ومهما قلنا في سرنا وعلننا: إننا لا نوافق على التشريع بغير ما أنزل الله، فإنه يلزمنا أن نخضع لقانون اللعبة، مادمنا قد ارتضينا أن نلعبها، بل طالبنا في كثير من الأحايين أن يسمح لنا باللعب فيها، واحتججنا حينما حرمنا من هذا الحق.

ولم يفت أعداءنا أن يستغلوا وقوعنا في ورطة الديمقراطية ليحرجونا، ويشتدوا في إحراجنا، فقالوا لنا: ما موقفكم إذا دخلتم الانتخابات ولم تنجحوا، ونجح غيركم ممن لا يحكم الشريعة؟ فقلنا - ويا للعجب- : نحترم رأي الأمة!! فسألونا: إذا كنتم في الحكم ثم رغبت الأمة عنكم، وأعطت الأصوات لغيركم، فقلنا - ويا للعجب: - نخضع لقرار الأمة! أولو كان قرار الأمة مناقضاً لما قرره الله؟!
أي تمييع لقضية لا إله إلا الله وقضية الشرعية أشد من ذلك؟
ومع ذلك فما دمنا قد دخلنا اللعبة فلا مناص لنا من أن نقبل قانونها، لأن هذا هو مقتضى المنطق . إنما يحق لنا أن نرفض القانون حين لا نشارك في اللعبة أصلاً، فنكون منطقيين مع أنفسنا ومع الناس حين نقول لهم : إننا لم نشارك في اللعبة لأن قانونها مخالف لما قرره الله وألزم به عباده .

وبطبيعة الحال، فإننا حين نقول ذلك فسيقول عنا أعداؤنا: أنتم لستم ديمقراطيين، أنتم أعداء الديمقراطية، ونقول لهم : قولوا ما شئتم، فلن نقبل نظام حكم يعطي البشر ابتداءً حق التشريع بما يخالف شرع الله؛ لأننا إن قبلنا ذلك لا نكون مسلمين! والذي أنزله الله علينا هو الإسلام وليس الديمقراطية، والذي ألزمنا الله به هو الإسلام وليس الديمقراطية، والذي يحاسبنا الله عليه يوم القيامة هو الإسلام وليس الديمقراطية : { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ } (آل عمران : 19). { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } (آل عمران : 85).
وفي الإسلام شورى، ولكن الشورى ليست هي الديمقراطية، فالشورى هي في الطريقة الصحيحة لتطبيق النص، وفيما يجتهد فيه المسلمون فيما ليس فيه نص (1) . أما الديمقراطية فهي تجعل الحاكمية ابتداءً في يد البشر، ولا توافق على اعتبارها حق الله وحده بلا شريك! وما أبعد الشقة بين ديمقراطيتهم وشورى الإسلام: { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } (المائدة:50).
_________
(1) حدود الاجتهاد معروفة في الفقه الإسلامي وهي ألا تحرم حلالا ولا تحل حراما ولا تصادم مقاصد الشريعة، ومجالها واسع جدا يشمل كل ما يجد في حياة الأمة من أمور، ولكنه منضبط بضوابط الشريعة .

ولو لم يكن في دخولنا لعبة الديمقراطية من خسارة، إلا تمييع قضية لا إله إلا الله وقضية الشرعية، لكان هذا كافياً لتجنب الخوض في اللعبة، أيا تكن الفوائد الجزئية التي يمكن أن تتحقق من دخولنا البرلمانات، والتي نخسرها حين نمتنع من الدخول فيها . وقد حرم الله الخمر والميسر مع أن فيهما - بصريح القرآن- منافع للناس؛ وإنما حرمهما كما صرحت الآية الكريمة، لأن إثمهما أكبر من نفعهما: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } (البقرة : 219).

وهذه قاعدة فقهية نهتدي بها فيما ليس فيه نص، وقضية البرلمانات والدخول فيها ليس فيها نص، ولكن التدبر الواعي للقضية يصل بنا إلى أن تمييع قضية لا إله إلا الله ومقتضياتها، وتمييع قضية الشرعية، يؤثر تأثيراً عكسياً على الدعوة؛ لأنه يشتت وعي الجماهير بهاتين القضيتين الرئيسيتين من قضايا الدعوة، وهما : أن تحكيم شريعة الله إلزام رباني لا يستفتى فيه الناس، وليس منشأ الإلزام فيه أن يرضى عنه أكثرية الناس، أو لا يرضوا، إنما منشأ الإلزام فيه هو كوننا مسلمين، بل هو مجرد زعمنا أننا مسلمون . وأن الشرعية في دين الله لا علاقة لها بعدد الأصوات التي ينالها فلان أو فلان، فإنما يتعلق عدد الأصوات بشخص الحاكم الذي تختاره الأمة ليطبق شريعة الله، لا بنوع الحكم الذي يزاوله الحاكم، والذي لا خيار فيه لأحد من الناس، حكاماً كانوا لا محكومين، بعد أمر الله الملزم بتطبيق الشريعة، وحكم الله الصريح بنفي الإيمان البتة عمن يعرض عن شريعة الله : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ } (النساء : 65). { وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ } (النور:47).
* * *

هذه قضايا رئيسية من قضايا الدعوة، وما لم تع الجماهير جيداً هذه القضايا، وتؤمن بها إيماناً راسخاً، فلن تتوفر القاعدة الجماهيرية الصحيحة، التي يمكن أن يقوم عليها حكم إسلامي، فالجاهلية العالمية كلها واقفة بالمرصاد لتمنع تحقيق هذا الحكم في واقع الأرض، ولا بد من إيمان واع وراسخ يقاوم الضغط العالي كله، ويصمد إزاءه، ولك غبش نحدثه حول هذه القضايا هو في الحقيقة تعويق للدعوة وإن ظننا أنه يقرب الطريق.
* * *
تلك خلاصة سريعة للأسباب التي أدت إلى تعجل الحركة المعاصرة في تحركها، والنتائج التي ترتبت على هذا التعجل، والتي من شأنها أن نراجع حساباتنا ونحاول التصحيح.
وفي الفصول القادمة سنتحدث عن التربية المطلوبة، سواء للقاعدة الصلبة التي تحمل مسئولية الدعوة، أو للقاعدة الجماهيرية التي لا بد من إنشائها لتتم الحركة في واقع الأرض، وتصل إلى أهدافها بعون الله، مسترشدين في حديثنا بخطوات المنهج النبوي في الدعوة، والذي كانت نقطة البدء فيه هي إقامة القاعدة الصلبة التي تحمل البناء.
القاعدة الصلبة
غني عن البيان أن كل رسول هو عنوان رسالته، وهو النموذج الذي يفترض في أتباعه أن يتبعوه، وأن يحققوا في ذوات أنفسهم ما وسعهم أن يحققوه من الاقتداء به في أقواله وأفعاله، وتنفيذ ما أمرهم به، وما نهاهم عنه : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ } (النساء : 64). { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } (الحشر: 7). { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا } (الأحزاب : 21).
((. « فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأنوا منه ما استطعتم » (1) .
_________
(1) أخرجه البخاري

وغني عن البيان كذلك، أن الرسالة الخاتمة كانت رسالة فذة بين الرسالات جميعاً؛ لأنها الرسالة التي اكتمل بها الدين، والموجهة للبشرية كافة لا لقوم بأعيانهم كما كان شأن الرسالات السابقة، ولأنها الرسالة التي أنزلت لتحكم بشمولها كافة حياة الناس من جميع جوانبها، وترسم منهج الحياة الكامل للبشرية من لدن مبعثه صلى الله عليه وسلم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } (المائدة : 3). { قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } (الأعراف:158). { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } (الأنبياء : 107). { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } (المائدة:48).

وكان هذا كله - في تقدير الله - هو المناسب لختم الرسالة، وبعث النبي الخاتم عليه الصلاة والسلام: { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ } (الأحزاب: 40 ).
« لا نبي بعدي » (1) .
كان من المناسب مع ختم الرسالة، أن تكون الرسالة الخاتمة شاملة لكل ما يحتاج الناس إليه في وقتها الذي نزلت فيه، وفي المستقبل الذي يكون من بعد إلى قيام الساعة؛ بحيث لا يضلون بعدها إن تمسكوا بها، ولا يحتاجون لغيرها في تدبير شئونهم: (2) « تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا، كتاب الله وسنتي » (3) .
وكان طبيعياً - والرسالة الخاتمة على هذه الصورة - أن يكون الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم أعظم رسول بين الرسل، وأعظم من أقلت الأرض. ولا نبعد عن الحقيقة كذلك إن قلنا: إن الرجال الذين رباهم الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا - بعد الرسل الكرام صلوات الله عليهم - أعظم رجالات التاريخ.
_________
(1) أخرجه الشيخان .
(2) تجد في حياة الناس أمور جديدة على الدوام، وما كان هذا غائبا عن علم الله وهو ينزل رسالته، ولكنه أودع شريعته ما تواجه به الجديد كله وتستوعبه وتهيمن عليه. وقد فصل الفقهاء والأصوليون هذه الأمور تفصيلاً وافيا يطلب في كتبهم لمن شاء .
(3) أخرجه الشيخان .

نستطيع أن نقول بصفة عامة : إن القيم والمبادئ التي يشتمل عليها منهج التربية المستخدم ذات تأثير كبير فيمن يتربون عليها، وإنه على قدر عظمة هذه القيم والمبادئ يكون مستوى المتلقين من الصفات الحميدة والأخلاق العالية. كما نقول من جانب أخر إن شخصية المربي ذات تأثير كبير فيمن يتلقون عنه، ,إنه على قدر عظمة المربي يكون مستوى المتلقين عنه من الرفعة وكرم الشمائل. ونقول من جهة ثالثة : إن استعداد الفطر التي تتلقى من المربي له تأثير كبير في المستوى الذي يمكن أن يصل إليه المتلقون من الرفعة، على قدر ما يكون في هذه الفطر من السلامة والبعد عن الأمراض. فإذا أخذنا في اعتبارنا هذه العناصر الثلاثة، أمكننا أن نكون فكرة عن الأسس التي قامت عليها القاعدة الصلبة التي أنشأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعن نوعية هذه القاعدة التي غيرت وجه التاريخ.

فأما المبادئ فيكفي أن يكون منطلقها وأساسها الأول هو التوحيد، هو ((لا إله إلا الله))، والتوحيد هو الذي أنشأ هذه الأمة، وأخرجها إلى الوجود خير أمة أخرجت للناس: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } (آل عمران: 110) . ولكن الخيرية الناشئة من التوحيد لا تتمثل في أحد ولا في شيء، كما تتمثل في تلك القاعدة التي رباها رسول الله صلى الله عليه وسلم على عينه، في فترة التربية في مكة، ثم بعد ذلك في المدينة.
التوحيد - في حقيقته المنزلة من عند الله، والتي استوعبها قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وربي عليها أصحابه - هو أعظم ما في هذا الوجود من حقيقة، وهو أعظم ما في حقيقة الوجود من مؤثر في بنية الكون وبناء النفوس :
{ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } (آل عمران : 2).

الكون عابد بفطرته، والإنسان عابد بفطرته، ولكن السماوات والأرض أتت إلى الله طائعة مستسلمة، وبقي الإنسان، بعضه يستسلم، وبعضه يستكبر وينأى بجانبه : { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } (فصلت : 11). { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ } (الحج : 18).
والأصل في فطرة الناس هو التوحيد : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } (الروم: 30 ). { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا } (الأعراف : 172).
« كل مولود يولد على الفطرة » (1) .
_________
(1) أخرجه البخاري .

« إني خلقت عبادي حنفاء كلهم » (1) .
ولكن الله من فضله وكرمه لم يشأ أن يقهر الإنسان على التوحيد كما تخضع الكائنات الأخرى بالقهر، بل كرمه وفضله: { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا } (الإسراء : 70 ).
ومن آيات هذا التكريم حرية الاختيار : { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا }{ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا }{ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا }{ وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } (الشمس : 7- 10 ).
ومع أن هذه الحرية تكريم رباني تفضل الله به على الإنسان، فإن بعض الفطر تنتكس مستخدمة حريتها في عصيان الله والاستكبار عن عبادته، بدلاً من أن تختار الهدى وتستقيم عليه، فيصبح في الناس مؤمن وكافر : { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ } (التغابن:2).
_________
(1) أخرجه مسلم .

فأما الذين آمنوا فهم الذين استقاموا على الفطرة السوية، وعلى قدر صدق إيمانهم ورسوخه وقوته يكون ارتفاعهم في مدارج السالكين لتحقيق الغاية العظمى التي خلق الله الخلق من أجلها: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } (الذاريات:56).
ماذا يفعل التوحيد في النفوس؟
أرأيت إلى قطعة الحديد حين يمرر فيها تيار كهربي أو يمرر عليها مغناطيس. ماذا يحدث في كيانها؟ يحدث - كما يقول علم الفيزياء - أن يعاد ترتيب ذراتها على نسق معين، فيصبح لها قوة كهربية مغناطيسية لم تكن لها من قبل، وتصبح طاقة محركة بعد أن كانت ساكنة لا تتحرك ولا تحرك.
أين كانت هذه الطاقة في كيانها؟ كانت مبعثرة مشتتة، فلم تكن تظهر ولم تكن تعمل، فلم يكن لها وجود واقعي مشهود . والآن تجمعت على نسق معين، فظهرت، وعملت، وصار لها آثار مشهودة في عالم الواقع .
شبيه بذلك ما يحدث في نفوس البشر حين تخالطها بشاشة الإسلام، حين تعرف التوحيد، حين تؤمن بلا إله إلا الله . تتجمع النفس من شتاتها وتتحدد وجهتها.

ولكن، فلنقف لحظة لنسأل: ما الذي يحدث الشتات في النفوس؟ أو هكذا النفس بطبيعتها؟ أم إنها هكذا تصبح حين تترك بلا رعاية ولا عناية ولا توجيه؟ حين لا يقوم الإنسان ((بالتزكية)) المطلوبة منه تجاه نفسه : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا }{ وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } (الشمس : 9- 10).
يحدث الشتات من اتباع آلهة شتى . ويحدث من ضغط الشهوات. ويحدث من عدم اتخاذ هدف محدد في الحياة . تلك - على الأقل - ثلاثة أسباب رئيسية تحدث الشتات في النفوس، فيجيء الإيمان فيجليها، فتتجمع النفس من شتاتها وضياعها، وتصبح طاقة هائلة تتحرك وتحرك.
فأما إنسان الجاهلية العربية، فقد كان يعبد آلهة شتى بعضها ظاهر كالأصنام، وبعضها خفي كالقبيلة وعرف الآباء والأجداد .
فأما الأصنام فالحديث عنها مستفيض، حتى ليحسب الإنسان لأول وهلة أنها وحدها كانت هي الآلهة المعبودة من دون الله في الجاهلية العربية، ولكن الذي ينعم النظر يتبين أنها لم تكن وحدها المعبودة من دون الله، فانظر إلى الشاعر (1) الذي يقول :
وهل أنا إلا من غزية إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد
_________
(1) هو دريد بن الصمة.

