لم يكد المصريون يفرحون بثورتهم الميمونة، حتى حسدوا أنسهم – فيما يبدو – على ما آتاهم الله من فضله ودعمه ونصره ، فانطلق كثير منهم يعيثون في الأرض فسادا ، فتزايدت حوادث القتل ، وازدهرت تجارة السلاح ، وفشت جرائم قطع الطرق والسرقة بالإكراه ، والتعدي على الممتلكات العامة ، والمواطن الغر البسيط معذور إذا عزا هذا كله إلى تداعيات الثورة ، وكأن الثورة لم تستهدف إسقاط حاكم فاسد ، وبطانة أشد فسادا من لصوص وقتلة ومزورين ومجرمين ، بل كأن الثورة استهدفت ( استقرارا ) اجتماعيا راسخا ، سرعان ما خار وسقط كما تخور نخلة نخر السوس بطنها فتهوي فجأة .
والحق أن ذلك الاستقرار الذي خار فسقط ما كان ليهوي بهذه السرعة وهذه السهولة ، لو كان مؤسسا على قيم أخلاقية ، وعادات سلوكية ، مرجعها إلى مبادئ الدين أو مبادئ الأخلاق الرفيعة ، لكنه كان مؤسسا على قمع تشريعي ، وضبط أمني ، يأخذ العاطل بالباطل ، ويعصف بالكبير والصغير ، ويساوي بالكرام اللئام حفاظا على استقرار الحكام ، ولم يكن في حساباته استقرار ( نظام ) اجتماعي ، بل مجرد حرص على عدم نيل لوم من سادته الحكام ، وكان عسف نظام الأمن بالناس عاملا حاسما في توسيع تلك الهوة النفسية السحيقة بين الجماهير وبين الشرطة ، فكان كلا الطرفين يضمر للآخر كل ما ببواطن النفس الإنسانية من نوازع الغل والكراهية والحقد . حتى إذا أفلت العيار ، وسقطت أعمدة نظام الحكم الهش ، سارع الضعاف للانتقام ممن كانوا بالأمس يستقوون عليهم بالسلطة تحت ستار خادع هو ( حماية سيادة القانون) وعاش الناس خمسين عاما مكبوتين ينافقون تلك اللافتة المخادعة ( القانون) وهم يعلمون أنهم كاذبون في مشاعرهم نحوها ، وأن من يرفعونها هم أول الكافرين بها الهاتكين لحرمتها .
وهكذا ... اتسعت هوة انعدام الثقة بالقانون بين الناس وهم يرون دماء القانون تهمي أنهارا على أراضي الدولة المنهوبة ، وهم يرون دماء القانون تسيل غزارا على أقدام قتلة الفنانات ، وتجار القمح المسرطن ، وأصحاب البواخر التالفة ، وتجار الدماء المغشوشة ، ومزوري الشهادات ، وإسكافية القوانين/ الأحذية التي تسهل لكل مجرم النفاذ من ثغرات قانونية صاغها باقتدار فذ لصوصٌ جهابذةٌ في اللصوصية وإن ارتدوا أرواب الجامعات وحملوا ألقابها .
واليوم تمر الشهور والأسابيع والقلاقل تتزايد في مشارق البلاد ومغاربها ، شماليها وجنوبيها ، قراها ومدنها ، والناس تصرخ ولا تجد سميعا ، والناس معذورون حقا لأن حكومات اللصوص والقمع في الخمسين عاما الماضية لم تكلهم إلى أنفسهم مرة واحدة بل كانت تعامل الجماهير على أنها أهون من بعوضة ، وأضعف من ذبابة ، ولا تستحق أن تحكم نفسها بنفسها ، بل يجب أن تحكمها تلك الطغمة من الفجرة الذين جاء بهم هذا الحاكم أو ذاك بمعايير لا يعلمها أحد ،
والناس معذورون حقا لأن حكومات اللصوص والقمع في الخمسين عاما الماضية كانت تفكر نيابة عنهم وتصوت في الانتخابات نيابة عنهم وتتخذ القرارات باسمهم نيابة عنهم ، فلم تجرب الجماهير ( الشعور بالمسؤولية) مطلقا من 1952حتى اليوم . فإذا بها بعد ثورة يناير ترى هذا الانفلات السلوكي، وهذا الشذوذ الصارخ في التفكير والتعبير وهذا الاعلام المتفجر بذاءةً وإسفافا وتفريقا بين الناس ولا تملك من أمر نفسها شيئا ، فترتد – بحكم العادة – إلى صدر الحكومة تلتمس فيه حضنا حاميا ودرعا واقيا وملاذا آمنا ، فتفاجأ بحكومة ساهية لاهية مغروسة أقدامها في آلاف القضايا الداخلية والخارجية لا تكاد تفيق منها .
فييأس الناس من الحكومة ويهرعون إلى مجلس العسكريين فيرونه غارقا أكثر في مخلفات النظام الذي هوى ، يقيم من تلك المخلفات ما اعوجّ من قرارات، ويصلح منه ماالتوى من قوانين، ثم تفجؤه أزمات أمنية عنيفة هنا أو هناك . فلا يكاد يجد وقتا لإسعاف الناس بما يشتهون من استقرار وأمان .
ولا أظن مجلس العسكريين ولا الحكومة قادرين على التدخل لإقناع الناس بعدم إلقاء القمامة في نهر الطريق بعيدا من براميل القمامة ، ولا أظنهم قادرين على إقناع سائقي النقل الثقيل بعد غشيان الكباري العلوية المحرمة عليهم ، ولا أظنهم قادرين على إقناع موظف صغير بأن يقنع بالحلال من الرزق ولا يرتشي . ولا أظنهم قادرين على إقناع تجار السلاح بالتوقف عن هذه التجارة الآثمة التي يقوِّض أمن الناس . ولا أظنهم قادرين على إقناع هذا الشباب المنفلت بالدراجات النارية الصينية الصغيرة الرخيصة المتاحة يقلقون القابعين في بيوتهم بأصواتها المزعجة ، وفرملاتها القبيحة المفاجئة، ويزرعون الرعب في قلوب الكبار والصغار وهم يركضون بتلك الثعابين بين تجمعات المشاة الآمنين .
لن يصلح لمواجهة هذا الانفلات السلوكي الخطير إلا ( نظام إعلامي ) صارم تتوافق عليه القنوات الرسمية والخاصة فورا فورا فورا ، ( نظام دعوي) صارم وعاجل يتوافق عليه علماء الدين والدعاة وينفذونه فورا فورا فورا . فالناس أسمع للإعلام وللدعوة منهم لقرارات الحكومة ، والكثرة الكاثرة من المصريين لا تطالع صفحة مجلس العسكريين على الفيس بوك التي اختارها المجلس للتواصل مع شعبه الأمي . ولكن الناس يسمعون الشيوخ والقساوسة فيقتنعون بما يقولون ، ويخجلون من أخطائهم . ويسمعون منى الشاذلي و يسري فودة ومعتز الدمرداش وغيرهم من نجوم المذيعين ، ويفهمون عنهم ويقتنعون بما تبث برامجهم . ويسمعون الإذاعة ، وإذاعة القرآن الكريم بنوع خاص ، فيقتنعون بما يسمعون .
Mostafaragab2@gmail.com المزيد من المقالاتلو لم اكن مصريا لوددت ان اكون تركيا شجاعة تركية بمكونات مصرية لا تبخسوا المجتمع حقه