كتب إسلامية 2010 كتاب كيف ندعو الناس للشيخ محمد قطب
مقدمة
الدعوة إلى الله تكليف دائم بالنسبة لهذه الأمة.
{ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (1) .
ذلك أنها أمة خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم ، التي تحمل رسالته من بعده، ورسالته صلى الله عليه وسلم موجهة إلى البشرية كافة، وإلى الزمن كله، من لدن بعثته إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وهي رسالة ذات شقين: شق موجه للذين لم يؤمنوا بهذا الدين بعد، لدعوتهم إلى الإيمان؛ وشق موجه للذين آمنوا، لتذكيرهم وترسيخ إيمانهم:
{ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } (2) .
{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ } (3) .
ولكن الأمة الإسلامية تمر اليوم بظروف خاصة، ربما لم تمر بها من قبل، فقد هبطت معرفتها بالإسلام إلى أدنى حد وصلت إليه في تاريخها كله، وأما ممارستها للإسلام فهي أدنى من ذلك بكثير!
_________
(1) سورة آل عمران: 104 .
(2) سورة الذاريات: 55 .
(3) سورة النساء: 136 .
ولذلك فإن مهمة الدعوة اليوم أخطر بكثير من مهمتها في الظروف السابقة، فلم تعد مجرد التذكير، بل أوشكت أن تكون إعادة البناء، الذي تهاوت أسسه وأوشكت أن تنهار، في الوقت الذي تداعت فيه الأمم على الأمة الإسلامية من كل جانب، كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم : « يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها)). قالوا: أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: ((بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله المهابة من صدور أعدائكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن)). قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: ((حب الدنيا وكراهية الموت » (1) .
وكلنا ثقة أن البناء سيعود بإذن الله، وسيعود شامخاً كما كان، والمبشرات كلها تشير إلى جولة جديدة للإسلام، ممكنة في الأرض، على الرغم من كل الحرب التي تشنها الجاهلية في الأرض كلها على الإسلام. ولكنها مهمة شاقة في الغربة الثانية للإسلام: « بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ » (2) . مهمة تحتاج إلى شغل فائق وبصيرة نافذة.
_________
(1) أخرجه أحمد وأبو داود
(2) أخرجه مسلم.
ففي الغربة الأولى كان الإسلام معلوماً عند الناس في أصوله العامة على الأقل، وهي الإيمان بالله الواحد والإيمان بالوحي والنبوة والإيمان بالبعث، سواء في ذلك من دخل في الدين الجديد، ومن وقف يحاربه أشد الحرب، ويرصد طاقته كلها لمحاولة القضاء عليه، وإنما كان سبب الغربة قلة المؤمنين به، وضعفهم وهوانهم على الناس، وكثرة الرافضين له، وطغيانهم في الأرض.
قال ورقة بن نوفل لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، حين أخبرته خديجة رضي الله عنها بقصة الوحي: « ليتني أكون فيها جذعاً حين يخرجك قومك! قال: ((أومخرجي هم؟)) قال: ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودي ! » (1) .
« وسأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم : إلى أي شيء تدعو الناس؟ قال: ((أدعوهم لـ لا إله إلا الله)). قال: قال هذا أمر لا تتركه لك العرب! »
أما في الغربة الثانية فالأمر مختلف، وإن كانت الغربة غربة في جميع الأحوال.
الإسلام اليوم غريب على أهله، فضلاً عن غربته على باقية الناس، وحين تعرضه عليهم على حقيقته يستوحشون منه، ويقولون لك: من أين جئت بهذا؟ ليس هذا هو الإسلام الذي نعرفه!
_________
(1) انظر كتب السيرة.
حين نقول للطائف حول الضريح، يتمسح به، ويطلب البركات من صاحبه المتوفى منذ سنين أو منذ قرون: أن هذا شرك لا يجوز! يقول لك: من أين جئت بهذا؟ إنك أنت الذي تريد أن تجرد الإسلام من روحانيته!
وحين تقول لمن يشرع بغير ما أنزل الله، ولمن يرضى بشرع غير شرع الله: هذا شرك. يقول لك: من أين جئت بهذا؟ هذا تطرف وجمود ورجعية! الدنيا تطورت! أو يقول لك على أقل تقدير: شرك دون شرك! شرك لا يخرج من الملة!
وحين تقول لأستاذ علم الاجتماع، وأستاذ علم النفس، وأستاذ التربية، وأستاذ التاريخ.. إن ما درستموه من علوم الغرب، وما تدرسونه لطلابكم مخالف للمفاهيم الإسلامية، وفي بعض الأحيان مصادم مصادمة صريحة للعقيدة، يقولون لك- إلا ما رحم بك-: ما للإسلام وهذه الأمور؟ تريدون أن تحشروا الإسلام في كل شيء؟ هذا علم، والإسلام دين! والدين لا دخل له بالعلم!