فما عبادة الاتباع إن لم تكن هذه؟ يعرف أن قبيلته غاوية ثم يتبعها - على علم بغوايتها- لأنها في حسه رب معبود، لا تجوز مخالفته في الرشد ولا في الغي!
وكان عرف الآباء والأجداد رباً معبوداً من دون الله: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ } (البقرة : 170 ).
عرف الآباء والأجداد، الذي يجعل أبا طالب يحجم عن الإسلام - على كل حبه لابن أخيه صلى الله عليه وسلم ، وكل حدبه ورعايته، وكل حمايته له من كفار قريش - لكي لا يقال عنه إنه خالف عرف الآباء والأجداد! فأي عبودية أشد من هذه العبودية؟

أما إنسان الجاهلية المعاصرة، فيعبد أرباباً أكثر عدداً وأشد خفاء من أرباب الجاهلية العربية. (فالمصلحة القومية) بديل من القبيلة العربية القديمة، أكبر وأخطر، وأشد استيلاء على نفوس أتباعها. ( والرأي العام العالمي) بديل من عرف الآباء والأجداد، أكبر وأخطر، وأعنف تأثيراً على ((المستضعفين)) خاصة في كل الأرض، بينما هو صناعة مصنوعة على يد الشياطين الذين يحكمون الأرض، من وراء ستار أو بلا أستار. (والتقدم) إله . (والعلم) إله . (والعلمانية) إله . (والإنتاج) إله . (والحربية الشخصية) إله .
وناهيك عن الشهوات!
إنها في القديم والحديث أرباب معبودة من دون الله . أرباب تهلك عبادها وتسلمهم إلى البوار .

إنها في وضعها الطبيعي في صميم الفطرة، غذاء ضروري للنفس البشرية، لكي تقوم بنشاطها الطبيعي في عمارة الأرض، التي هي جزء من مهمة الخلافة التي خلق الله لها الإنسان: { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً } (البقرة : 30). { هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا } (هود : 61). { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ } (آل عمران:14).

ولكنها كما تكون غذاء صالحاً مفيداً تكون سما مهلكاً حين تتجاوز الحد . كالغذاء الجسدي سواء بسواء . فالجسم - لكي يقوم بنشاطه الطبيعي- يحتاج إلى قدر من البروتينات والنشويات والأملاح والفيتامينات، ولكنك إذا تجاوزت المقدار المناسب في أي منها، يحدث خلل في وظائف الجسم، فلا يعود يتمثل الغذاء تمثلاً صحيحاً، ولا يعود قادراً على بذل النشاط الطبيعي الذي يفترض أن يبذله، وتبدأ الأمراض. والنفس كذلك، تحتاج إلى هذه الشهوات أو ((الدوافع)) لتتحرك حركتها الطبيعية، التي يفترض أن تقوم بها في الحياة الدنيا، ولكنها إذا اتبعت إغراء هذه الشهوات- وهي لكونها محببة ومزينة تغري بالمزيد - فإن نظامها يختل، فتفسد، وتعجز عن القيام بالنشاط السوي، وإن قامت بألوان من النشاط المنحرف، كما تختل الخلية السوية حين يصيبها السرطان. تنشط، ولكنه النشاط المؤدي إلى الدمار .

وهنا نقطة ((الابتلاء)) الذي يعرض للإنسان في حياته، والذي هو هدف من أهداف خلقه: { إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا } (الإنسان: 2) . { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } (الكهف:7).
فموضوع الابتلاء هو الطريقة التي يتناول بها الإنسان متاع الأرض. هل يقف فيه عند الحدود المأمونة التي قدرها الله - وهو اللطيف الخبير الذي يعلم من خلق، ويعلم ما يصلحه وما يصلح له - أم يسرف ويتجاوز الحدود، فينقلب المتاع سما مهلكاً يضر أكثر مما ينفع، أو يضر ولا ينفع؟ : { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } (الملك : 14) . { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا } (البقرة : 219). { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا } (البقرة : 187).
ولقد كان إنسان الجاهلية العربية غارقاً في الشهوات، يعب منها بمقدار ما يتيح له وضعه الاجتماعي، ووضعه الاقتصادي، لا يرى في ذلك بأساً، بل يراها فخراً وكرامة! ويسوغها بمنطقه المعتل:
يقول طرفة بن العبد :

ولولا ثلاث هن من عيشة الفتى ... وجدك لم أحفل متى قام عودي
فمنهن سبقي العاذلات بشربة ... كميت متى ما تعل بالماء تزبد
وكري إذا نادى المضاف محنباً ... كسيد الغضا - نبهته - المتورد
وتقصير يوم الدجن، والدجن معجب ... ببهكنة تحت الطراف المعمد
فيذكر الخمر والنساء والحرب، وذلك بعد أن قال قبلها :
ألا أيهذا اللائمي أحضر الوغى ... وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي؟
فما دام الخلود مستحيلاً - في واقع الحياة الدنيا - ((فالمنطق)) في الجاهلية أن يعب الإنسان من الشهوات بقدر ما يستطيع، لأنها فرصة واحدة، إن ضاعت لا تعود .
أما إنسان الجاهلية المعاصرة، فالشهوات في حياته هي الأصل الذي يعيش من أجله، وإن كان يعمل وينتج فمن أجل أن يحصل على الوسيلة التي تتيح له أكبر قدر من المتاع! يستوي في ذلك من كانت شهوته هي السلطة فيعمل على اكتسابها، أو شهوته هي الملك فيعمل على اكتسابه، أو شهوته هي الجنس ولذائذ الحس، وهي التي جعلتها الجاهلية المعاصرة سعاراً محموماً للصغير والكبير، والعاقل والمجنون، والرجل والمرأة على السواء!

أما الهدف فلا هدف في الجاهلية أبعد من الحياة الدنيا، وما فيها من المتاع المتاح: { وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ } (الجاثية : 24). { إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ } (المؤمنون : 37). { فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا }{ ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ } (النجم:29- 30 ). { يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ } (الروم : 7).
وحين ينحصر الإنسان في الحياة الدنيا وأهدافها القريبة - مهما بدت بعيدة - فإنه يفقد كثيراً من كيانه الذي خلقه الله له، حين خلقه من قبضة من طين الأرض، ونفخ فيه من روحه. يفقد القيم العليا، التي هي القوام الحقيقي للإنسان: { إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ }{ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ } (ص 71-72).

فأما إنسان الجاهلية العربية فقد كان أبعد همه هو القبيلة وما يدور حولها من أحداث وأحاديث، لذلك كان حفظ الأنساب والفخر والهجاء، وأخبار المعارك، والكر والفر، هي عالمه الذي يعيش فيه، ويعيش من أجله، ويقول فيه الشعراء شعرهم، ويكون هو سمرهم في منتدياتهم، وموضع تنافسهم فيما بينهم . إلى جانب ما يمارسونه من تكاثر في الأموال والأولاد، وما يمارسونه من الشهوات.
وأما إنسان الجاهلية المعاصرة، فهو أشد ضلالاً وانحصاراً في الحياة الدنيا وعالم الحس، وأشد بعداً عن القيم العليا وتكاليفها، لتكالبه على المتاع الحسي، ولأن صانعي هذه الجاهلية حريصون على إبعاده إبعاداً كاملاً عن كل قيمة إنسانية، ترفع الإنسان عن محيط الحيوان، لذلك تفننوا في تزيين الأرض، وتزيين المتاع الدنس بكل وسيلة تخطر - أو لا تخطر - على البال.

وفي الجاهلية كلها - قديمها وحديثها - حين ينحصر الناس في الحياة الدنيا ولا يؤمنون بالبعث والنشور والحساب والجزاء، تبدو الحياة في نظرهم عبثاً لا معنى له، ولا قيمة للقيم فيه، إلا بمقدار ما تخدم شهوات الإنسان ومصالحه في عمره المحدود، وتنتاب الإنسان الحيرة التي عبر عنها الشاعر الجاهلي المعاصر (إيليا أبو ماضي) في هذه الأبيات:
جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت ! ... ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت!
وسأبقى ماشيا إن شئت هذا أو أبيت ... كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟ لست أدري!
ولهذا كانت الخمر دائماً جزءاً من الجاهلية، لأنها وسيلة للهروب من الشعور بعبثية الحياة، وهو شعور ثقيل على النفس، كما يغرق الناس في اللهو، لقتل الوقت الذي يظل فارغاً وثقيلاً، حين يفرغ الناس من صراعاتهم الهابطة ومصالحهم القريبة، ويبحثون عن هدف يملأ الفراغ فلا يجدون.

في الجاهلية العربية كانت الخمر ومجالس الشراب وألعاب الميسر وسيلتهم الكبرى للهروب. وفي الجاهلية المعاصرة صارت المخدرات إلى جانب الخمر، وصارت المراقص ودور اللهو ونوادي القمار. وفي الجانب الآخر صار القلق النفسي والأمراض العصبية، والانتحار والجنون، حين لا تفلح الوسائل كلها في رفع الشعور بعبثية الحياة عن كاهل الحس.
* * *
تلك كلها أسباب وراء الشتات الذي يصيب النفس البشرية في الجاهلية، والإيمان هو الذي يجمع النفس من الشتات.

الإيمان معناه ابتداءً: الاعتقاد بأنه إله واحد لا إله غيره. وأن كل الآلهة الأخرى وكل الأرباب، وكل المعبودات من دون الله، وهم لا حقيقة له، ولا وجود له إلا في ظنون أصحابه، وهي ظنون لا تغني من الحق شيئاً . ومعناه أنه لا معبود بحق إلا الله، لأنه لا إله في الحقيقة غيره، فكل عبادة موجهة إلى غيره فهي باطلة من أساسها، لأنها موجهة لمن لا ألوهية له في الحقيقة . ومعناه الالتزام بما جاء من عند الله، لأنه لا يستقيم في الحس أن يكون هو المعبود الحقيق بالعبادة وحده، ثم يطاع غيره في معصيته! ومعناه في نهاية الأمر أن الله هو المشرع، هو الذي يحدد الحلال والحرام، والحسن والقبيح، والمباح وغير المباح، وهو الذي يضع الحدود التي يمارس الناس فيها متاع الحياة الدنيا، وهو الذي يضع للناس منهج الحياة، ويحدد لهم ما يعيشون له من أهداف.
ومن شأن هذا الإيمان ألا يبقى سبباً من أسباب الشتات التي يتطرق بها إلى النفوس.

حين يتوحد الإله المعبود تنتهي من الحس تماماً كل الآلهة المزعومة، التي تشتت النفس في اتباعها، ولكل منها مطالب، ولكل منها نزعات أو شطحات لا تلتقي في اتجاه واحد، فتتوزع النفس بينها، وكل إله منها لا يمارس ألوهيته إلا على حساب إله آخر: { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } (الزمر : 29).
وحين يتوحد الإله المعبود تنضبط الشهوات في حدودها التي حددها الله، فتصبح غذاءً صالحاً للنفس، ولا تعود سماً مهلكاً، ولا هماً مقعداً مقيماً، لا يرتوي ولا يشبع، ولا يدع للنفس فرصة للسكينة والهدوء.
وحين يتوحد الإله المعبود يتحدد الهدف الذي ينظم في داخله كل ا
24akhbar
تابع الكتاب
مُساهمة 02.08.10 18:00 من طرف 24akhbar
(1) ورد التفصيل في آيات أخرى، وفي كثير من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم.

وليست التربية مطلوبة لضبط شهوات النفس وهواجسها وانفعالاتها فحسب، وإن كان هذا من الأسس التي لا غنى عنها، ولا تستقيم بغيرها حياة ، ولكنها مطلوبة لمستويات أخرى من السلوك، ومستويات أخرى من القيم اللازمة للحياة.
لقد قدر الله للإنسان في حياته الدنيا ألواناً مختلفة من الابتلاء، بعضها ضغوط تقع عليه من داخل نفسه، وهي دوافعه ونوازعه وشهواته، وبعضها الآخر ضغوط خارج كيانه، وإن كانت تؤثر على ما في داخل نفسه، سواء كانت ضغوطاً سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، ويدخل في هذه الأخيرة أعراف الناس وتقاليدهم، وكلها تنزع إلى إخضاع الناس لمتقضياتها، وإن كان الكثير منها في الجاهلية خاصة أهواء أكثر مما هي ضرورات حقيقية، أهواء يرضها الذين استكبروا على الذين استضعفوا : { وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ } (المؤمنون:71).
ولابد لكي تستقيم الحياة على المستوى اللائق بالإنسان، الذي كرمه الله وفضله على كثير ممن خلق، لا بد أن يقاوم الإنسان هذه الضغوط، ولو تعرض بسبب تلك المقاومة إلى ألوان من الحرمان.

ولو تركت النفس بغير رعاية وتعهد، فإنها تصبح لينة القوام، ضعيفة لا تقوى على مقاومة الضغوط، سهلة الانثناء والالتواء، فيطمع الذين استكبروا في استخدام مزيد من الضغط، ليحصلوا من الناس على مزيد من الاستسلام، وعندئذ يظهر الفساد في الأرض، أي يتمكن ويستشري: { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ } (الروم:41) . يستوي في هذا ((الكسب)) طغيان من يطغى واستسلام من يستسلم، فكله فساد يبعد الحياة عن صورتها السوية التي ينبغي أن تكون عليها.

وهنا يبرز دور التربية مرة أخرى لإكساب النفس الصلابة اللازمة لها في مواجهة الضغوط. والقيم والمبادئ هي الأحجار الصلبة التي تقي البناء النفسي من الانهيار عند أول صدمة أو الانثناء تحت الضغط، وعلى قدر التمسك الحقيقي بتلك القيم والمبادئ تكون الصلابة الحقيقية للنفس، وذلك التمسك هو الذي تحدثه التربية الصحيحة بجهدها الدؤوب، ولكنه لا يحدث في النفس حتى تكون قد تعودت من قبل على ضبط شهواتها وأهوائها، لأنه بغير ذلك لا تقوى على الصلابة ولا تطيق تكاليفها: { فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } (الزخرف : 43) . { وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ } (الأعراف : 170 ).

