أدعو إلى بعض الاحتشام والمروءة فى إدارة الخلاف والخصام. وأعترض على نشر صورة الرئيس السابق فى إحدى الصحف وقد غطى نصفها حذاء لأحد الغاضبين. أفهم أن يقدم على ذلك شخص منفعل، ربما قتل له ابن أو شقيق برصاص رجاله، لكننى لا أفهم أن تتصدر الصفحة الأولى لإحدى الصحف كما حدث أمس (الثلاثاء 6/9)، وأرجو ألا أكون مضطرا للتذكير بأنه ليس لدى أى تعاطف مع مبارك الرئيس، كما أنه لم يكن لى أى تعامل معه، كما يعرف الجميع.
أدرى أن نظام مبارك لم يبق لأحد على كرامة، وأنه انتهك كل حرمات مخالفيه، حرياتهم وأموالهم وأعراضهم. وما أصابنى من النظام يظل قليلا إذا ما قارنته بما أصاب آخرين، الذين أعرف أن بعضهم فقد عقله وفقد حياته ودمرت أسرته. ولا أريد أن أزيد، خصوصا أن إعلامنا لم يكف عن هجائه وفضح نظامه والتشهير بشخصه وأسرته، وكان المصفقون له والمتعلقون بأذيال نظامه فى مقدمة الهجائين والشامتين، ولو أننا راجعنا كتابات البعض خلال سنوات حكمه بما كتبوه بعد سقوطه، فسوف تسود وجوه كثيرة وتصدم الرأى العام المصاب بضعف الذاكرة.
مع ذلك فإن كرامة مبارك الإنسان، وكرامة أى آخر، مسئولا كان أم غير مسئول ينبغى أن تظل محل احترام، ليس فقط لأن لكل إنسان حقه فى الكرامة، ولكن أيضا لأن لدينا مجتمعا نريد أن نشيع فيه قيما إيجابية كثيرة غيبتها سنوات الاستبداد التى دأبت على استباحة كرامات المخالفين والمعارضين، سواء من خلال القمع الأمنى أم التشهير الإعلامى، الذى تفننت منابره فى أساليب الاغتيال الأدبى والمعنوى.
على هامش هذه النقطة أقول إن الشجاعة حين تمارس بالمجان بعد سقوط النظام فإنها لا تحسب فضيلة بأى حال، وقد تكون قرينة على الجبن والانتهازية. ولكن اختبارها الحقيقى يكون حين تتبدى أثناء وجود النظام وفى ظل جبروته، وهو ما فعله نفر قليل من أصحاب الأقلام الذين نجحوا بجدارة فى ذلك الاختبار ودفعوا ثمن موقفهم بصورة أو أخرى.
على صعيد آخر، فإننى استغرب الغمز الذى عبرت عنه بعض الكتابات والرسوم فى سياق التعليق على خبر تطوع بعض المحامين الكويتيين للدفاع عن مبارك. حيث لا أجد مبررا لا للتنديد أو السخرية أو التلويح بأية إشارات غير مهذبة جراء ذلك، خصوصا أن الذين قدموا لا يمثلون الحكومة الكويتية ولا هم الشعب الكويتى، ولكنهم مجموعة من المحامين الذين توافقوا على موقف معين ظنوه مروءة وشهامة، وقدموا إلى القاهرة لكى يعبروا عنه. تماما كما فعل البعض فى مصر ممن يوصفون بأنهم أبناء مبارك، علما بأننى أشك كثيرا فى أن يوجه ذلك الغمز والتوبيخ للمحامين لو أنهم كانوا أوروبيين أو أمريكيين.
لست فى مقام الدفاع عن مهمة المحامين الكويتيين أو انتقادها، لأننى أتحدث عن قضية أخرى تتمثل فى أهمية احترام الموقف المخالف، والالتزام بضوابط الاحتشام والمروءة فى التعامل معه، خصوصا إذا كان الطرف الآخر غير ممكن من الدفاع عن نفسه ورد ما يكال له من اتهامات وما ينسب إليه من تصرفات. وفى أكثر من مقام آخر قلت إن المروءة لا تختبر حين تتوافق مع من تحب، لكنها تختبر حقا حين يدب الخلاف بينك وبين من تكره.
لا أريد أن أعطى درسا فى الأخلاق، لكننى لا أخفى ضيقا بالتدهور المستمر فى قيم إدارة الخلاف، وعلى رأسها احترام الآخر والاحتشام فى التعامل معه، وكنت قد أشرت إلى هذا المعنى قبل أيام قليلة حين تحدثت عن الخلافات بين الجماعات السياسية فى مصر، خصوصا الليبرالية والعلمانية من ناحية، والإسلامية من ناحية ثانية.
ثمة حديث نبوى يتحدث عن صفات المنافق التى منها أنه إذا «خاصم فجر»، وهو حديث كثيرا ما استحضره كلما صادفت موقفا تتجاوز فيه منابرنا الإعلامية حدود الاحتشام والمروءة مع المخالفين وتذهب بعيدا فى إهدار كراماتهم والحط من شأنهم، وأستحى أن أقول إن بعض حملات التشهير الإعلامى التى كانت تتم لم تكن فقط تطوعا من جانب الإعلاميين، وإنما كانت تتم أيضا بتعليمات من جانب القيادة السياسية. وفى الجعبة ما لا حصر له من القصص والنماذج التى تشهد بذلك، وحين طال العهد بمثل هذه الممارسات فإن جيلا من الإعلاميين أصبح يمارس تلك الاستباحة باعتبارها سلوكا عاديا، تماما كما فعل ضباط الشرطة الذين تربوا فى ظل الطوارئ وأصبحوا مقتنعين بأنهم فوق المجتمع وفوق القانون. وذلك كله يحتاج إلى مراجعة الآن، لأننا لا نستطيع أن نطمئن إلى استقامة مسيرة الثورة إذا ظلت تتكئ على قيم النظام القديم، إذ أزعم أنها بدورها من «الفلول» التى يجب أن نتصدى لها بكل حزم.
مقالات فهمى هويدى
استلام الرسالة التركية واجب الوقت رق مسكوت عليه احذروا ثورة المحرومين