ومئات من الأمور. حين تعرض حقيقة الإسلام فيها للناس يستوحشون، وفي أقل القليل يستغربون، وتحتاج إلى جهد كبير لإقناعهم بأن هذا هو ما جاء من عند الله، وليس ما تصوروه هم على أنه الإسلام!
وذلك كله في مجال((المعرفة)). أما مجال الممارسة فالجهد المطلوب فيه قد يكون أشد!
إن المعرفة وحدها لا تكفي، وإن كانت هي البداية التي لا بد من البدء بها قبل كل شيء، وقد كانت الكلمة الأولى التي بدأ بها الوحي هي كلمة { اقْرَأْ } ، (1) ثم نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فترة قوله تعالى: { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ } (2) . والعلم- كما فهمه السلف الصالح رضوان الله عليهم- ليس مجرد المعرفة، إنما هو المعرفة التي تؤدي إلى العمل، ومن ثم انتقلت المعرفة من طور التعرف على الحقيقة إلى طور العمل بمقتضاها.
ولئن كان تعريف الناس بدقائق مفهوم لا إله إلا الله قد استغرق من جهد الرسول صلى الله عليه وسلم شيئاً غير قليل في غربة الإسلام الأولى، فإن الجهد الحقيقي الذي بذله رسول الله صلى الله عليه وسلم - في مكة خاصة- كان هو تربية المؤمنين الذين قبلوا الحق وآمنوا به، على مقتضيات لا إله إلا الله، مرحلة بعد مرحلة حتى استقاموا على الطريق، بدءاً بتربية القاعدة الصلبة الراسخة البنيان، ثم تربية سائر الناس.
واليوم- في غربة الإسلام الثانية- تواجه الدعوة ضرورة بذل الجهد في الأمرين معاً: التعريف والتربية.
_________
(1) سورة العلق: 1 .
(2) سورة محمد: 19 .
فالتعريف بالإسلام لقوم يعرفون بعضه ويجهلون بعضه، ويظنون في الوقت ذاته أنهم يعرفونه كله، مشكلة تحتاج إلى جهد ليس بالقليل. أما التربية- بالنسبة للقاعدة على الأقل- فمشكلة تحتاج إلى جهد أكبر؛ لتعدد مجالات التربية المطلوبة من جهة، ولأن النفوس لا تتخلى عن مألوفاتها بسهولة، ولا تستجيب استجابة فورية لكل ما يطلب منها من تكاليف. فضلاً عن كون المطلوب ليس مجرد بناء نفوس مؤمنة، بل إعداد شخصيات فائقة التكوين، تصلح لحمل المهمة الضخمة التي تواجهها.
ومن المهم- إلى الدرجة القصوى- أن نعرف كيف ندعو الناس. فالأزمة التي يمر بها العالم الإسلامي اليوم أزمة حادة، ربما كانت أشد أزمة مرت به في التاريخ. وتجمع الأعداء لحرب الإسلام، بما لم يسبقه من قبل تجمع بهذا الحجم وبهذا الإصرار. وحاجة البشرية إلى الإسلام اليوم لا تقل عن حاجتها إليه يوم أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وما لم نسر في طريق الدعوة على خطى مستبصرة، مستمكنة في ذات الوقت، فقد لا نصل إلى ما نهدف إليه، وقد يذهب الكثير من جهدنا بغير طائل حقيقي.
ولقد كان موضوع الدعوة يشغل تفكيري منذ أمد ليس بالقصير، فيرد على خاطري سؤال ملح: كيف ندعو الناس؟ ما الأسلوب الصحيح للدعوة؟ خاصة وأنا أرى في مسيرة الدعوة- بين الحين والحين- ما يبدو أنه تقصير في بعض الجوانب، أو تعجل في بعض الجوانب، أو انحراف في بعض الجوانب. فأقول في نفسي: إنه لا بد من مراجعة شاملة لمسيرة الدعوة خلال ما يزيد عن نصف قرن؛ حتى نستكمل ما وقع في مسيرتنا من نقص، ولا نكرر ما وقعنا فيه من أخطاء، وحتى نستفيد من عبرة الماضي لتقويم الحاضر، وتسديد العمل من أجل المستقبل، وتلك مهمة جادة يجب أن تشغل الدعاة في كل مرحلة من مراحل السير.
وفي هذه الصفحات، أحاول أن أعرض ما يجول في خاطري من أفكار في هذا الشأن، وهو أولاً وآخراً اجتهاد يخطئ ويصيب، أدعو الله أن يوفقني فيه إلى السداد: { إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } (هود : 88).