ولا تنتهي الحاجة إلى التربية عند هذا الحد، ولا عند هذا المستوى من الأمور، وخاصة بالنسبة للمؤمنين، فقد اقتضت مشيئة الله ألا يكون الناس كلهم أمة واحدة : { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ }{ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } (هود : 118-119). { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ } (التغابن:2).

ثم كان من سنته سبحانه وتعالى أن يقع التدافع في الأرض بين المؤمنين والكفار، بين أهل الحق وأهل الباطل، لكي لا تفسد الأرض باستعلاء أهل الباطل فيها بغير رادع يردعهم: { وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ } (البقرة : 251). ولا يعجز الله سبحانه وتعالى أن يدمر أهل الباطل ويبطل طغيانهم، وهو الذي يقول للشيء كن فيكون: { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } (النحل:40) ولكن سنته اقتضت أن يجعل تدميرهم على أهل الحق، بعون الله وتأييده، وأن يكون هذا بالنسبة لأهل الحق جزءاً من الابتلاء المقدر لهم في سنة الله، وتشريفاً لهم ورفعة في ذات الوقت: { ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ } (محمد: 4). { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } (الأنفال: 17).

وهذا الأمر وهو مجاهدة الباطل ودفعه من أجل إصلاح الأرض وحفظها من الفساد هو القمة التي يصل الإنسان إليها في الحياة الدنيا، وهو في الوقت ذاته ذروة سنام الإسلام: « ألا أخبرك برأس الأمر، وعموده، وذروة سنامه؟ قلت (والكلام لمعاذ بن جبل رضي الله عنه)، بلى يا رسول الله . قال: رأس الأمر الإسلام، وعمود الصلاة، وذروة سنامه الجهاد » (1) .
وهو أمر يحتاج إلى تربية طويلة وإعداد. إعداد نفسي وروحي قبل الإعداد الجسمي والمادي، وهو مستوى من مستويات التربية لا يتم حتى يكون الإنسان قد مر بالمستويين السابقين، فهو في حاجة إلى الصلابة النفسية التي ترتكز بدورها على ضبط الشهوات، وهكذا تتدرج التربية في مستوياتها الثلاثة بدءاً بالتدريب على ضبط الشهوات وتعويد النفس على الانضباط، مروراً باكتساب الصلابة بترسيخ القيم العليا في بنية النفس، وصولاً إلى الاستعداد للجهاد والصبر على تكاليفه في النفس والمال .
_________
(1) أخرجه الترمذي .

ثم هنالك مستوى أخير، لا بد أن نشير إليه في حديثنا عن خير القرون، خاصة جيل الصحابة رضوان الله عليهم، هو مستوى التطوع النبيل، الذي يتجاوز الواجبات والمفروضات، ويرتقي إلى المندوبات والمستحبات فيجعلها كالواجبات والمفروضات، بغير إلزام من الله ورسوله، ولكن حباً لله ورسوله، وعبادة خالصة لله ابتغاء مرضاته، وهو مستوى بلغ الذروة فيه ذلك الجيل الفريد الذي رباه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإن لم يخل جيل من أجيال الأمة الإسلامية من أفراد يرتفعون إلى ذلك المستوى السامق الرفيع.
* * *
إذا اتضح لنا ذلك فقد اقتربنا من تصور الجهد الذي بذله المربي الأعظم صلى الله عليه وسلم للارتفاع بتلك النفوس إلى ذلك المستوى الرفيع الذي وصلت إليه في عالم الواقع، وهو مستوى غير مسبوق في تاريخ البشرية .
وربما يساعدنا على تصور هذا الجهد أن نتعرف على الأداة العظمى التي استخدمها الرسول صلى الله عليه وسلم في تربية أصحابه، وهي الأداة اللازمة لكل تربية على منهج الإسلام في أي جيل من أجيال الإسلام، وهي تعميق الإيمان بالله واليوم الآخر، وممارسة الحياة في معية الله .

لا شيء يمكن أن يرتقي بالنفس درجة وراء درجة مثل ذلك الإيمان. إنه هو الذي يوفر الحوافظ التي تحفظ النفس من الانفلات، والهبوط مع ثقل الشهوات، ثم يحبب إليها الارتفاع في مدارج السالكين إلى أعلى الدرجات.
وعلى قدر ما يعيش الإنسان مع الله، يحبه ويخشاه، ويذكره في سره وجهره، ويبتغي رضاه، وعلى قدر ما يعيش على ذكر من اليوم الآخر وما فيه من بعث ونشور، وحساب وجزاء، وجنة ونار، تكون قدرته على ضبط شهواته، وقدرته على تمثل القيم العليا، وقدرته على إعداد نفسه للجهاد في سبيل الله، ورغبته كذلك في التطوع النبيل ابتغاء مرضاة الله.
وإذا تتبعنا آيات الذكر الحكيم فسنجد فيها تركيزاً شديداً على تلك الأمور بالذات.

فأما التعريف بالله، بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وقدرته التي لا يعجزها شيء، وعلمه الذي لا يعزب عنه شيء، ورقابته التي لا تغفل عن شيء، ورحمته التي وسعت كل شيء، وجبروته الذي لا يقف أمامه شيء، فأوضح من أن يشار إليه في كتاب الله الكريم، وهو الموضوع الأول والأكبر من موضوعات الكتاب الكريم، من حيث المساحة التي يشغلها، والتركيز المستمر عليه، وبيان مقتضياته، وهي عبادة الله وحده بلا شريك، في الاعتقاد القلبي، وشعائر التعبد من صلاة وصيام وزكاة وحج، واستعانة واستغاثة، وذبح ونذر ودعاء، والالتزام بما جاء من عند الله من أوامر ونواه وتشريعات وتوجيهات وأحكام.

وأما مشاهد القيامة، مع تنوع أساليب عرضها، وتعدد مواضع ذكرها والتذكير بها، بنعيمها وعذابها، فأمر واضح كذلك لمن يتدبر كتاب الله . ولكن يلفت النظر في السور المدنية خاصة الربط بين الأمرين معاً : الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر، سلباً وإيجاباً، وربط ذلك بالعقائد والشعائر والشرائع وأنماط السلوك والأخلاق، سواء عند المؤمنين بهما أو الكافرين: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } (البقرة : 62). { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } (البقرة : 232). { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ

} (البقرة : 264). { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } (النساء:59). { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } (التوبة:29). { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا } (الأحزاب:21). وإذا كان الربط مباشرا في السور المدنية بين الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر، فهو موجود في السور المكية كذلك وإن ذكر كل منهما على حدة: { إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ } (النحل:22) { وَعِبَادُ

الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا }{ وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا }{ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا }{ إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا }{ وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا }{ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا }{ يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا }{ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا }{ وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا }{ وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا }{ وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا

بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا }{ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا }{ أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا }{ خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا } (الفرقان: 63-76).
والدلالة التربوية لهذا الأمر أن الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر، كل قائم بذاته، ومتعمق بذاته في أغوار النفس، ثم مرتبطين متلازمين متكاملين، هو الأداة الكبرى في منهج التربية الإسلامية التي تؤتى ثمارها المرجوة بالتعهد المستمر والمتابعة اليقظة الدؤوب . وهذا هو الذي قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بالصورة الفذة التي لا مثيل لها في التاريخ.

لقد كان عمله الدائم صلى الله عليه وسلم ، في مكة خاصة، هو تعميق الإيمان بالله، وتعميق الإيمان باليوم الآخر في نفوس أصحابه رضوان الله عليهم، ثم الربط بين الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر في تلك النفوس، حتى يصبح أحدهما مذكراً بالآخر تلقائياً ومؤدياً إليه: إن ذكر الإنسان بالله ذكر معه اليوم الآخر، بنعيمه وعذابه . وإن ذكر باليوم الآخر ذكر الله سبحانه وتعالى، مالك الدنيا والآخرة، ومالك كل شيء في الوجود.

وتبدو القمة التي وصل إليها صلى الله عليه وسلم في تربية أصحابه بهذه الأداة الضخمة في هذا الوصف الرائع لهم في كتاب الله، بعد أن نهلوا من هذه التربية الفذة، وأخذوا منها بأوفى نصيب: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ }{ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ }{ رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ }{ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ }{ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ } (آل عمران: 190-194).

هذا الوصف العظيم من رب العالمين يصور تلك القمة الرائعة. إن ذكر الله لحظة يحدث في النفس آثاره، فما بال الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، أي في جميع أحوالهم؟ كيف يكون أثر هذا الذكر في نفوسهم؟‍
ومن جهة أخرى فإن ذكر الله لا يخطر في النفس وهي هابطة منجذبة إلى ثقلة الشهوات. فتلك هي لحظات الغفلة، التي يغفل فيها الإنسان عن ذكر الله، إنما يذكر الإنسان ربه وهو متجه نحو الصعود، فإذا استصحبنا هذا المقياس فكل لحظة ذكر هي في الحقيقة لحظة صعود. فكيف بالذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم أي في جميع أحوالهم، كم صعدوا وكم ثبتوا على الصعود؟‍ إنه شيء رائع حقاً حين نتصوره على حقيقته.
إن الصعود أمر شاق على النفس البشرية حتى تتعود عليه‍ لأن قبضة الطين ذات ثقل يميل دائماً إلى أسفل، ويحتاج إلى رفع مستمر حتى يتوازن، ويحتاج إلى رفع أكثر لكي يغلب دافع الصعود على دافع الهبوط.

حقيقة إن أداة الرفع موجودة في كيان الإنسان، في أعماق فطرته، وهي النفخة العلوية فيه: { إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ }{ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ } (ص:71-72).

ولكن هذا لا ينفي أن هناك جهداً ينبغي أن يبذل لتدريب هذه الأداة على العمل، وهو الجهد الذي تقوم به التربية، فبينما تعمل الشهوات تلقائياً في الكيان البشري بطبيعة كونها محببة ومزينة للإنسان، ومثيراتها حاضرة في ألوان المتاع التي تزخر بها الحياة الدنيا، فإن أداة الضبط التي تحبس الشهوات في نطاق معين، لترتفع بالطاقة الحيوية بعد ذلك إلى المجالات العليا، مجالات القيم ومعالي الأمور التي يحبها الله . هذه الأداة في حاجة إلى تدريب لتقوم بعملها، كما يحتاج الطفل إلى التدريب على المشي ليقاوم ثقلة الأرض، مع أن القدرة على المشي كامنة في كيانه على الأرض: { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ }{ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ

وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ }{ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ }{ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ } (آل عمران : 14-17).
تلك ثقلة الشهوات، وهذه أدوات الصعود :

ومزية الإسلام العظمى في هذا المجال أنه وهو يعمل على رفع الإنسان إلى أعلى لموازنة ثقلة الشهوات لا يدفعه إلى منطقة ينعدم فيها جذب الأرض، كما تفعل الرهبانية والهندوكية والبوذية، فهذه قد تيسر للإنسان التحليق في الفضاء، ولكنها تؤدي به إلى إهمال عمارة الأرض وحفظها من الفساد بالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكلها تكاليف ربانية أمر بها الله، لأنه يعلم أن فيها صلاح الحياة والإنسان، وهو الذي خلقه ويعلم ما يصلحه وما يصلح له : { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } (الملك : 14). { هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا } (هود : 61) . { الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } (الحج : 41). { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ }{ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ

تَعْلَمُونَ } (الصف: 10 -11).
وكذلك فإنه وهو يوجه الإنسان إلى عمارة الأرض، والاستمتاع بالطيبات فيها، لا يتركه يغرق في حمأة الشهوات، لأنه عندئذ يترهل ويفسد، ويستثقل التكاليف التي يتطلبها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله، لأنها تبدو في حسه موانع تعوق الإنسان عن المتاع: { لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ } (التوبة: 42). { وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ }{ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ } (التوبة: 86-87).
وإنما يعمل الإسلام على أن يقوم الإنسان متوازناً بين عنصريه المكونين له: قبضة الطين ونفخة الروح، عاملاً في الدنيا وعاملاً للآخرة في ذات الوقت: { هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } (الملك: 15).
* * *

كانت الأداة العظمى في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم لتربية أصحابه هي تعميق الإيمان بالله واليوم الآخر في نفوسهم، والتذكير الدائم بالله سبحانه وتعالى، وتعويدهم أن يعيشوا قدر طاقتهم في معية الله، وكان هو عليه الصلاة والسلام قدوتهم العظمى في ذلك الأمر، كما هو في كل أمر.
إن القدوة ذات تأثير هائل في عملية التربية. والله الذي خلق النفس البشرية يعلم سبحانه أن الموعظة وحدها لا تكفي، مهما يكون من بلاغتها وقوتها، ما لم يحملها قلب بشر، يتمثلها ويترجمها واقعاً مشهوداً أمام الناس، ثم يدعو الناس إلى اتباعها وقد بين لهم بالقدوة العملية كيف يكون الاتباع.
كان الله قادراً سبحانه وتعالى أن ينزل القرآن مكتوباً في قراطيس، ثم يلهم العرب الأميين أن يقرءوه. ولكنه يعلم وهو اللطيف الخبير أن النفوس لا تتقبل الأمر على هذه الصورة ولا تتأثر به التأثر المطلوب، الذي يحول الأمر إلى حركة واقعية ذات قوة وانطلاق، إنما أنزله سبحانه وتعالى على قلب بشر، تمثله تمثلاً كاملاً، وترجمه واقعاً يراه الناس، فيحب هذا الواقع من شرح الله صدره للإسلام، فتهفو له نفسه، وينقاد إليه، ويدخل في دين الله.

« سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقالت: كان خلقه القرآن » (1) .
وعلى هذا النحو نفهم قوله تعالى: { وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } (النور: 54). وقوله تعالى: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } (النحل: 44). فليس البلاغ مجرد أن يقول الرسول للناس: إن ربكم يقول لكم كذا وكذا. وليس البيان محاضرة ولا درساً نظرياً يلقيه الرسول على الناس. وإن كان البلاغ بهذا المعنى، والبيان بهذا المعنى مطلوبين من أجل إعلام الناس بما لا يعلمونه من أمور الدين. أما تحويل هذا العلم إلى واقع نفسي، يتحول بدوره إلى واقع عملي، فأمر آخر يحتاج أن يبلغ الرسول للناس كلام ربهم مترجماً إلى الواقع، مشروحاً في عمل، حتى يقتدي الناس به، ويتعلموا في درس عملي كيف يقومون بتنفيذه، وفى ذلك درس للدعاة، نعود إلى تفصيله فيما بعد.
_________
(1) أخرجه أحمد.

