قرأت تقريرا عن الوحدات الصحية فى محافظات مصر أغرقنى فى بحر من الخجل وسرب إلى شعورا عميقا بالذنب، ذلك أننى اكتشفت حين وقعت عليه أننا حين انكفأنا على ذواتنا فلم نبتعد عن إخواننا فى العالم العربى فحسب، وإنما ابتعدنا أيضا عن أهلنا فى مصر ذاتها.
كنت أعرف الكثير عن بؤس المحليات وتدهور خدمات التعليم والصحة والإسكان والصرف الصحى، لكننى لم أتخيل أن تتحول الوحدات الصحية إلى «خرابات»، كما ذكر التقرير الذى نشرته صحيفة روزاليوسف فى 14/9، لم أتوقع أن يقام فى المنوفية 50 مستشفى يفترض أنها متميزة ومتكاملة لكنها تظل مغلقة تنعى من بناها، وأن يهدر فى العملية نحو 70 مليون جنيه، وانتابنى الفزع حين قرأت أن مرضى الكبد يقفون فى طوابير طويلة أمام معهد الكبد الذى بات عاجزا عن أن يعالج مرضاه، وأصبح بحاجة إلى مبلغ 200 مليون جنيه لكى يستطيع أن يلبى احتياجات الطلب عليه.
قرأت فى الوحدات الصحية التى بنيت بالطوب الأحمر ثم تركت فارغة، فى عهدة الخفراء وعن القرى التى لا تتوافر لها أى خدمات صحية، أو تلك التى يمر بها الممارس العام مرة كل أسبوع، وتلك التى يضطر مرضاها للسير على أقدامهم عدة كيلومترات تحت الشمس الحارقة، لكى يصلوا إلى مقر الوحدة الصحية ثم لا يجدون فيها الطبيب المختص. وقرأت عن الوحدات التى يطلب أطباؤها من المرضى أن يحضر كل واحد منهم مستلزمات علاجه من السوق قبل أن يقف أمامه. حتى القطن والشاش والمطهرات يشتريها الفقراء حتى يتلقوا العلاج المجانى!
رأيت صورة مكبرة لإحدى المستشفيات فى محافظة قنا. حيث تمدد أكثر من مريض على السرير الواحد، فى حين افترش الزوار الأرض. وصورة أخرى لمبنى مهجور عرف بأنه الوحدة الصحية فى إحدى قرى بنى سويف، التى تم بناؤها منذ 3 سنوات لكن أحدا لم يعتن بتوفير مستلزماته. وهو ما تكرر فى بلدة إدفو بأسوان التى أقيم فيها مبنى من خمس طوابق ليكون مقرا للوحدة الصحية، دون أن تتوافر له أية إمكانيات، ومن ثم لم يعد له دور فى علاج الناس، وأصبح مجرد علامة على الطريق العمومى.
حين يكون ذلك حال الوحدات الصحية، فينبغى ألا نتفاءل بوضع المدارس أو المرافق الأخرى. ذلك أن الذى يترك الوحدات الصحية بتلك الحالة المزرية لن يكترث بالمدارس أو الطرق أو بأى خدمة أخرى تقدم لسكان الأقاليم.
أخجلنى أننا قاعدون فى القاهرة، شبه معزولين عما يحدث خارج حدود العاصمة، يثور بعضنا حين ينقطع التيار الكهربائى وتتعطل المكيفات أو تتوقف خطوط المترو، ولا نكف عن الشكوى من انتشار القمامة فى الأحياء المختلفة، ونصرخ حين يرتبك المرور أو تسقط بعض الأمطار وتعجز البالوعات المعطوبة عن تصريف مياهها، وتلك كلها مشكلات لا يمكن التقليل من شأنها، لكنها إذا قورنت بما تعانيه بقية المحافظات من تدهور فى الخدمات ومن أوضاع مزرية فى قطاعى التعليم والصحة، فإن هذا الذى نشكو منه فى القاهرة يبدو من قبل الترف والبطر.
هم هناك يشكون من صعوبة الاستمرار فى الحياة، فى حين أننا فى العاصمة لا نكف عن الشكوى لأننا نريد تحسين الحياة. والفرق بين الاثنين كالفرق بين إنسان قلق على وجوده، وآخر قلق على رشاقته.
نحن بالنسبة للأقاليم «سياح»، نطل عليها بين الحين والآخر، ونتابع أخبارها فى الصحف، التى لا تنتقل إليها إلا إذا حلت بها كارثة. فأغرقتها السيول أو انتشر فيها وباء أو حدثت فيها فتنة من أى نوع. منذ كان الفرعون هو واهب الحياة والموت للمصريين، حين كان يتحكم فى مياه النيل فيمنح فيها ويمنع، فإن مقامه صار قبلة للناس، وأصبحت حاضره مصر هى كل مصر. ودون أن يَعىِ المصريون فإنهم ثبتوا هذه الفكرة حين أطلقوا على محطة السكك الحديدية بالعاصمة اسم محطة مصر!
إن أغلب فئات المجتمع المصرى ترفع الآن صوتها وتخرج إلى الشارع فى تظاهرات واعتصامات شاهرة مطالبها وأحيانا مهددة ومتوعدة، ولكن ملايين البسطاء والفقراء الذين يعانون من تدهور الخدمات ونقصها فى القرى لم يسمع لهم صوت. ولولا التقارير التى تتسرب بين الحين والآخر فى وسائل الإعلام التى باتت قاهرية بالأساس، لظلت الأقاليم خارج القاهرة محجوبة فى عالم النسيان، وضحية لفساد المحليات. وانشغال المحافظين حكام الأقاليم بأمن النظام الذى عينهم وليس خدمة الناس. إننى لا أعرف نهاية لحبال الصبر التى يتعلق بها هؤلاء، لكنى لا أخفى قلقا من اللحظة التى ينفد فيها صبرهم وينفجر فيها غضبهم المخزون. اتقوا غضب الحليم.
مقالات فهمى هويدى
ابن للديمقراطية لا العلمانية 7 أسباب للزعل حكايتان مع الأخ العقيد فى الاحتشام والشجاعة المجانية استلام الرسالة التركية واجب الوقت رق مسكوت عليه احذروا ثورة المحرومين