محمد قطب
تأملات في نشأة الجيل الأول
نحتاج أن نقف وقفات طويلة نتأمل فيها نشأة الجيل الأول؛ لأن فيها زاداً كاملاً لكل من أراد أن يدعو، أو يتحرك بهذا الدين في عالم الواقع، فقد صنع ذلك الجيل على عين الله سبحانه وتعالى، كما قال سبحانه لموسى عليه السلام : { وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } (طه : 39)، ونشأ على يدي أعظم مرب في تاريخ البشرية، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان جيلاً فريداً في تاريخ البشرية كله، يوجهه الله بالوحي، ويتابعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتربية والتوجيه، فاكتملت له كل وسائل النشأة الصحيحة في أعلى صورة، فأصبح كالدرس ((النموذجي))، الذي يلقيه الأستاذ ليعلم طلابه كيف يدرسون، حين يئول إليهم أمر التعليم.
ثم إن إرادة الله سبحانه وتعالى قد اقتضت أن يتم أمر هذا الدين على السنن الجارية - لا الخارقة- لحكمة أرادها الله، لكي لا يتقاعس جيل من الأجيال فيقول: إنما نصر الجيل الأول بالخوارق، وقد انقطعت الخوارق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم !
فما كان في هذا الدين من عناصر غير بشرية، فهو الوحي المنزل من عند الله، وذلك باق ومحفوظ بحفظ الله: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } (الحجر:9).
وهو بالنسبة للجيل الأول كالجيل الأخير، هو كلمة الله لهذه الأمة، وللبشرية كافة، تحمل حقيقة هذا الدين، وتحمل المنهج الرباني، الذي يريد الله من البشر، إلى قيام الساعة، أن يقيموا عليه حياتهم، ويؤسسوا عليه بنيانهم، سواء كان هو الكتاب المنزل، أو البيان الذي قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا الكتاب، بالسنة القولية أو العملية: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } (النحل: 44) . { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى }{ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } (النجم : 3-4).
أما قتال الملائكة مع المؤمنين في بدر، فلم يكن هو في ذاته الخارقة: { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } (الأنفال : 12) . فنزول الملائكة وتثبيتهم للبشر، لا يقتصر على معركة بدر، إنما قد يحدث بأمر الله في أية مناسبة: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ }{ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ } (فصلت : 30-31) .
إنما كانت الخارقة هي رؤية المؤمنين للملائكة وهي تقاتل معهم : { وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } (آل عمران : 126).
وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد اختص بها أهل بدر من دون المؤمنين، فقد كانت بدر حدثا كونياً لا يتكرر كل يوم : { يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ } (الأنفال : 41) . فهي التي كتبت التاريخ، وليس في كل يوم يكتب التاريخ . إنما تكتب منه سطور إثر سطور!
وفيما عدا هذه الخارقة التي اختص بها أهل بدر، وفيما عدا ما يختص بشخص الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقد جرت أمور الإسلام كلها على السنة الجارية، من استضعاف في المبدأ، وابتلاء وصبر وتمحيص، ثم تمكين على تخوف، ثم تمكين على استقرار وقوة، ثم انتشار في الأرض. لذلك فإن الدروس المستفادة من نشأة الجيل الأول هي دروس دائمة، لا تتعلق بالنشأة الأولى وحدها، وإنما هي قابلة للتطبيق في كل مرة تتشابه فيها الظروف أو تتماثل، لأنها سنن جارية، وليست حوادث مفردة عابرة لا تتكرر.
وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد وجهنا في كتابه المنزل، لتدبر السنن الربانية، ودراسة التاريخ - الذي هو في الحقيقة مجرى السنن في عالم الواقع - فنحن جديرون أن نعكف على دراسة النشأة الأولى؛ لنستخلص منها الدروس والعبر، ولتكون هادياً لنا في كل تحرك نقوم به، ومحكاً لاستقامتنا على الطريق أو انحرافنا عنه.
وقد استوقفني في أمر النشأة الأولى عدة أمور، زاد من رغبتي في تدبرها وتأملها ما أراه بين الحين والحين من مخالفة لمقتضياتها في مسيرتنا الحالية، وما أراه قد ترتب على هذه المخالفة من نتائج معوقة للمسيرة، فأحببت أن أعرض بعض هذه الأمور في هذه الصفحات، داعياً الله أن يجنبنا الزلل دائماً وأن يهدينا إلى سواء السبيل.
* * *
من أشد ما استوقفني في مسيرة الجيل الأول، ذلك الأمر الرباني للمؤمنين أن يكفوا أيديهم في مرحلة التربية بمكة، وأن يتحملوا الأذى صابرين، وقد أشار الله إلى هذا الأمر في قوله تعالى، مذكراً به: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } (النساء : 77).