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائم الذكر لله، يعيش حياته كلها في معية الله، لا يغفل قلبه عن ذكره، ولا يفتر عنه لسانه، أدبه ربه فأحسن تأديبه، ومنحه من الطاقة ما يطيق به هذه الصلة الدائمة بالله. وإنها بالنسبة للبشر لجهد جاهد.
ما يطيق البشر حتى الصحابة رضوان الله عليهم أن يقضوا حياتهم كلها على ذلك المستوى السامق الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلته الدائمة بالله، وذكره الدائم له سبحانه وتعالى في جميع الأحوال واللحظات.
فتلك خصيصة خص الله بها الرسل الكرام صلوات الله وسلامه عليهم، وخص منها سيد الرسل صلى الله عليه وسلم بالنصيب الأوفى، أما الصحابة رضوان الله عليهم، وهم خير البشر بعد الرسل، فقد شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم حين يكونون معه يكونون على حال، وإذا فارقوه كانوا على حال آخر غير حالهم وهم معه، فقال « والذي نفسي بيده أن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم. ولكن يا حنظلة ساعة وساعة » (1) .
_________
(1) رواه مسلم والترمذي وأحمد وابن ماجة.

ومع ذلك فإن الساعة التي شكا منها الصحابة رضوان الله عليهم، لم تكن ساعة هبوط ولا غفلة عن ذكر الله، ويكفي وصف الله لهم بأنهم يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، إنما كان الفارق بينها وبين الساعة التي يكونون فيها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فارقاً في الدرجة لا في النوع.
ونعود إلى الوصف الرائع الذي وصف الله به الصحابة رضوان الله عليهم.
إنهم يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، فكيف كان ذكرهم له؟ أهو الذكر الذي يؤدي إلى الفناء على طريقة الصوفية، باعتبار أن الفناء عندهم هو حقيقة الوجود؟ أم الذكر الذي يؤدي إلى حضور الطاقة البشرية في الواقع المشهود، وتجمعها لتعمل في مرضاة الله؟

لقد كانوا يذكرون الله ليسألوا أنفسهم: ماذا يريد الله منا في هذه اللحظة؟ فإن كان متطلب اللحظة هو الجهاد في سبيل الله، كان الذكر هو الدافع إلى الجهاد. وإن كان متطلب اللحظة هو تحصيل العلم الذي هو فريضة على كل مسلم، كان الذكر هو الدافع إلى تحصيل العلم. وإن كان متطلب اللحظة هو السعي في تحصيل الرزق الحلال أو الإنفاق في سبيل الله أو عمارة الأرض بمقتضى المنهج الرباني، كان الذكر دافعاً إلى ذلك. وإن كان متطلب اللحظة عاشروهن بالمعروف، كان الذكر هو الدافع إلى المعاشرة بالمعروف.. وهكذا في سائر التكاليف الربانية وسائر مجالات العمل في واقع الحياة.

وكانوا يذكرون الله ليسألوا أنفسهم أين هم- اللحظة- من رضوان الله؟ أهم في الوضع الذي يرضي الله عنهم فيه؟ فإن كان كذلك حمدوا الله، وعملوا على اكتساب المزيد من رضوان الله بزيادة التقرب إليه بما يحبه من الأعمال، وإن كان غير ذلك ذكروا الله كذلك، ولكن ليغيروا ما هم فيه: { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ }{ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ } (آل عمران: 135-136).
ولننظر في الآيات التي أشرنا إليها من سورة آل عمران، لنرى ما الذي أدى إليه الذكر: { الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } (آل عمران: 191).

لقد كان متطلب اللحظة وهو مطلوب في كل لحظة التفكر في خلق السماوات والأرض، للتعرف على ما في بنيتها من الحق: { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } (التغابن: 3). { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ } (ص: 27). ولقد أدركوا بما علمهم ربهم، وبما رأوا من انتظام السنن الربانية، سواء ما يتعلق منها بالكون المادي أو بالحياة البشرية أن خلق الكون لا يمكن أن يكون باطلاً ولا عبثاً، وأن الحكمة ملحوظة في كل جزئية فيه. وحين يصل تفكيرهم إلى هذا المدى، يدركون أن الحياة الدنيا ليست هي نهاية المطاف، ولا يمكن أن تكون، فهناك من البشر من يظلم، ويظل ظالماً إلى آخر قطرة في حياته. ومنهم من يظلم ويظل مظلوماً إلى آخر قطرة في حياته. فلو كانت الحياة الدنيا هي نهاية المطاف فأين الحق؟ إنها تكون عندئذ عبثاً لا غاية له ولا حق فيه.

وهنا ينقلهم ذكر الله، والتفكر في الحق الكامن في هذا الخلق إلى ذكر اليوم الآخر، وما فيه من جنة ونار، فيستعيذون بالله من النار: { وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } (آل عمران: 191).
وإذ تذكروا النار فقد فزعوا إلى ربهم أن ينجيهم منها: { رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } (آل عمران: 192). وكأنما يقدمون بين يدي مولاهم مؤهلاتهم التي يرجون بها النجاة من النار: { رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ }{ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ } (آل عمران: 193- 194).

ويستجيب الله لهذه الضراعة الحارة من عباده، ولكن لأي شيء استجاب سبحانه؟ ألمجرد الذكر؟ ألمجرد التفكر؟ ألمجرد التدبر؟ ألمجرد الضراعة؟ وكلها مطلوبة من المؤمن الصادق الإيمان: { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ } (آل عمران : 195).
هنا الدرس التربوي في هذه الآيات التي بدأت بهذا الوصف الرائع الذي وصف به الله صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم : { الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ } . إنه الذكر الذي يؤدي إلى العمل المشهود في واقع الأرض . هاجروا وأخرجوا من ديارهم، وأوذوا في سبيل الله فصبروا، وقاتلوا وقتلوا. فاستجاب لهم ربهم .

وعلى هذا الذكر ربى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، بالقدوة أولاً في شخصه الكريم، ثم بمواعظه وتوجيهاته، ومتابعته المستمرة وعنايته ورعايته، حتى صاروا إلى تلك القمم البشرية التي لا مثيل لها في التاريخ.
* * *
والآن فلننظر ماذا كان يريد صلى الله عليه وسلم ، وإلى أي شيء كان يهدف من بذل الجهد الجبار الذي بذله في تربية أولئك الأصحاب. ألمجرد أن يكونوا حواريين له صلى الله عليه وسلم ؟ ألمجرد أن يكونوا مؤمنين صادقي الإيمان؟ إنه هدف نبيل ولا شك، ويستحق أن يبذل فيه الجهد، ولكن‍ه أكل هذا الجهد؟

لقد كان جزء من هذا الجهد يكفي لتحقيق هذا الهدف على أحسن صورة يرغب فيها رسوله‍ كان يكفي جهد كالذي بذله عيسى ابن مريم عليه السلام في تربية حوارييه الذين التفوا حوله، وأخلصوا له، ونشروا دينه من بعده، وكانوا مثلاً في الرأفة والرحمة والزهد ونظافة الأخلاق: { ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ } (الحديد : 27). ولكن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يكن يريد مجرد أن يربي جماعة من المؤمنين، ككل المؤمنين الذين رباهم الرسل من قبله، إنما كان يريد أمراً آخر أعظم وأجل . يريد أن يربي القاعدة الصلبة التي تنشأ بدورها { خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } (آل عمران : 110).

إن الفارق بين أي جماعة من الجماعات المؤمنة التي رباها الرسل الكرام قبل محمد صلى الله عليه وسلم ، والجماعة المؤمنة التي رباها رسول الله صلى الله عليه وسلم كامن في التكاليف الربانية التي كلف الله بها هؤلاء وهؤلاء، والمهمة المطلوبة من هؤلاء وهؤلاء.
فأما الجماعات المؤمنة السابقة فقد قال الله عنها : { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } (البينة :5).
وأما جماعة الرسول صلى الله عليه وسلم فقد كلفهم التكليف ذاته؛ أن يعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، ثم كلفهم تكليفاً آخر، اختصهم به دون الأم السابقة كلها: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } (آل عمران:110) . { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } (البقرة:143).

الأمم السابقة أخرجت لتؤمن بالله وتستقيم على الإيمان في ذات نفسها فحسب، وهذه الأمة أخرجت للناس، لتكون نموذجاً تهتدي به البشرية كلها إلى الصراط المستقيم. وفرق في الإعداد والتكوين بين شخص يراد له أن يستقيم في ذات نفسه وفي حدود قوم محدودين، وشخص يراد منه أن يكون نموذجاً يحتذى، لا في داخل قومه فحسب، بل على نطاق البشرية كلها حيثما التقى بها في أي بقعة من الأرض.
وقد يكون الأساس واحداً : عبادة الله وحده بلا شريك، ولكن يظل الفرق قائماً بين أساس تريد أن تقيم فوقه بناء صغير الحجم، محدود النطاق، وأساس تريد أن تقيم فوقه بناءً شاهقاً متسع الأرجاء، كلاهما مطلوب فيه الإتقان، وكلاهما يحتاج إلى جهد، ولكن شتان بين أساس وأساس، وجهد وجهد، وإتقان وإتقان .
الفارق نلحظه ابتداءً في كتاب الله .

كل أمة مؤمنة دعيت للإيمان بالله واليوم الآخر، ولكن لا يوجد كتاب من الكتب المنزلة أخذت فيه هذه القضية المساحة والتركيز اللذين أخذتهما في كتاب الله الأخير. وكل أمة مؤمنة ربط التكاليف المطلوبة منها بهذه القضية الجوهرية التي هي أساس كل شيء، ومنطلق كل شيء، ولكن لا توجد رسالة أحكم فيها ربط التكاليف بهذه القضية الجوهرية كما أحكم في الرسالة الأخيرة، مع تعدد التكاليف في تلك الرسالة واتساع نطاقها وشمولها لكل مجالات الحياة (1) .
ثم نلحظ الفارق - على خط مواز لما جاء في كتاب الله - في المنهج النبوي الذي ربى به رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، سواء في تركيز المنهج على قضية الإيمان بالله واليوم الآخر، أو في إحكام ربط التكاليف كلها - الاعتقادية والسلوكية - بهذه القضية الجوهرية.
في الفترة المكية لم تكن قد نزلت بعد الأحكام والتوجيهات التي تنظم حياة الجماعة المؤمنة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إنما كانت كلها مخصصة لبذر العقيدة الصحيحة في النفوس، وتهيئة هذه النفوس لمقتضيات هذه العقيدة، التي كان مقداراً في علم الله أن تجيء في موعدها المناسب.
_________
(1) انظر إن شئت فصل ((مقتضيات لا إله إلا الله في الرسالة المحمدية)) من كتاب ((لا إله إلا الله، عقيدة وشريعة ومنهاج حياة))

ونتكلم الآن عن المؤمنين الذين آمنوا أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وآمنوا بالبعث والنشور والحساب والجزاء، لأن هؤلاء هم القاعدة الصلبة التي رباها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والتي هي موضع حديثنا في هذا الفصل. ولكن لا يفوتنا أن نذكركم كم عانى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في عرض هذه القضية، وتبليغها للناس، سواء من طغاة قريش الذين وقفوا لهذه الدعوة بالمرصاد، يحاربونها بكل وسائل الحرب، أم من الجماهير التي حاربتها لأنها تخالف مألوفاتها، ولأنهم هم في ذات الوقت مستعبدون لأولئك الطغاة، وعوا ذلك أم لم يعوه، وارتضته نفوسهم أم كرهوه.
في هذه الفترة التي نحن بصددها كان التركيز على مقتضيات بعينها من مقتضيات لا إله إلا الله.

فأما النطق فهو وقتئذ العلامة الظاهرة للإيمان، فلم يكن ينطق بالشهادتين في ذلك الوقت إلا من آمن حقاً، وجاء يعرض إيمانه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مخاطراً بنفسه، معرضاً نفسه للأذى ينصب عليه من كل حدب وصوب، والجاهلية كلها من حوله تناجزه العداء، وتظهر له الإنكار والبغضاء. ومع أن النطق في ذلك الوقت كان علامة مؤكدة على الإيمان، لأنه لم يكن يعرض نفسه لمخاطر النطق إلا من آمن حقاً ، وبلغ به التصديق مبلغ اليقين، فهل اكتفى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم بأنهم صدقوا في داخل قلوبهم ونطقوا بألسنتهم؟‍
ولو اكتفى بذلك منهم، فهل كانت تقوم تلك القاعدة الصلبة التي غير الله بها وجه الأرض؟
وفيم إذن كان لقاؤه معهم في دار الأرقم، ومصاحبته لهم، وقضاؤه الساعات معهم؟ ليقول لهم: آمنوا بأنه لا إله إلا الله، وقد آمنوا بالفعل؟ أم ليقول لهم انطقوا بألسنتكم أنه لا إله إلا الله وقد نطقوا بالفعل؟ إنما كان يلتقي بهم ليربيهم على مقتضيات لا إله إلا الله، مقدماً لهم النموذج العملي في شخصه الكريم.

لقد كان من مقتضيات لا إله إلا الله في ذلك الحين، وفي كل حين، الصبر على الأذى في سبيل الحق ، في سبيل العقيدة الصحيحة التي يؤمن بها الإنسان. فهل كان مجرد الإيمان، أي التصديق بلا إله إلا الله والنطق بها، يؤدي تلقائياً إلى الصبر على الأذى مهما اشتد، والتمسك بالحق مهما كلف في النفس والمال؟ أم يحتاج هذا الأمر إلى جهد معين لتقوية الكيان النفسي حتى يحتمل الضغط دون أن ينثني أو ينهار؟ ومن أين تعلمون ذلك؟ أبمجرد أن يقال لهم اصبروا تنضبط المشاعر، وتصلب العزيمة، وتصغر الدنيا بمتاعها الحلو في نظر صاحبها، ويتطلع إلى ما هو أعلى وأشف، فيحتمل الأذى صابراً، ولا يفرط في الحق الذي آمن به؟ كلا والله إنما يحتاج الأمر إلى تلقين وتعليم وتدريب وتوجيه. والمعلم الأعظم صلى الله عليه وسلم هو الذي يعلم ويلقن، ويدرب ويوجه. ولكن لا بمجرد كلمات يلقيها لأصحابه، بل بنموذج عملي يرونه شاخصاً أمامهم، يطبق في ذات نفسه ما يدعوهم إليه، على المستوى الأعلى، فيتعلمون فينفذون.
لقد أوذي سيد الرسل صلى الله عليه وسلم أذى يهد الجبال .