« وكان بعض الصحابة رضوان الله عليهم قد سأل الرسول صلى الله عليه وسلم حين اشتد الأذى بالمؤمنين: ألا نقاتل القوم؟ فقال عليه الصلاة والسلام : (( ما أمرنا بقتالهم )) » (1) .
ولم يرد في النصوص - لا في الكتاب ولا في السنة - بيان لحكمة هذا الأمر الرباني، ومن ثم فالأمر متروك للاجتهاد لمعرفة الحكمة منه، وربما كان أيسر سبيل للتعرف على حكمته، أن نفترض أن المؤمنين كانوا قد دخلوا في معركة مع قريش في ذلك الحين، فماذا كان يمكن أن يترتب على ذلك؟ ثم نتدبر الفوائد التي تحققت حين كفوا أيديهم ولم يدخلوا في معركة في ذلك الوقت.
أبسط ما يمكن أن يتصور من نتائج هذه المعركة غير المتكافئة، أن تتمكن قريش من إبادة المؤمنين، وهم حينئذ قلة مستضعفة لا سند لها، فينتهي أمر الدعوة الجديدة في معركة واحدة أو عدة معارك متلاحقة، دون أن يتحقق الهدف، ودون أن يتعرف الناس على حقيقة الدعوة، ودون أن يكتب لها الانتشار .
ونفترض أن المعركة - على الرغم من عدم تكافئها - لم تؤد إلى إبادة المؤمنين كلهم، فثمة أمر آخر على غاية من الأهمية، يلفت انتباهنا بشدة، لاتصاله بما يجري من أحداث في وقتنا الحاضر.
_________
(1) انظر كتب السيرة .
لمن كانت الشرعية في تلك المرحلة في مكة؟ لقد كانت في حس الناس جميعاً لقريش.!
وما وضع المؤمنين يومئذ؟ وضعهم أنهم خارجون على الشرعية .!
ومن حق صاحب الشرعية - ولا شك - أن يؤدب الخارجين عليه !
وصحيح أن قريشاً تشتد في ((التأديب)) إلى حد الفظاظة والقسوة، وأن بعض الناس قد يتأذى لهذه الفظاظة، حتى ليحاول أن يبسط حمايته - أو جواره - على بعض المعذبين المستضعفين، ولكن يظل الأمر في حس الناس - من حيث المبدأ - أن قريشاً هي صاحبة الشرعية، وأن المؤمنين خارجون على الشرعية، وأن من حق صاحب الشرعية أن يؤدب الخارجين عليه!
فهل كان من مصلحة الدعوة أن يدخل المؤمنون يومئذ في معركة مع قريش، وهذا التصور هو السائد بين الناس؟!
كلا بالطبع !
والآن فلننظر ماذا تم حين استجاب المؤمنون للأمر الرباني وكفوا أيديهم.
لقد تمت أمور كثيرة في الحقيقة .
ففي البيئة العربية المعروفة ((بإباء الضيم))، والتي تحدث فيها المعارك الضارية لأسباب نرى نحن اليوم أنها تافهة، لا تستحق أن تراق فيها قطرة دم واحدة، وقد تطول تلك المعارك سنوات عديدة، ويفنى فيها كثير من الخلق كمعركة داحس والغبراء (1) . في البيئة التي يمتشق فيها الرجل الحسام لأدنى إهانة توجه إليه، والتي يقول فيها عنترة :
ولقد خشيت بأن أموت ولم تدر ... للحرب دائرة على ابني ضمضم
الشاتمي عرضي ولم أشتمهما ... والناذرين إذا لم القهما دمى !
ويقول غيره :
ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا !
في تلك البيئة، يؤذى رجال ذوو حسب ونسب، منهم من هو من أشراف قريش ذاتها، ثم لا يردون!
شيء يلفت النظر ولا شك، لأنه مخالف مخالفة تامة لأعراف البيئة .
بعبارة أخرى، شيء ليس من صنع البيئة . فلا بد أن يكون من صنع شيء آخر خلاف البيئة!
ثم يشتد الأذى ويستمر وهم صابرون!
هنا معنى جديد ليس من صنع البيئة كذلك، ففي سبيل أي شيء يحتمل هؤلاء ما يقع عليهم من الأذى، ثم يظلون مصرين على التمسك بما يعرضهم للأذى؟
أفي سبيل شرف القبيلة؟ أفي سبيل مغنم من مغانم الأرض؟ أفي سبيل شهوة من شهوات الأرض؟
_________
(1) معركة نشبت في أواخر العصر الجاهلي بين قبيلتي عبس وذبيان، بسبب سباق أجرياه على فرسين إحداهما تسمى داحس والأخرى تسمى الغبراء، فاختلفت القبيلتان على نتيجة السباق، فقامت بينهما الحرب، وانضم لكل قبيلة حلفاؤها، وطالب الحرب وقتل فيها خلق كثير، حتى تدخل من تدخل للصلح بينهما، فوضعت الحرب أوزارها.