أوذي بالتكذيب، وما أشق التكذيب على الصادق الأمين . وأوذي بالسخرية، وما أشق السخرية على قلب من يؤمن بالحق، ويعلم أنه الحق وأنه خير وأنه هدى وأنه نجاة وأنه فلاح، وأن الساخرين في الضلال البعيد. وأوذي بالدعاية المضادة والتشهير والتنفير ومحاولة صرف الأتباع، بل محاولة صرف الناس عن مجرد السماع. وأوذي الإيذاء البدني والحسي. إن قذفه بالأحجار حتى تدمي قدماه الشريفتان، وإن بنشر الشوك في طريقه كما فعل أبو لهب وامرأته حمالة الحطب، وإن بإلقاء الأوساخ عليه وهو ساجد يذكر ربه، وإن . وإن .
ولا يزيده ذلك كله إلا استمساكاً بالحق، وإصراراً عليه. وتعرض عليه المغريات كلها التي تغري الناس في الحياة الدنيا، الملك والسلطان والمال والجاه والمتاع، فيقول لعمه وقد شكاه قومه إليه : « والله يا عم، لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في شمالي، على أن أترك هذا الأمر ما فعلت، حتى تنفرد سالفتي » أو قال : « حتى أهلك دونه » (1) .
وهكذا يلقن الدرس لأصحابه، لا مجرد كلمات، وإن كانت الكلمات مطلوبة للبيان، ولكن سلوكاً عملياً يشرح الكلمات، ويحولها إلى حقائق مشهودة في عالم العيان.
_________
(1) انظر كتب السيرة .

وكان من مقتضيات لا إله إلا الله في ذلك الحين، وفي كل حين، امتلاء القلب بحب الله، واستشعار عظمته سبحانه وتعالى، والتعلق به، والتطلع إليه، والتوجه إليه في كل سلوك وكل شعور. فهل كان مجرد الإيمان، أي التصديق بأنه لا إله إلا الله، والنطق بها، يؤدي تلقائياً إلى ذلك التوجه وذلك السلوك؟ أم يحتاج الأمر إلى تعليم وتلقين، وتدريب وتوجيه؟
ومن يوجه ويعلم إلا المربي صلى الله عليه وسلم ؟ لا بمجرد كلمات تلقى، ولكن بسلوك عملي يراه الأصحاب، ويتملونه ويتعلمون منه، إذ يرونه في كل لحظة ذاكراً لربه، متوجهاً إليه، متطلعاً لرحمته، متذللاً متضرعاً تائباً منيباً لا يفتر لسانه عن الدعاء، ولا قلبه عن الذكر.
وكان من مقتضيات لا إله إلا الله في ذلك الحين، وفي كل حين، الإيمان بقضاء الله وقدره، والإيمان بأنه هو وحده المدبر، هو وحده المقدر، هو وحده الفعال لما يريد، هو وحده الرزاق، هو وحده الضار النافع، هو وحده المحيي المميت، هو وحده المالك لكل شيء وكل أمر، هو المتصرف وحده في الكون وفي الناس، لا يكون شيء إلا بأمره، ولا يكون شيء حتى يشاء سبحانه.

فهل كان مجرد التصديق بلا إله إلا الله والنطق بها يحدث ذلك الإيمان في النفوس؟ أم يحتاج إلى التعليم والتلقين والتدريب والتوجيه؟ وهل يكفي لترسيخ ذلك الإيمان كلمة أو كلمات أو درس عابر أو دروس؟ إنها ليست نظرية تدرس وتحفظ، ويسأل فيها الإنسان فيجيب بلسانه، إنها معاناة واقعية، تصطدم في كل لحظة برغبة من رغبات النفس، أو شهوة من شهواتها، أو هاجس من هواجسها، أو تجربة مريرة يمر الإنسان بها، ثم يتعلم من خلال المعاناة، ويحفظ الدرس، لا بعقله فقط ولا بوجدانه فقط، بل بأعصابه وجسده وروحه وكيانه كله.
ضربت هذا المثل في كتاب سابق: (1) إذا سألت أي إنسان في الطريق: من الذي يرزقك؟ يجيب بداهة : الله هو الرزاق، ولكن حين يضيق عليه في الرزق، أو قل على وجه التحديد: حين يؤذى في رزقه فماذا يقول؟ يقول في أغلب الأحوال: فلان قطع رزقي، أو فلان يريد أن يقطع رزقي‍ فما دلالة ذلك؟ دلالته أن ما كان يبدو بديهية لم يكن كذلك في الحقيقة‍‍‍ أو قل: إنه كان بديهية ذهنية لم تتعمق في الوجدان، لم تصبح بعد بديهية قلبية ينبني عليها سلوك‍ أو تنبني عليها المشاعر الصحيحة التي ينبني عليها بعد ذلك سلوك صحيح‍
_________
(1) كتاب ((واقعنا المعاصر))

لفت نظري أمر وأنا أقرأ خطاب الله لبني إسرائيل في سورة البقرة : { وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ } (البقرة : 49).
العذاب واقع من فرعون: يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم، ولكن الابتلاء واقع من الله‍ هل يرد هذا الخاطر على الذهن بداهة حين يرى العذاب أو يسمع عنه؟ أم يتجه الذهن إلى الفاعل المباشر الذي يقع الفعل منه؟ ويحتاج الإنسان إلى تعليم وتلقين لكي يعلم أن الفاعل قائم بالعمل، نعم، ولكن وراء ذلك قدر الله؟ وحين يعلم ذلك، ويستقر في خلده حتى يصبح يقيناً، فلمن يتجه ليرفع عنه البلاء؟ هذا هو الدرس من وراء التوجيه . ولا يتنافى ذلك في حس المؤمن مع اتخاذ الأسباب، ولكن دون اتكال على الأسباب، ودون اعتقاد بأن الأسباب تعمل من ذات نفسها؛ إنما هي تعمل بقدر من الله، وفي الحدود التي قدرها الله، ويظل التطلع دائماً إلى المدبر الحقيقي وراء الأحداث والأشخاص، الله الذي بيده ملكوت كل شيء.

وكان من مقتضيات لا إله إلا الله في ذلك الحين - وفي كل حين- الإخوة في الله، والحب والبغض في الله، والولاء والبراء في الله . وكانت تلك كلها بالنسبة للبيئة العربية، ولكل بيئة جاهلية في القديم والحديث، أموراً مخالفة ومغايرة لعرف البيئة. ففي الجاهلية العربية كان رباط الدم هو الرباط الثابت الدائم الوثيق، وكل رباط غيره إما ضعيف منقطع وإما غير موجود أصلاً. وفي الجاهليات الحديثة أصبح البديل من رابطة الدم القريبة المحصورة رابطة القومية والوطنية التي تفاخر بها تلك الجاهليات وتتعصب لها على نفس الصورة التي كانت تفاخر بها الجاهلية العربية وتتعصب بها لرابطة الدم المتمثلة في القبيلة. اختلاف في مدى السعة لا في الجوهر
أما الحب والبغض في الجاهلية العربية وفي كل جاهلية فمداره المصالح، وهي في الأغلب المصالح المادية القريبة، ومداره من جهة أخرى ((الأنا)): أنا، وكرامتي، ومالي، وسلطاني ، وقومي وأتباعي إن كنت من ((الملأ))، أو سادتي إن كنت من المستضعفين

وأما الولاء والبراء فهو صنو الحب والبغض، لا ضابط له إلا تلك المصالح التي تكون اليوم هنا وتكون غداًَ هناك. فهو لذلك دائم التقلب لا يثبت على حال، وصداقات اليوم قد تنقلب غداً عداوة، وعداوات اليوم قد تنقلب غداً صداقة، لا لتغير في المبادئ، ولا في القيم، ولكن لتغير المصالح المؤقتة التي لا تثبت على حال . والجاهليات كلها في هذا الشأن سواء‍
ولم يكن مجرد الإيمان - بمعنى التصديق- بلا إله إلا الله، والنطق بها، ليؤدي تلقائياً إلى تغيير جذري في تلك الأمور كلها، التي يساندها عرف الجاهلية، وأوضاعها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والأخلاقية. وإن كان الإيمان بلا إله إلا الله يهيئ دون شك للتغير وتقبل التغيير . أما المعايير الجديدة، والقيم الجديدة، والأوضاع الجديدة التي يراد بناؤها فلا تتأتي تلقائياً، ولا تتم في لحظة، ولو كانت لحظة الإيمان، وإنما تنبي لبنة لبنة حتى يستقيم بها البناء الجديد.
وذلك تقوم به التربية .

وذلك ما قام به المربي الأعظم صلى الله عليه وسلم ، في دأب، وحدب، ورعاية، ومتابعة حتى وصل به إلى تلك القمم السامقة، فأصبحت الإخوة في الله أقوى في نفوس القوم من رابطة الدم، وأصبح الحب والبغض لا علاقة له بالمصالح الأرضية، بل هو معها في موضع التقابل الكامل، والكفة الراجحة هي لما كان لله وفي الله، وأصبح الولاء والبراء مرتبطاً بالقيم الإيمانية وحدها، خالصاً لله.

وكان من مقتضيات لا إله إلا الله في ذلك الحين، وفي كل حين، مجموعة من الفضائل الخلقية العالية، كان بعضها موجوداً في البيئة العربية ولكن الجاهلية كانت قد أفسدته فحرفته عن مساره السوي . كالشجاعة التي كانت الجاهلية قد حمية جاهلية، كما جاء في سورة الفتح (1) . والكرم الذي كانت الجاهلية قد حرفته عن مساره السوي، فأصبح إنفافاً للمال رئاء الناس، كما جاء في سورة البقرة، (2) فلزم تصحيح مسارها، وردها إلى أصلها السوي في الفطرة، لكي تكون لله، وفي الله. وبعضها لم يكن موجوداً في الجاهلية العربية، ولا يمكن أن يوجد في أي جاهلية، كمنع التظالم بين الناس، وإقامة الحياة على القسط والعدل، لا على قانون الذئاب، واحترام الإنسان من حيث هو إنسان، بصرف النظر عن جنسه ولونه ولغته ووطنه ووضعه الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي، وهو أمر لا يمكن أن يتم إلا حين تتجرد النفس لله (3) .
_________
(1) ((إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية، حمية الجاهلية))
24akhbar
تابع الكتاب
مُساهمة 02.08.10 18:06 من طرف 24akhbar

هدف مشروع في ذاته، ودع عنك موقف الجاهلية التي تجعل من حق كل إنسان أن يسعى للوصول إلى الحكم. إلا الإسلاميين! فهم وحدهم يصبحون مجرمين إذا سعوا للوصول إلى الحكم! دع عنك هذا فهو موقف معروف من الجاهلية تجاه دعوة الحق، منذ كانت جاهلية في الأرض، ودعاة يدعون بدعوة الحق. ((شنشنة نعرفها من أخزم)) كما يقول المثل العربي المشهور! سواء جاء((أخزم)) من الشرق أو الغرب أو من داخل البلاد!
ولكن القضية ليست في مشروعية الهدف. إنما هي في سؤال أساسي: هل مجرد تطبيق الشريعة يكفي لإصلاح حال الأمة التي وصلت لأن تكون غثاء كغثاء السيل، أم يحتاج الأمر إلى متطلبات أخرى قبل ذلك، وبعد ذلك وفي أثناء ذلك؟!
لو أن الداعية الأول- رحمه الله- أعلن للصفوة التي اختارها لتكون هيئة تأسيسية لجماعته ما أعلنه((للجماهير)) عام 1948م (أي بعد عشرين سنة من بدء الدعوة) لتغيرت أمور كثيرة في خط السير!

في عام 1367هـ (1948م)، وتحت عنوان: ((معركة المصحف))، قال الإمام الشهيد: ((الإسلام دين ودولة ما في ذلك شك، ومعنى هذا التعبير بالقول الواضح أن الإسلام شريعة ربانية جاءت بتعاليم إنسانية وأحكام اجتماعية، وكلت حمياتها ونشرها والإشراف على تنفيذها بين المؤمنين بها، وتبليغها للذين لا يؤمنوا بها إلى الدولة، أي إلى الحاكم الذي يرأس جماعة المسلمين ويحكم أمتهم، وإذا قصر الحاكم في حماية هذه الأحكام لم يعد حاكماً مسلماً، وإذا أهملت شرائع الدولة هذه المهمة لم تعد دولة إسلامية. وإذا رضيت الجماعة أو الأمة بهذا الإهمال ووافقت عليه لم تعد هي الأخرى إسلامية، مهما ادعت ذلك بلسانها. وإن من شرائط الحاكم المسلم أن يكون هو نفسه متمسكاً بفرائض الإسلام، بعيداً عن محارم الله، غير مرتكب للكبائر، وهذا وحده لا يكفي في اعتباره حاكماً مسلماً حتى تكون شرائط دولته ملزمة إياه بحماية أحكام الإسلام بين المسلمين، وتحديد موقف الدولة منهم بناء على موقفهم هم من دعوة الإسلام)) (1) .
_________
(1) انظر العدد 627 من جريدة(الإخوان المسلمون) اليومية، السنة الثالثة، بتاريخ الأحد7 رجب سنة 1367،16 مايو سنة1948 .