لا شيء من ذلك كله . إنما هو سبيل ((عقيدة)) يعتقدونها .
وقد تفهم هذه البيئة أن تكون العقيدة أعرافاً وتقاليد، يستمسك الناس بها، وقد يقاتلون من أجلها، أما أن يتحملوا الأذى في سبيلها -وهم لا يردون - فأمر جديد كل الجدة على هذه البيئة، بيئة الأعراف والتقاليد !
ثم نمضي شوطاً آخر، فيتضح أمر جديد .
إن الأذى يشتد حتى يصبح مقاطعة اقتصادية واجتماعية، ويصل إلى حد التجويع، بل يصل ببعض الناس حتى الموت، ولا يتخلفون عن عقيدتهم!
لا يمكن - في عرف البيئة، ولا في عرف البشر عامة - أن يتحمل الناس مثل هذا الأذى من أجل باطل . إنما لا بد أن يكون حقاً يعتقده صاحبه، ويحتمل الأذى من أجله، ويموت من أجله.
بل إن هذا الحق الذي يعتقده هو أغلى عليه من أمنه وراحته ومكانته وكرامته . وحتى من نفسه، حتى من حياته .
تلك المعاني كلها، التي برزت للوجود من خلال كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ هي التي أتت بالأنصار من المدينة، حتى وإن لم تغير كثيراً من الأحوال في مكة !
نستطيع أن نقول في عبارة موجزة : إن أهل مكة اصطلوا النار، ولكن أهل المدينة استضاءوا بها عن بعد، فاهتدوا إلى الحق الذي شاء الله لهم أن يهتدوا إليه .
* * *
ولم يكن هذا وحده هو الذي اتضح للأنصار، من خلال كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ . لقد اتضح أمر أخر له أهميته البالغة في خط سير الدعوة، وهو قضية ((الشرعية)).
يقول سبحانه وتعالى في سورة الأنعام، وهي سورة مكية: { وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ } (الأنعام : 55).
وكأن المعنى: نظل نفصل الآيات حتى تستبين سبيل المجرمين.
وورود هذا المعنى في آية مكية له دلالة واضحة، أو ينبغي أن تكون واضحة، فاستبانة سبيل المجرمين هدف مقصود، تبينه لام التعليل في قوله تعالى : { وَلِتَسْتَبِينَ } . ونزول هذه الآية في الفترة المكية، معناه أن استبانة سبيل المجرمين هي من أهداف الدعوة، بل من لوازم الدعوة في الفترة الأولى التي يتم فيها نشأة الجماعة المسلمة.
فما الذي تحققه استبانة سبيل المجرمين للدعوة؟
إن استبانة سبيل المجرمين تتضمن أمرين: أولاً : بيان من هم المجرمون؟ وثانياً: بيان السبيل الذي يسلكونه، والذي من أجله أصبحوا مجرمين.
فمن هم المجرمون؟ وما سبيلهم؟ وما علاقة تفصيل الآيات باستبانة سبيلهم؟
لقد فصلت الآيات قضية الألوهية، وهى القضية الأولى والكبرى في القرآن كله، والسور المكية بصفة خاصة .
فصلت الآيات أنه إله واحد لا شريك له، ولا يمكن أن يكون له شركاء في الخلق ولا في التدبير، ولا في أي شأن من الشيئين، وظلت الآيات تتنزل مبينة صفات ذلك الإله، وتنفي عنه الشركاء حتى صار المعنى واضحاً تماماً، سواء لمن آمن أو لمن كفر، فقد كان الكفار قد أصبحوا على بينة تامة مما يريد منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلموه ويؤمنوا به، حتى قالوا كما روى الله عنهم: { أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } (ص:5).
ولما تبين أنه إله واحد لا شريك له، طلب من الناس أن يعبدوه وحده بلا شريك؛ لأنه وحده الحقيق بالعبادة، وأن ينبذوا ما يدعون من الآلهة الزائفة، وأن يتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم، ولا يتبعوا من دونه أولياء: { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ } (الأعراف: 3).
وعلى هذا فقد انقسم الناس فريقين اثنين: فريق المؤمنين، وهم الذين آمنوا أنه إله واحد، فعبدوه وحده بلا شريك، واتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم، وفريق المجرمين وهم الذين أبوا أن يؤمنوا به، وأن يعبدوه وحده، وأن يتبعوا ما أنزله إليهم.