ترى لو كان أعلن ذلك منذ البدء، هل كانت ستتدفق الجماهير التي تجمعت حوله عن طريق الشحن العاطفي حتى بلغت نصف مليون، معظمهم من الشباب، في شعب لم يكن يتجاوز تعداده يومئذ تسعة عشر مليوناً من البشر؟ بل هل كانت((الصفوة)) ذاتها تتجمع بمثل هذه السهولة التي تجمعت بها، منساقة بعواطفها نحو الهدف الكبير؟
لا أظن.
ثم هل كانت ستتكون من نفس الأشخاص الذين تكونت منهم بالفعل أم من غيرهم؟
لا أدري! ولا أحد يستطيع أن يقطع في ذلك بيقين.
ولكن أيا كان الأشخاص الذين كانت القاعدة ستتكون منهم يومئذ، فقد كانوا سيكونون أصلب عوداً، وأكثر دراية، وأطول نفساً، وأقل تعجلاً مما كانوا بالفعل، فما كانوا سينساقون بعواطفهم، ولا كانوا سيعتقدون أن الهدف سهل المنال قريب التحصيل، فيجندوا أنفسهم وأعصابهم، كما فعل كثير منهم، لفترة محدودة من الزمن، يعتقدون أن كل شيء سيتم في خلالها بما أعدوه من وسائل الوصول.
كانوا سيعلمون أن المشوار طويل طويل، وأن الجهد المطلوب غاية في الضخامة، وأن الوسائل المطلوبة أكثر بكثير مما هو معد. لأن المطلوب ليس مجرد ترميمات في بناء قائم، ولكنه إعادة تثبيت الأساس.

أما الجماهير فما أظنها كانت ستقبل مع إعلان هذه المبادئ! فقد كانت ستعلم أنها قضية أخطر بكثير من مجرد الاستماع إلى الكلام المؤثر، والامتلاء العاطفي، الذي كانوا يسمونه((الروحانية)) (1) والمتعة بلقاء الأحباب، والنشوة بالكثرة التي تتكاثر على الدوام.
كانت ستعلم أنه صراع مع الجاهلية يعرض الإنسان لكثير من المخاطر، التي لا ينبغي((للعاقل!)) أن يعرض نفسه لها { وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا } (القصص: 57).
عندئذ كانت الحركة ستمضي بطيئة الخطى، ولكن على منهج أصح! كانت القاعدة الصلبة ستتكون في بطء من رجال يختارون على مهل بعين فاحصة لا تختار إلا أصلح الخامات الموجودة، ثم يبذل في إعدادهم الجهد اللازم ليكونوا نواة صالحة للعمل، بالتربية الروحية، والتربية الخلقية، والتربية الفكرية، والتربية النفسية، والتربية بالعلم الشرعي الصحيح، في ظل المنهج الرباني العظيم: { كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } .
_________
(1) الصحيح هو((الروحانية)) بضم الراء نسبة إلى الروح.

وكانت القاعدة ستتوسع، حين يأتي أوان التوسع، بعد إعداد القاعدة الصلبة، بجنود جندوا أنفسهم للدعوة على بصيرة بحقيقة القضية ومتطلباتها، ووعي صحيح بحالة الأمة وما لحقها من الأمراض، وتقدير سليم لطبيعة العمل في كل مرحلة من مراحل الحركة، وذلك قبل التوجه لعامة الجماهير لينظموا للدعوة وينضووا تحت لوائها.
وكان((العمل السياسي)) بمعنى الاشتغال بالقضايا الوطنية والقضايا الاجتماعية وما شاكلها، سيتأخر بعض الوقت، ريثما يتم التمكين الصحيح للأساس الصحيح، المتمثل في العقيدة الصحيحة والتربية على مقتضياتها، في محيط الذين استجابوا للدعوة، وجندوا لها أنفسهم (بما يقابل مجتمع المدينة في جماعة الرسول صلى الله عليه وسلم ).
ثم كان سيحدث الصراع! وهو أمر لا مفر من حدوثه حسب السنن الربانية التي قدرها الله في حياة البشرية! وهو يبدأ دائماً من جانب الجاهلية حين تستشعر الخطر من مجود جماعة مؤمنة في الأرض، ولو كانت قليلة العدد، ولو كانت من جانبها لا ترغب في الدخول في الصراع: { إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ }{ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ }{ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ } (الشعراء: 54-56).

ولكن كان المتوقع أن يتأخر الصراع عن موعده الذي وقع فيه، بحيث يعطي فرصة أكبر لتربية القاعدة الصلبة، ثم تربية القاعدة الموسعة بالقدر المتاح من التربية، ثم إنه حين كان يقع على قوم كفوا أيديهم، ولم يعملوا شيئاً إلا أن يقولوا رَبُّنَا اللَّهُ ، فإن هذا كان سيعجل في تنمية وعي ((الجماهير)) بحقيقة القضية، فلا تلتبس في ذهنهم بغيرها من القضايا التي تلبست بها بالفعل، وكان سيصعب على الطغاة تطويع الجماهير لهم من خلال القهر مرة ومن خلال وسائل الإعلام المزيفة مرة، حين تستبين سبيل المجرمين بتفصيل الآيات، على المنهج الرباني القويم، ويعرف الناس على أي أساس يقررون مواقفهم: { وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ } (الأنعام: 55).
* * *
الذي حدث بالفعل كان على خلاف ذلك.

تأخر الإعلان عشرين سنة كاملة عن موعده، وفي تلك السنوات كانت الجماهير كثيرة قد تدفقت على الحركة غير مستشعرة بما يحيطها من أخطار! واختلطت الدعوة، وهي لم تخلص بعد للا إلا إله إلا الله، بكثير من القضايا السياسية والقومية والاجتماعية، على ظن من القائمين بالدعوة أن هذا سيمكن للدعوة بتوسيع قاعدتها الشعبية، وأن الجماهير يجب أن تشرك في الأمر، وذلك بتناول القضايا التي تشغل بال الجماهير في ذلك الوقت، حتى كانت القنبلة التي فجرت الموقف كله في فلسطين عام 1948م .
عندئذ بدأ الهجوم الوحشي على الحركة بأبشع صورة يمكن أن تخطر على البال.
نعم كانت الحرب على الدعوة متوقعة، لأنها كما قلنا سنة من سنن الله، وكان الإمام الشهيد يقول لأعوانه وأتباعه: ((أحب أن أصارحكم أن دعوتكم لا زالت مجهولة عند كثير من الناس، ويوم يعرفونها ويدركون مراميها وأهدافها ستلقى منهم خصومة شديدة وعداوة قاسية، وستجدون أمامكم كثيراً من المشقات، وسيعترضكم كثير من العقبات، وفي هذا الوقت وحده تكونون قد بدأتم تسلكون سبيل أصحاب الدعوات)) (1) .
ولكن الصورة التي تمت بها الحرب لم تكن تخطر على البال.
وتوالت المذابح منذ ذلك الحين وما تزال .
_________
(1) مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا، المؤسسة الإسلامية للطباعة والصحافة والنشر، بيروت، ط3، 14.3هـ، 1983م ص1.8 .

لقد انكشفت للغرب الصليبي موضع الخطر على وجه التحديد، إنه الإسلام السياسي الذي لا يقنع من الإسلام بشعائر التعبد ومشاعر القلوب، إنما يريد أن يكون منهجاً مطبقاً في واقع الأرض، يحكم حياة الناس كلها : سياستها واقتصادها واجتماعها وفكرها وأخلاقها، وكل مجال من مجالاتها! وهل يوجد - في نظر الغرب - أخطر من ذلك على وجه الأرض؟ (1) .
لا بد إذن من مكافحته . لا بد من تجنيد القوى كلها ضده . لا بد من متابعته ومطاردته . لا بد من تجفيف منابعه . لا بد من تشويه صورته حتى لا يقبل عليه الشباب فتزيد خطورته!
ولقد أشعل نار الحقد في قلوب الصليبية الصهيونية أمران في وقت واحد: الأول وقع المفاجأة على الصليبية التي كانت تتوقع بعد تخطيط مائتي عام أو أكثر أن تنجح في القضاء على الإسلام، ففوجئت به يستيقظ من رقدته! والثاني تهيؤ اليهودية العالمية لإقامة دولتها على أرض الإسلام بعد سعيها الحثيث لإماتته، حتى تنشئ دولتها في أمان من الأخطار، فإذا بها تفاجأ بالخطر وجهاً لوجه! وتلاقى الأمران معاً وتفاهما على ضرورة القضاء على عدوهما المشترك الخطير.
_________
(1) يزعم الغرب أنه يحارب ((الإسلام المقاتل)) ((Militant Islam)) فقط ، الذي أطلق عليه لقب ((الإرهاب)) ولا يقاتل الإسلام ذاته. ويكذب هذا الزعم تكذيباً قاطعاً موقف الغرب من حركة الجزائر ، فهي لم تكن مقاتلة، ولا كان في برنامجها أن تقاتل، إنما وصلت عن طريق صناديق الانتخاب على مذهب الغرب ذاته، ولكن الغرب لم يطقها. مما يدل على أنه لا يريد للإسلام أن يحكم، بصرف النظر عن الوسيلة التي يصل بها إلى الحكم!

هل كان يتوقع أن تنجو الحركة الإسلامية من عداوة الصليبية الصهيونية وكيدها، ومحاولة القضاء عليها؟
نعتقد أن ذلك محال!
ولكنا نعتقد مع ذلك أن صورة أخرى كانت قمينة أن تقع لو سارت الأمور على المنهج الصحيح، لو كانت ((الجماهير)) التي أشركت في الصراع قبل الأوان على وعي بحقيقة القضية، وحقيقة الصراع! ولن تكون الجماهير على هذا الوعي حتى تكون قد تربت من قبل، ولن تتربى التربية المطلوبة حتى تكون القاعدة قد تم إنشاؤها على منهج سليم! وهكذا أدى النقص في الحلقة الأولى إلى نقص متسلسل في بقية الحلقات!
ثم كان ما أشرنا إليه في الفصول الأولى من ردود فعل للضربات الوحشية من قبل الأعداء، زادت من الغبش سواء في القاعدة أو عند الجماهير، ونقصد بذلك دخول بعض فصائل العمل الإسلامي في البرلمانات، وما صاحب ذلك من تمييع لقضية الشرعية، وقضية الإلزام في تحكيم شريعة الله، ودخول فصائل أخرى في صراع مسلح مع السلطات، مما أدى إلى تهميش القضية الأساسية، وتحول الأمر في حس الناس إلى قضية ضارب ومضروب، وغالب ومغلوب (1) .
_________
(1) راجع فصل ((أسباب التعجل)) في أول الكتاب .

ثم اشتطت فصائل أخرى من فصائل العمل الإسلامي فدخلت في معارك دموية مع الناس. مع ((الجماهير)) على أساس أنهم كفار يجوز قتلهم ما داموا لم يدخلوا في ((الجماعة المسلمة))!
وكان لهذا الأمر أسوأ الأثر على العمل الإسلامي كله. ففضلا عن النفور العام عند الناس من هذه الأعمال التي لا سند لها من شرع الله، فقد وجدت وسائل الإعلام المتربصة بالحركة الإسلامية فرصة مواتية لتلوين الساحة كلها بلوم الدم المراق، مع أنه لا يمثل إلا جزءا ضئيلاً من الساحة، ووصمت كل عمل إسلامي أيا كان نوعه بأنه عمل إرهابي ينبغي أن يحارب وتجفف منابعه!
وما كانت وسائل الإعلام العالمية في حاجة إلى من ينبهها أو يحفزها إلى انتهاز هذه الفرصة، فهي - بموقفها المعادي للإسلام أصلا - جاهزة لتلقف مثل هذه الفرصة واستغلالها إلى أقصى حدود الاستغلال!

كما كان رد الفعل سيئاً بالنسبة للغبش الذي يحيط بقضية لا إله إلا الله، سواء بالنسبة للقاعدة أو بالنسبة للجماهير، فقد انبرى أصحاب الفكر الإرجائي ينافحون عن فكرهم بشدة، وينشرونه بكل وسائل النشر، بل وقع في الدوامة ((علماء)) ممن يعتبرهم الناس من أهل الذكر الذين يرجع إليهم، فراحوا ينفون الوقوع في الشرك عن الواقعين فيه بحرارة وبضراوة، ويمنحونهم شهادات موثقة بالإيمان! ويهونون في حس الناس هذا الجرم الهائل في حق الله، وهو الإعراض عن شريعته، وتحكيم الشرائع الجاهلية بدلا منها، على أنه مجرد معصية لا تستحق حتى أن يشار إليها بالإنكار! ولقد كان الأحرى أن تأخذ القضية مسيرة أطول على الخط التعليمي، تبدأ بالقاعدة ثم - على مهل- تتوسع بتوسع القاعدة، دون الدخول في معركة مع ((الجماهير)).
* * *
ثم تشرذم العمل الإسلامي لأسباب متعددة . منها غياب قيادة كبيرة تضم العمل الإسلامي وتوحده، أو في القليل تقرب بين مختلف اتجاهاته، ووجوده قيادات صغيرة، كل منها يعتد بنفسه ورأيه، ويرى أنه وحده على صواب والكل غير مخطئون.

ومنها أن كثيراً من الشباب القائم بالدعوة لم ينشأ في داخل تجمع يربى فيه روح الإخوة وترابطها، إنما تنشأ على ترابط فكري هش، يسهل فسخه عند وقوع أي خلاف في التفسير أو التأويل أو الفهم، فسرعان ما تنقسم الجماعات، وينقلب بعضها على بعض.
ومنها نقص في العلم الشرعي الذي يشكل الضوابط الضرورية للفكر وللسلوك.
ومنها بطبيعة الحال، العمل الدائب من الأجهزة المعادية للإسلام، لتعميق الخلافات وتقطيع الروابط بين الناس.
هل يرجى لهذا الحال إصلاح؟ هل يرجى من الذين تعجلوا في شتى الاتجاهات أن يراجعوا المسيرة، ويصححوا ما وقعوا فيه من أخطاء، ويبدءوا من جديد على هدى من المنهج النبوي السديد؟
إن ما وقع بالفعل هو قدر من أقدار الله . ولكنا تعلمنا من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أن الإيمان بقضاء الله وقدره لا ينفي مسئولية الإنسان عن خطئه حين يخطئ، ولا يمنعه من السعي إلى تصحيح ما أخطأ فيه.
فهل يرجى أن يصحح العمل الإسلامي مساراته، ويبدأ جولة جديدة أقرب إلى السداد؟!