وإذن، فأين تقع قريش في هذا التقسيم؟
لقد كانت قبل تفصيل الآيات هي صاحبة الشرعية، وكان المؤمنون في نظر قريش، وفي نظر الناس أيضاً، خارجين على الشرعية، فما الموقف الآن بعد تفصيل الآيات؟ وبعد ما رفضت قريش أن تؤمن بالله الواحد، وتعبده وحده بلا شريك، وتتبع ما أنزل الله؟ هل بقيت هي صاحبة الشرعية، وبقي المؤمنون هم الخارجين على الشرعية؟ أم تبدل الحال عند بعض الناس على الأقل، فأصبحت قريش وأمثالها هم المجرمين، وأصبح أصحاب الشرعية هم المؤمنين؟!
إنها نقلة هائلة في خط سير الدعوة، أن يتبين الناس من هم المجرمون، وما سبيلهم، ويتبينوا في المقابل من هم الذين على الحق، وما هو سبيل الحق.
ولقد كان الإشكال بالنسبة لقريش خاصة أنهم هم سدنة البيت، الذي يعظمه العرب جميعاً، فضلاً عن كونهم أصحاب ثروة وأصحاب جاه وحسب ونسب، فاجتمعت لهم بمقاييس الجاهلية كل مقومات الشرعية، ممتزجة ببقايا الدين المحرف الذي ينتسبون به إلى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام. فلم تكن زحزحة الشرعية عنهم أمراً هيناً، خاصة والخارجون على شرعيتهم ضعاف فقراء لا قوة لهم ولا مال ولا سند من أحد من ذوي السلطان!
لقد كانت العقيدة الصحيحة وحدها هي التي يمكن أن تجليهم عن شرعيتهم المدعاة، وتكشفهم على حقيقتهم، وهي أنه مجرمون لا شرعية لهم، لرفضهم الإيمان بالله الواحد، وعبادته وحده بلا شريك، واتباع ما أنزل الله.
وهنا نسأل : لو أن المؤمنين في مكة دخلوا في معركة مع قريش، فهل كانت تستبين سبيل المجرمين؟ لو دخلوا المعركة وفي حس الناس أن قريشاً هي صاحبة الشرعية، وأن المؤمنين خارجون على الشرعية، فهل كان يمكن أن يستقر في خلد أحد - كما استقر في خلد الأنصار - أن القضية لها معيار آخر غير سدانة البيت، وغير المال والجاه، وكثرة العدد، ورصيد العرف، ورصيد التاريخ؟ وأن هذا المعيار هو : لا إله إلا الله. هو الإيمان بألوهية الله وحده بلا شريك، وما يترتب على ذلك من ضرورة اتباع ما أنزل الله، وأن هذا هو الحق الذي لا شيء بعده إلا الضلال، وأن هذه هي القضية الكبرى التي يقاس بها كل شيء، وينبني عليها كل شيء؟
هل كان يمكن أن يصل الحق الذي يحمله المؤمنون إلى أفئدة فريق من الناس، كما وصل إلى أفئدة الأنصار، لو أن المؤمنين دخلوا معركة مع قريش، أم كان غبار المعركة يغشي على حقيقة القضية، وتنقلب القضية بعد قليل إلى قضية ضارب ومضروب، وغالب ومغلوب، وتصبح قضية ((لا إله إلا الله)) على هامش الصورة، إن بقي لها في حس الناس وجود على الإطلاق؟!
أظن الصورة واضحة .
لقد كانت ((كفوا أيديكم)) هي سر الموقف كله !
كانت هي التي أتاحت لقضية لا إله إلا الله - وهي قضية الرسل جميعاً من لدن آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم - أن تبرز نقية شفافة واضحة، غير مختلطة بأي قضية أخرى على الإطلاق، فتنفذ إلى القلوب التي أراد الله لها الهداية صافية من كل غبش، فتتمكن من تلك القلوب، ويرسخ فيها الإيمان، كما تنفذ إلى القلوب التي لم يرد الله لها الهداية، صافية من كل غبش، فيكفر أصحابها كفراً لا شبهة فيه، كفراً غير مختلط لا بالدفاع عن النفس، ولا الدفاع عن المال، ولا الدفاع عن الأمن والاستقرار؛ إنما هو الرفض الصريح الواضح للا إله إلا الله. وذلك توطئة لقدر قادم من أقدار الله، هو سنة من السنن الجارية : { لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ } (الأنفال : 42).