إن تصحيح المسار واجب على كل حال . ولكن ربما يقول قائل: إن الأعداء لن يتركوا العمل الإسلامي يصحح مساراته، وسيعاجلونه بالحرب قبل أن يتمكن من التصحيح، بل قد تكون من عوامل الشحذ، وزيادة الوعي عند الناس بحقيقة المعركة بين الجاهلية والإسلام.
ويظل واجب النصيحة واجباً في جميع الأحوال: « (( الدين النصيحة)) قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال : (( لله ولرسوله ولكتابه ولعامة المسلمين وخاصتهم )) » (1) .
_________
(1) سبقت الإشارة إليه.
نظرة إلى المستقبل
ينزعج كثير من الناس حين ينظرون إلى الواقع الراهن، سواء بالنسبة للحرب الضارية التي توجه إلى الحركات الإسلامية في كل الأرض، أو بالنسبة لما وقع - وما يزال يقع - من الاضطراب في مسيرة الحركة من جهة أخرى، فيحسبون أن العمل الإسلامي ليس له مستقبل، وأن الواقع السيئ الذي يعيشه المسلمون اليوم سيستمر على ما فيه من السوء، أو أنه صائر إلى مزيد من السوء.
أما نحن فنعتقد اعتقاداً راسخاً أن المستقبل للإسلام.
ولسنا نبني رؤيتنا على أوهام، ولا على أحلام، ولا نحن كذلك نغمض أعيننا عن العراقيل القائمة في وجه العمل الإسلامي من داخله أو من خارجه، ولا نقلل من شأنها، ولا من تأثيرها على العمل الإسلامي.
ولكنا نؤمن إيماناً جازماً أن البشر ليسوا هم الذين يقدرون الأقدار، سواء منهم العدو أو الصديق، إنما الله هو الذي يقدر، وهو صاحب الأمر من قبل ومن بعد، ومشيئته هي النافذة، وقدره هو الغالب: { وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } (يوسف:21).

والله هو الذي قدر لهذا الدين أن يبقى في الأرض وأن يظهر على الدين كله: { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } (الصف: 9) « ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار » (1) .
وقدر الله يجري من خلال سننه التي لا تتبدل ولا تتحول ، ومن خلال وعده ووعيده، ومن خلال مشيئته الطليقة التي تقول للشيء كن فيكون، وتخلق الأسباب التي يتحقق بها كل شيء حين يقدر له أن يكون.
* * *
وإذا نظرنا إلى الموقف على ضوء السنن الربانية، وعلى ضوء وعد الله ووعيده، فسنجد على الساحة عنصرين متصارعين: الحركات الإسلامية من جهة، وأعداء الإسلام من صهيونيين وصليبيين وأعوان لهم من جهة أخرى. فما الذي يتوقع لكل من العنصرين في المستقبل القريب أو المستقبل البعيد؟
_________
(1) رواه أحمد .

فأما الحركات الإسلامية فقد أسهمت في العمل الإسلامي بجهد واضح لا شك فيه. وانتشار الروح الإسلامية على مستوى العالم الإسلامي كله، والرغبة الحارة في العودة إلى الإسلام في محيط الشباب خاصة، راجعان بعد فضل الله ومشيئته إلى الجهد الذي بذلته الحركة في أكثر من نصف قرن من الزمان، منذ سقوط الخلافة إلى الوقت الراهن.
ولكن السلبيات القائمة في العمل الإسلامي معوق واضح يبدد كثيراً من طاقة العمل ويبعثره، ولا يجعل الجهد يؤتي ثماره المرجوة، فهل يستمر الوضع على هذا الحال؟
{ قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ } (النمل: 65).
ولكن الأمر لا يخرج عن أحد احتمالين: إما أن يستمر الوضع على حاله، وإما أن يتغير.
ونحن نرجو - من خلال التجارب المرة التي يمر بها العمل الإسلامي - أن يتغير الوضع إلى الصورة الصحيحة، وأن تتلافى الأخطاء التي وقعت، وتبدأ مسيرة سليمة على منهج سليم.

ولكنا نفترض الفرض الأسوأ، وهو إصرار العاملين في حقل الدعوة على مواقفهم، على اعتبار أن منهج كل منهم هو المنهج الأصوب، وأن ما يدعو إليه غيره بعيد عن الصواب، أو على أساس أنه لا يمكن التراجع بعدما مضت كل حركة في طريقها خطوات ليست بالقليلة، أو على أي أساس آخر مما يمكن أن تبرر به كل حركة إصرارها على موقفها.
فماذا يحدث حينئذ؟ هل يعجزون الله؟ أم ينفذ الله قدره رضي الناس أم أبوا؟
إن أداة التغيير موجودة على الدوام في سنة الله عز وجل: { وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } (محمد : 38).

فإذا كان قدر الله أن يبقى هذا الدين، وأن يظهره على الدين كله، كما أخبر سبحانه في كتابه المنزل، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، فلن تقف سلبيات العمل الإسلامي الراهن أمام قدر الله ومشيئته، وسوف ينفذ الله وعده، ويخلق لنفاذه ما يشاء من الأسباب: { إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا } (الطلاق:3). { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } (المائدة : 54).
* * *
أما الأعداء فلننظر ماذا يخصهم من سنن الله، ومن وعده ووعيده.

أما الغرب الصليبي، فأشد ما ينطبق عليه من السنن الربانية هو قوله تعالى: { فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ } (الأنعام : 44) . ذلك أنهم أرادوا الحياة الدنيا وعملوا من أجلها واجتهدوا فوفى الله لهم أعمالهم فيها بحسب سنة من سننه: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ } (هود : 15) . وذلك أيضاً حسب مشيئة إلهية مسبقة، أنه يعطي الدنيا للمؤمن والكافر على السواء، كل بحسب اجتهاده، ولا يمنعها عن الكفار، بل قد يزيدهم منها ليزدادوا كفراً : { كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا } (الإسراء : 20) . { وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } (آل عمران : 178).

فإذا كان الغرب اليوم ممكنا في الأرض، ومستعلياً فيها حسب هذه السنن الربانية، فإن هذه السنن ذاتها تقول إن ذلك الإملاء لا يدوم إلى الأبد، إنما هو موقوت بقدر يأتي من عند الله في موعده المقدر له : { فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ }{ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } (الأنعام : 44-45).
وعلى الرغم من فتح أبواب كل شيء عليهم فإنهم يعيشون في الضنك الذي توعد الله به المعرضين عن ذكره.
{ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } (طه:124).

والضنك الذي يعيشه الغرب - المفتوح عليه أبواب كل شيء من أسباب التمكين المادي - يتمثل الآن في القلق والجنون والانتحار، والأمراض النفسية والعصبية، والخمر والمخدرات والجريمة، والإيدز، وما قد يجد من الأمراض التي لم تكن موجودة من قبل، أو لم تكن تأخذ صورة الوباء كما هي اليوم، وفي الأزمات التي تحيط بالعالم كله سواء كانت أزمات اقتصادية أو سياسية أو حربية أو فكرية أو خلاف ذلك ؛ وذلك لأن باب البركة وباب الطمأنينة ليسا من الأبواب التي تفتح للكفار حين ينسون ما ذكروا به، لأنها خاصة بالمؤمنين، يتفضل بها الله عليهم في الحياة الدنيا، فضلاً عن نعيم الآخرة : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ } (الأعراف:96) . { الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ }{ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ } (الرعد : 28-29).

وخلاصة القول : إن الغرب اليوم يملك كل وسائل القوة المادية، ولكنه لا يملك القدرة على الاستمرار، لأنه خاو من العوامل التي يكتب الله لأصحابها الاستمرار، وهي الإيمان بالله واليوم الآخر، وعمل الصالحات.
ولا شك أن لديهم أعمالاً صالحة، كالخدمات الطبية، وتيسير سبل الحياة بما يوفر جزءاً من المشقة التي يكابدها الإنسان في الأرض، ولم تخل جاهلية من جاهليات التاريخ من أعمال صالحة يقوم بها بعض أفرادها، ولكن ذلك لا يمنع عنها صفة الجاهلية من جهة، لأن هذه لا تزول عن الإنسان إلا إذا آمن بالله واليوم الآخر واتبع ما أنزل الله. ومن جهة أخرى فإن تلك النقط البيضاء المتناثرة في الثوب الأسود الممتلئ بالشر، لا تغني عن أصحابها شيئاً، ولا تمنع عنهم الدمار الذي تقرره السنن الربانية لهم مهما طال الإملاء لهم.

إن الإلحاد الذي تنشره الحضارة الغربية، والانحلال الخلقي الذي تنشره وسائل إعلامها، والخواء الروحي، والانغماس في المتاع الحسي إلى آخر المدى، وتزيين الحياة الدنيا، ونسيان الآخرة نسياناً كاملاً، والغفلة عن أن الله يحصى على البشر أعمالهم ويحاسبهم عليها، كل هذا لا يصنع حضارة حقيقية يكتب الله لها الاستمرار في الأرض، ولو أملى لأصحابها فترة من الزمان لحكمة يريدها.
ولسنا نحن الذين نقول ذلك إرضاءً لعواطفنا، أو تصديقاً لأحلامنا! فمن قبل سنوات قال برتراندرسل : ((لقد انتهت حضارة الرجل الأبيض، لأنه لم يعد لديه ما يعطيه)).
ومن قبل قال ألكسيس كاريل : ((إن هذه الحضارة آيلة للانهيار)).
وبالأمس شهدنا انهيار الشيوعية، وفي الوقت الحاضر تكتب الصحف الغربية - والأمريكية من بينها - تقول : هل بدأ انهيار أمريكا؟

ولسنا من السذاجة بحيث نعتقد أن ذلك سيتم غداً صباحاً! فما زال في هذه الحضارة الجاهلية من العوامل ما يمكن أن يمد لها فترة من الزمن بحسب السنن الربانية: عبقرية التنظيم، والجلد على العمل، والحرص على الإتقان، والقدرة على التخطيط. فضلاً عن كون البديل الحضاري الذي يؤدي ظهوره إلى سرعة انهيار تلك الحضارة لم يظهر بعد !
ولكن هذا كله لا يغير المصير، لأنه سنة من سنن الله!
* * *
أما اليهود فلهم شأن مختلف .
لقد كتب الله عليهم الذلة والمسكنة بما قدمت أيديهم، ولكنه جعل لذلك استثناء. أو استثناءات.

{ وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا }{ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا }{ ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا }{ إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا }{ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا } (الإسراء : 4-8).
{ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ } (آل عمران:112).

وهم الآن في قمة استثناءاتهم التي وعدهم الله بها . مسيطرون على كل الأرض إلا ما رحم ربك، يعينون رؤساء الجمهوريات، ويملون عليهم سياستهم، ويعزلون من يغضبون عليه ويسقطونه من سلطانه، ويقتلون من يقف في طريقهم كما قتلوا كيندي وغيره من الناس. ولكن هذا كله استثناء من القاعدة!
{ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ } (الأعراف:167).
تلك هي القاعدة الدائمة، وما دون ذلك استثناء، والاستثناء بطبيعته لا يدوم، لأنه مخالف للقاعدة!
والقاعدة من تقدير الله سبحانه وتعالى، والاستثناء يتم بقدر بقدر منه كذلك، ولكن طبيعة الأمور أن الاستثناء ينتهي ويعود الأمر إلى ما تقرر في القاعدة، حسب وعد الله ووعيده.
وقد لا نعلم نحن الحكمة الربانية في تلك الاستثناءات المذكورة في آيات الكتاب، ولكن وقوعها محقق سواء فهمنا حكمتها أم غابت الحكمة عن أفهامنا. والمهم أن ندرك أنها استثناء من القاعدة، وأنها موقوتة بأمد محدود.
واليهود أنفسهم يعلمون ذلك! ويعلمونه من كتبهم ذاتها لا من المصادر الأجنبية عنهم!

وحين تنهار الجاهلية المعاصرة بمقتضى السنة الربانية، بحكم ما تشتمل عليه من الفساد، فإن البشرية تكون في حاجة إلى البديل الذي يملأ الفراغ.
والإسلام هو البديل، هو الذي يعيد للأرض رشدها ويصلح أحوالها ويشفيها من أمراضها:
{ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ }{ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } (المائدة : 15-16).
الإسلام هو المنهج الكامل القويم الذي لا عوج فيه، ومناهج الجاهلية دائماً ذات نقص واعوجاج.
واليوم يفر مئات الألوف كل عام من الظلمات التي يعيشون فيها إلى نور الإسلام، لا اتباعاً لنموذج قائم، فالمسلمون في واقعهم المعاصر لا يمثلون نموذجاً يحتذى، بل هو نموذج حري أن يصد الناس عن الإسلام!
ولكن لذع الضياع يدفع بعض الناس إلى البحث عن طريق الخلاص، فيجدونه في الإسلام!

إن الغرب الضائع يملك علماً وحضارة مادية فائقة، ولكنه يفتقد الروح. الروح المهتدية إلى الله. المهتدية بهدى الله. والإسلام هو الذي يملك تلك الروح، وهو في الوقت ذاته لا يجعلها بديلاً من العلم والحضارة المادية، إنما هي التوأم المكمل:
{ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ }{ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ } (ص : 71-72).
قبضة الطين ونفخة الروح معاً هما ((الإنسان)). الإنسان المتكامل المترابط المتوازن. الإنسان الراشد، الذي يقوم بعمارة الأرض على هدى وبصيرة، ويتطلع في الوقت ذاته إلى اليوم الآخر، الذي تكتمل فيه الحياة :
{ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } (الملك:15).
{ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا } (القصص: 77).

{ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } (التوبة : 72).
الإسلام هو المنقذ الذي يملك ما تحتاج إليه البشرية وتتطلع إليه .
يقول الأمير تشارلس ولي عهد بريطانيا في محاضرة قيمة ألقاها في قاعة المؤتمرات بوزارة الخارجية البريطانية في ديسمبر من عام 1966م، تحمل دلالة واضحة بالنسبة للمعنى الذي أشرنا إليه:
((إن المادية المعاصرة تفتقر إلى التوازن. وأضرار عواقبها بعيدة الأمد في تزايد . إن القرون الثلاثة الأخيرة شهدت - في العالم الغربي على أقل تقدير - انقساما خطيرا في طريقة رؤيتنا للعالم المحيط بنا. فقد حاول العلم بسط احتكاره، بل سطوته المستبدة، على طريقة فهمنا للعالم. وانفصل الدين والعلم عن بعضهما البعض، بحيث صرنا الآن كما قال الشاعر (( وردزورث )) لا نرى إلا القليل في أمنا الطبيعة التي نملكها)).