هذا الوضوح الذي أتاحته للقضية ((كفوا أيديكم)) ، هو من مستلزمات الدعوة . فبغير استبانة سبيل المجرمين، على أساس ((لا إله إلا الله))، واستبانة سبيل المؤمنين في المقابل، على ذات الأساس، لا يمكن أن تتسع القاعدة بالقدر المعقول في الزمن المعقول، وتظل الدعوة تراوح مكانها، إن لم يحدث لها انتكاس بسبب من الأسباب.
وحين وضحت القضية على هذا النحو من خلال ((كفوا أيديكم)) ، جاء الأنصار !
وحين جاء الأنصار اتسعت القاعدة، وحدث تحول في التاريخ !
* * *
ولنا هنا وقفة عند هذه القضية .
من هم الأنصار ؟
هل هم جماهير متحمسة، ألهب حماستها الإعجاب بشخص الرسول صلى الله عليه وسلم ، والتعاطف مع هذه الفئة الفذة من البشر، الذين صبروا على الابتلاء، هذا الصبر الطويل الجميل، وثبتوا رغم الصعاب وشدة البلاء ؟!
أم هم جنود جاءوا يعرضون جنديتهم على القائد، ويدخلون في صف المجاهدين؟
ما أبعد الشقة بين هذا الوضع وذاك في خط سير الدعوة !
لا شك أن الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان قائماً في قلوبهم، من كثرة ما رأوا وسمعوا عن خصاله الكريمة صلى الله عليه وسلم ، وقد كان نموذجاً فريداً في البشر، لا يدانيه أحد ممن عرفوه أو سمعوا عنه خلال التاريخ. ولاشك أن التعاطف مع المعذبين في الأرض، كان قائماً في قلوبهم، من كثرة ما رأوا وسمعوا من ألوان التعذيب، وألوان الصبر على التعذيب.
ولكن هذا وذاك لم يكن الدافع الأوحد الذي يحركهم؛ إنما حركهم ابتداء أنهم آمنوا أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله . آمنوا بالله ربا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً، وبالإسلام ديناً، فجاءوا يبايعون على السمع والطاعة، وعلى الموت والحياة.
قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( تمنعوني؟)) قالوا : نمنعك مما نمنع منه نساءنا وأطفالنا. وقالوا : لو استعرضت بنا الصحراء قطعناها، ولو خضت بنا هذا البحر خضناه .
جندية كاملة للدعوة الجديدة.
لم يأن بعد أوان ((الجماهير))! إنما يأتون في موعدهم المقدر عند الله .
ولكن ماذا لو كان الأنصار رضي الله عنهم، مجرد جماهير متحمسة، جاءت بدافع الحماسة والحب والتعاطف فحسب. هل كانت حماستهم تصبر على لأواء الطريق؟ هل كانت تصبر للصدام حين يأتي الإذن من الله العلي القدير برد العدوان ؟!
أما أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان سيفرح بدخولهم في الدعوة واعتناقهم الإسلام، فأمر لا نظنه موضع شك. وأما أن المؤمنين من أهل مكة كانوا سيفرحون برؤية إخوان لهم في العقيدة، فأمر لا نظنه كذلك موضع شك . أما أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان سيتحرك بهم في خط الدعوة، فأمر يحوطه الشك الكثيف، ودليله سؤال الرسول صلى الله عليه وسلم لهم : ((تمنعوني))؟ فالسؤال لم يكن عن إيمانهم، وقد جاءوا يعرضونه صريحاً بلا مواربة، إنما كان عن خطوة أخرى وراء الإيمان، وهي تجنيدهم أنفسهم لما آمنوا به وعرفوا أنه الحق .
لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم سيتحرك بهم، لو أنه رأى من أحوالهم أنهم مجرد جماهير متحمسة، لم تجند نفسها بعد للدعوة . ولم يكن سيعتبر أن القاعدة قد اتسعت بتلك الجماهير المتحمسة التي آمنت - نعم - ولكنها لم تجند نفسها لاحتمال التكاليف.
* * *
متى جند الأنصار أنفسهم للدعوة؟
قلنا من قبل: إن النار التي اصطلى بها المؤمنون في مكة، هي النور الذي استضاء به الأنصار في المدينة، فجاءوا يعرضون أنفسهم لنصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم والدين الجديد .
لقد جاءوا بقدر من الله - نعم - ولكن بسنة من سنن الله كذلك .
إن وجود النموذج الواقعي، الذي يشهد للدعوة الجديدة، هو النواة التي يحدث حولها التجمع، ويحدث التجمع تلقائياً حول النواة ((الأم))، ثم يتسارع بعد ذلك، كلما زاد حجم النواة. سنة ربانية في الكون المادي وفي حياة البشر سواء !
والنواة الأم كانت هي الجماعة المؤمنة التي تكونت في مكة حول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والتي شكلها الوحي المنزل من عند الله، وصقلها المربي العظيم صلى الله عليه وسلم بما أضفى عليها من روحه، وأعطاها من جهده، وتابع نموها بصبره وجلده وسعة صدره وحكمته وبصيرته. ثم جاءت الابتلاءات فزادتها صقلاً وصلابة وقرباً من الله .
ومن خلال ((كفوا أيديكم)) تكونت النواة الأم التي صنعت التاريخ !
ولو كان المؤمنون قد دخلوا في معركة مع قريش في مكة، لتأخر كثيراً تكون النواة الأم، ولتغيرت كثيراً صفاتها التي اكتسبتها، وذلك فوق الغبش الذي كان سيصيب قضية لا إله إلا الله، حين تتحول إلى قضية ضارب ومضروب، وغالب ومغلوب، ولتأخر كذلك التجمع الصلب حول النواة الصلبة المصقولة المتينة البناء .
* * *
والآن فلنستعرض ما تم حتى الآن من خلال ((كفوا أيديكم)).
ولقد تمت أمور على غاية من الأهمية في مسيرة الدعوة .
تم تحرير موضع النزاع، إن صح التعبير . إنه قضية ((لا إله إلا الله)) دون غيرها من القضايا .
ليس الصراع الدائر بين قريش وبين المؤمنين على سيادة أرضية، ولا على السلطة السياسية (وقد عرضت السلطة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأباها، وأصر على لا إله إلا الله، والمؤمنون من جانبهم لم يتحركوا حركة واحدة، تهدف إلى الاستيلاء على السلطة)).
ليس الصراع على ((شرف)) سدانة البيت، ولا ((وجاهة)) خدمة الحجيج.
ليس على القوة الاقتصادية التي تملكها قريش وحدها دون المؤمنين، وتحارب المؤمنين من خلالها بالحصار والتجويع، والمؤمنون لا يتعرضون لها من قريب ولا بعيد.
الصراع كله على القضية الكبرى التي هي - والتي يجب أن تكون دائماً - القضية الأولى، والقضية الكبرى في حياة الإنسان، قضية من المعبود؟ ومن ثم من صاحب الأمر؟ من المشرع؟ من واضع منهج الحياة؟ قريش تريدها حسب أهوائها وخيالاتها وموروثاتها وأعرافها، والمؤمنون حول رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدونها لله.
وتم تركيز الجهد وتوفيره لتربية القاعدة الصلبة، التي ستحمل البناء (1) .
وتم تحرير قضية ((الشرعية)) ، بتفصيل الآيات واستبانة سبيل المجرمين.
_________
(1) سنتكلم عن عملية التربية في فصل قادم .
وتم أخيراً اتساع القاعدة بالجنود الذين استضاءوا بالنار التي اكتوى بها أهل النواة الأم، فتجمعوا بقدر من الله، وبحسب سنة من سنن الله، حول تلك النواة، مضيفين إليها قوة حقيقية في الصراع.
ثم تم أمر آخر بالغ الأهمية كذلك، هو التجرد لله .
إن التجرد لله عنصر من أهم العناصر التي تحتاج إليها الدعوة، إن لم يكن أهمها على الإطلاق، بالنسبة للقاعدة بصفة خاصة، وبالنسبة لجميع العاملين على وجه العموم.
ولقد تعمق التجرد لله في قلوب الصفوة المختارة، خلال فترة التربية في مكة، من خلال الآيات المنزلة من عند الله، تدعو إلى إخلاص العبادة لله، ومن خلال القدوة المباشرة في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم ، يعلمهم بالسلوك العملي كيف يكون إخلاص العبادة لله.
فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أدبه ربه فأحسن تأديبه .
كان عليه الصلاة والسلام، في مبدأ قيامه بالدعوة، شديد التأثر بتكذيب الناس له، شديد الحرص على هدايتهم، شديد الحزن عليهم بسبب إعراضهم عن الهدى الرباني، وذلك بما فطر عليه صلى الله عليه وسلم من حب الخير لجميع الناس.
وكان الوحي يتنزل عليه صلى الله عليه وسلم ، لتسليته والتسرية عنه : { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } (الأنعام : 33). { وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ } (النحل : 127).
ويتنزل الوحي لصرفه صلى الله عليه وسلم عن شدة الحزن، وشدة التطلع لآية من عند الله تجعلهم يؤمنون: { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا }{ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا }{ وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا } (الكهف : 6-8) . { وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ }{ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } (الأنعام : 35-36).
ويتنزل الوحي ليقول للرسول صلى الله عليه وسلم : إن مهمته هي البلاغ فحسب، أما النتائج فمن صنع الله وحده : { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } (القصص:56)
02.08.10 17:57 من طرف 24akhbar