لقد سعى العلم أي انتزاع الطبيعة من الخالق، فجزأ الكون إلى فرق، وأقصى ((المقدس)) إلى زاوية نائية ثانوية من ملكة الفهم عندنا، وأبعده عن وجودنا العملي. والآن فقط بدأنا نقدر العواقب المدمرة. ويبدو أننا نحن ك- أبناء العالم الغربي - قد فقدنا الإحساس بالمعنى الكلي لبيئتنا، وبمسئوليتنا إزاء الكون كله الذي خلقه الله، وقادنا ذلك إلى فشل ذريع في تقدير أو إدراك التراث وحكمة السلف، ذلك التراث المتراكم على مدار القرون. والحق أن ثمة تحاملا شديدا على التراث، كما لو كان جذاما اجتماعياً منفرا.
وثمة الآن في نظري حاجة إلى مقابلة كلية شاملة. لقد أدى العلم لنا خدمة جليلة في تبيانه لنا أن العالم أعقد بكثير مما كنا نتخيل. ولكن العلم في شكله المادي الحديث، الأحادي، عاجز عن تفسير كل شيء. إن الخالق ليس ذلك الرياضي الذي تخيله نيوتن، وليس صانع الساعة الأول. (1) إن انفصال العلم والتكنولوجيا عن القيم والموازين الأخلاقية والمقدسة قد بلغ حداً مريعاً مفزعاً. وهذا ما نراه في التلاعب بالمورثات (الجينات) أو في عواقب الغطرسة العلمية التي تتجلى في أبشع صورها في مرض جنون الأبقار.
_________
(1) قال نيوتن إن الله خلق الكون على هيئة ساعة كونية منضبطة الحركة. ولكن ليس ثمة داع أو فائدة من الصلاة إلى الإله صانع هذه الساعة الكونية الضخمة، لأنه هو ذاته لا يستطيع تغيير مسارها حتى لو أراد ذلك! عن كتاب ((منشأ الفكر الحديث)) تأليف برنتون ص151 من الترجمة

لقد كنت أستشعر دائماً أن التراث في حياتنا ليس من صنع الإنسان، إنما هو إلهام فطري وهبه الخالق لنا لإدراك إيقاع الطبيعة، والتناغم الجوهري الذي ينشأ عن وحدة أضداد متفرقة، ماثلة في كل مظهر من مظاهر الطبيعة. إن التراث يعكس النظام السرمدي للكون، ويشدنا إلى الوعي بالأسرار العظيمة للكون الفسيح، بحيث نستطيع - كما قال الشاعر (( وليم بليك )) - أن نرى كامل الكون في ذرة، ونرى الأبدية في لحظة .
إن الثقافة الإسلامية في شكلها التراثي جاهدت للحفاظ على هذه الرؤية الروحية المتكاملة للعالم بطريقة لم نجدها نحن خلال الأجيال الأخيرة في الغرب موائمة للتطبيق. وهناك الكثير مما يمكن أن نتعلمه من رؤية العالم الإسلامي في هذا المضمار.
إننا - نحن أبناء الغرب - نحتاج إلى معلمين مسلمين ليعلمونا كيف نتعلم بقلوبنا كما نتعلم بعقولنا. وإن اقتراب الألف الثالثة قد يكون الحافز المثالى الذي يدفعنا لاستكشاف هذه الصلات وتحفيزها. وآمل ألا نفوت الفرصة السانحة لإعادة اكتشاف الجانب الروحي في رؤيتنا لوجودنا بأجمعه)) (1)
* * *
الإسلام هو المنقذ، وهو البديل القادم بإذن الله!
وقدر الله غيب، ولكن له إرهاصات.
_________
(1) عن جريدة الشرق الأوسط العدد 6592 . بتاريخ 15 / 12 / 1996

لو كان في قدر الله أن ينتهي هذا الدين من الأرض، فقد كان الكيد الصليبي كفيلاً بالقضاء عليه يوم أطاح بالدولة العثمانية والغي الخلافة، وظنت الصليبية الصهيونية يومئذ أنها ظفرت أخيراً بعدوها اللدود، وأجهزت عليه! ولكن قدر الله كان غير ذلك، كان هو الصحوة الإسلامية!
ولما جن جنون الصليبية الصهيونية من الصحوة، قاموا يضربونها بكل ما يملكون من وسائل البطش، بالسجن والتشريد والتعذيب والقتل، ظناً منهم أن هذا هو طريق الخلاص من العدو الذي لم تقتله الضربة التي ظنوها هي القاضية. ولكن قدر الله كان غير ذلك، كان مزيداً من انتشار الصحوة في كل الأرض!
والإرهاصات كلها تقول: إن الإسلام هو البديل القادم، الذي يصلح ما أفسدته الجاهلية في الأرض!
* * *
الإسلام قادم من أي طريقيه جاء. الطريق الهادئ البطيء المتدرج، الذي نحبه ونرتضيه وندعو إليه، ولو استغرق تمامه عدة أجيال، أو الطريق الصاخب العنيف الذي تغذيه حماقات الغرب وحماقات إسرائيل!

إن الصليبية الصهيونية التي تسيطر على الأرض اليوم، تعمل بحماقة ضد مصالحها ! إنها - بعنف البطش الذي توجهه ضد الحركات الإسلامية - تولدت أجيالاً من العمل الإسلامي أصلب عوداً، وأطول نفسا، وأكثر وعياً، وأشد مراساً من الذين تحاربهم اليوم!
وعقلاؤهم يعرفون ذلك، ويحذرون قومهم منه، ولكن الحقد الذي في قلوبهم يعميهم عن رؤية هذه الحقيقة، ويصم آذانهم عن الاستماع للنصيحة، ولو جاءت من عقلائهم أنفسهم!
ويتم ذلك بقدر من الله، وحسب سنة من سنن الله : { وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ }{ وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ } (إبراهيم : 45-46)
إن الانفجارات الكبرى في التاريخ تحدث دائماً حين يشتد ضغط الطغاة على تيار صاعد! يشتد عليه الطغاة ليكبتوه، فيكون هذا الضغط ذاته هو الذي يولد الانفجار، ويكون الضحية فيه هم الطغاة.
والذي تفعله الصليبية الصهيونية اليوم - بحماقة - هو هذا الضغط الذي يولد الانفجار.
* * *
وبضربة قدر واحدة تتم ثلاثة أمور في وقت واحد .
يتم أولاً عقاب الأمة الإسلامية على ما فرطت في دين الله .

لقد حمل الله هذه الأمة أمانة لم يحملها لأمة سابقة في التاريخ، حين كرمها بأن تكون أمة خاتم الأنبياء، وجعل في حمل هذه الأمانة خيرية الأمة وفضلها على الأمم السابقة: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } (آل عمران :110). { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } (البقرة: 143).
ولكنها غفلت حيناً من الدهر، ونسيت رسالتها لا تجاه البشرية فحسب، بل تجاه نفسها كذلك . عندئذ قدر الله لها أن تعاقب على يد أعدائها، كما أنذرها رسولها: « يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها » . قالوا : أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال : « بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله المهابة من صدور أعدائكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن)). قالوا : وما الوهن يا رسول الله؟ قال (( حب الدنيا وكراهية الموت » . (1)
_________
(1) سبقت الإشارة إليه.

وفي الوقت الذي قدر الله فيه عقاب الأمة على يد أعدائها، مكن لهؤلاء الأعداء في الأرض، حسب سنته فيمن نسوا ما ذكروا به . وليتم بشأنهم قدر آخر هو التدمير في الموعد المقدر عنه الله عقاباً لهم على إعراضهم وطغيانهم وتجبرهم، فضلاً عن القدر المقدر لهم يوم القيامة، والذي قال الله عنه : { لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ } (النحل : 25) . { وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } (آل عمران : 178).
ويتم كذلك في الوقت ذاته تمحيص المؤمنين : { وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ } (آل عمران:141).
وكما تمت تربية موسى في قصر فرعون بقدر من الله، يتم اليوم بقدر من الله مولد جيل جديد، جيل ما بعد الغثاء، على يد الأعداء الذين يكيدون لهذا الدين: { وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } (يوسف:21).
* * *

ولن يكون الأمر نزهة قريبة بالنسبة للمسلمين . إنما هي تضحيات، ودماء ودموع، وعذاب ومعاناة، ولأواء وابتلاء، وجهد دائب لا يهدأ { وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ } (آل عمران : 140).
لا بد من ثمن يدفعه المسلمون جزاء تفريطهم في دين الله، ولابد من جهد يبذلونه ليعودوا إلى الطريق.
ولكن عزاءهم، وهم يقدمون الشهداء، ويتحملون العذاب، ويبذلون الدماء والدموع، أنهم يجاهدون في سبيل الله، لتكون كلمة الله هي العليا، وليكونوا هم ستاراً لقدر الله الذي سيمكن لهذا الدين.
وعزاؤهم أن لهم في الآخرة الجنة، ورضوان الله: { وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } (التوبة:72).
 

كتب إسلامية 2010 كتاب كيف ندعو الناس للشيخ محمد قطب

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

 مواضيع مماثلة

-
» كت إسلامية 2010 كتاب أركان الإسلام
» كتب إسلامية 2010 كتاب وقفات مع الصائمين
» كتب إسلامية 2010 كتاب أركان الإسلام

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
24 ساعة :: 
مكتبة شبكة شهادة الإسلام
 :: جديد الكتب
-
انتقل الى:  
مواضيع مماثلة
أنت بحاجة للبرامج التالية
المواضيع الأخيرة
» محاكمة مبارك: مشادات بين اهالي الشهداء وقوات الامن امام اكاديمية الشرطة
كتب إسلامية 2010 كتاب كيف ندعو الناس للشيخ محمد قطب Icon_minitime02.01.12 9:30 من طرف 24akhbar

» وصول طائرة مبارك والمتهمين لبدء محاكمتهم بتهمة قتل المتظاهرين
كتب إسلامية 2010 كتاب كيف ندعو الناس للشيخ محمد قطب Icon_minitime02.01.12 9:14 من طرف 24akhbar

» العليا للإنتخابات: الإنتخابات في موعدها والكشوف النهائية خلال ساعات
كتب إسلامية 2010 كتاب كيف ندعو الناس للشيخ محمد قطب Icon_minitime15.11.11 7:30 من طرف 24akhbar

» على السلمى يجتمع اليوم مع رافضى "الوثيقة" للوصول لصيغة توافقية
كتب إسلامية 2010 كتاب كيف ندعو الناس للشيخ محمد قطب Icon_minitime15.11.11 7:09 من طرف 24akhbar

» مقتل أكبر تاجر "أعضاء بشرية" فى سيناء
كتب إسلامية 2010 كتاب كيف ندعو الناس للشيخ محمد قطب Icon_minitime15.11.11 7:02 من طرف 24akhbar

» الجماعة السلفية تؤكد مشاركتها فى مليونية "18 نوفمبر" إذا أقر المجلس العسكرى وثيقة السلمي
كتب إسلامية 2010 كتاب كيف ندعو الناس للشيخ محمد قطب Icon_minitime15.11.11 6:57 من طرف 24akhbar

» فيديو: أهداف مباراة مصر والبرازيل 2/0
كتب إسلامية 2010 كتاب كيف ندعو الناس للشيخ محمد قطب Icon_minitime15.11.11 6:49 من طرف 24akhbar

» فضيحة القنوات المصرية داخل الملاعب القطرية: رئيس "ميلودي سبورت" يعتدي على مراسل "مودرن" بالسبّ والضرب
كتب إسلامية 2010 كتاب كيف ندعو الناس للشيخ محمد قطب Icon_minitime15.11.11 6:41 من طرف 24akhbar

» الكسب غير المشروع يقرر التحفظ على أموال "حسن المير" عضو مجلس الشعب السابق
كتب إسلامية 2010 كتاب كيف ندعو الناس للشيخ محمد قطب Icon_minitime14.11.11 6:48 من طرف 24akhbar

» 238 أجنبيا اعتنقوا الإسلام عن طريق خدمة "بلغني الإسلام" عن بعد
كتب إسلامية 2010 كتاب كيف ندعو الناس للشيخ محمد قطب Icon_minitime14.11.11 6:38 من طرف 24akhbar

» جماعة الإخوان تعلن المشاركة فى جمعة "18 نوفمبر" مالم يتم سحب "وثيقة السلمى"
كتب إسلامية 2010 كتاب كيف ندعو الناس للشيخ محمد قطب Icon_minitime14.11.11 5:49 من طرف 24akhbar

» أنصار الأسد يقتحمون السفارة الليبية بدمشق
كتب إسلامية 2010 كتاب كيف ندعو الناس للشيخ محمد قطب Icon_minitime14.11.11 5:42 من طرف 24akhbar

» الدكتور صفوت حجازى يقود قافلة دولية إغاثية لقطاع غزة
كتب إسلامية 2010 كتاب كيف ندعو الناس للشيخ محمد قطب Icon_minitime14.11.11 5:37 من طرف 24akhbar

» المستشار عبد المعز: هناك دول رفضت بالتصويت للمصريين على أراضيها
كتب إسلامية 2010 كتاب كيف ندعو الناس للشيخ محمد قطب Icon_minitime13.11.11 8:13 من طرف 24akhbar

» رئيس مباحث أداب سابق يتهم زوجة حبيب العادلى باحالتة للمعاش عام 2006 بسبب شبكة دعارة تتزعمها المغربية نشوى خزيم صديقتها الشخصية
كتب إسلامية 2010 كتاب كيف ندعو الناس للشيخ محمد قطب Icon_minitime13.11.11 8:07 من طرف 24akhbar

» سلطة قضائية تطالب بـ "إعتقال سوذان مبارك"
كتب إسلامية 2010 كتاب كيف ندعو الناس للشيخ محمد قطب Icon_minitime13.11.11 7:48 من طرف 24akhbar

» الملك عبد الله يعين شقيقه الأصغر نائباً له
كتب إسلامية 2010 كتاب كيف ندعو الناس للشيخ محمد قطب Icon_minitime13.11.11 7:42 من طرف 24akhbar

» رئيس الإنتقالى الليبى: ليبيا ستنتهج " الإسلام المعتدل"
كتب إسلامية 2010 كتاب كيف ندعو الناس للشيخ محمد قطب Icon_minitime13.11.11 7:38 من طرف 24akhbar

» سوريا: الثوار يدعون للتصعيد والعصيان المدنى بعد تعليق العضوية
كتب إسلامية 2010 كتاب كيف ندعو الناس للشيخ محمد قطب Icon_minitime13.11.11 7:34 من طرف 24akhbar

» السعودية توجه الإتهام فى إقتحام سفارتها إلى "سوريا"
كتب إسلامية 2010 كتاب كيف ندعو الناس للشيخ محمد قطب Icon_minitime13.11.11 7:23 من طرف 24akhbar

تسجيل صفحاتك المفضلة في مواقع خارجية
قم بحفض و مشاطرة الرابط 24 ساعة على موقع حفض الصفحات

.: زوار هذا الإسبوع :.