"تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال ".. من قلوبنا نهتِفُ بتلك الكلمات.. ومصر مُقْبِلة على عهد جديدٍ لبناء دولتها الحديثة بعد ثورة 25 يناير المباركة، والتي أوشكت أن تتطهّر بها من الظلم والطغيان.. بعد أن ضاقَت عليها الدنيا، وتكَالَبت عليها الأزمات، فإذا بنسائِم الرحمة تُدْرِكها؛ لتُخْرِجَها من كبوتها لتتنفَّس عبير الحرية.. وها هو رمضان شهر القرآن والتغيير يُدْرِك المصريين وهم يَعبُرون لعهدٍ جديدٍ من الكرامة والعزة.. نعم نجحنا في الثورة وأَزَحْنا نظام مبارك المستَبِدّ الذي جَثَم على صدورنا وكتَم أنفاسَنا ثلاثين عامًا كاملة.. نعم نَجَحْنا أن نَدْحر الظلم وأن نكسر القيود ونحطِّم الخوف.. لكن مازلنا نحتاج إلى ثورةٍ على أنفسنا.. نحتاج إلى ثورة على شهواتِنا وأطماعنا... نحتاج إلى ثورةٍ تطهِّر قلوبنا وأفئدتنا.. نحتاج إلى ثورة أخلاقية.. نحتاج إلى ثورة تغيير حقيقية للمجتمع.. وها هو رمضان شهر التغيير.. جاء ليُشارِكنا التغييرَ من الداخل.. وهو البداية الحقيقية لتغيير الواقع؛ فالله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}.. المشكلة ليست في تغيير حاكم بحاكم فقط، بل الشعب يريد التغيير على كافة المستويات؛ لأننا على يقين أنَّ الثورة سوف يكتَمِل نجاحها عندما تتبدَّل أحوال المجتمع وتتغيَّر أخلاقه إلى الأفضل فتسود الشهامة والمروءة، والصِدْق والأمانة في المجتمع، وتعلو قِيَم التسامح والتراحم بين جنباته وهو ما يُحتِّم علينا أن نستقبل رمضان المعظَّم بالطاعات والتوبة وردِّ المظالم إلى أهلها!
"اللهم تقبل منا رمضان بغفرانك، والعتق من نيرانك"..
نقولها ونحن نستقبِل رمضان لنؤكِّد لإخواننا الثوار أن يجعلوا نصب أعينهم مصلحة مصر أولاً، وأن يُوقِنوا أنَّ هذه الفترة انتقالية، فلابدَّ أن نتحلَّى بالصبر، وكفَى اعتصامات ومظاهرات؛ لأنَّ الشعب أُرْهِق، ومصر في حاجةٍ إلى استقرار وبناءٍ.
كما نقول للمجلس العسكري: أنت الحارس الأمين على الثورة منذ بِدَايِتها ولابدَّ أن تستَكْمِل المشوار بسرعةِ الاستجابةِ لمطالب الثوَّار؛ حتى لا نعطِي الفرصةَ لفلول النظام البائِد أن يَنقضُّوا على الوطن فيخسر الجميع.. وأنت- بتوكيلٍ من الشعب- صاحبُ القرار فلا تحتاج إلى ضغوط أو اعتصامات لإمضاء قراراتك.
أمَّا القوى السياسية والإسلامية فنقول لهم: نرفض التخوين والتجريح والتكفير.. علينا أن نعمل جميعًا من أجل مصر واستعادة هويتها الإسلامية ومكانتها في المنطقة فإنَّ المُهَاتَرات وحالة الاستقطاب التي تَمُوج بها الساحة ليست في صالح مصر، بل في صالح أعداء الوطن.
أمَّا إخواننا الذي أدْمَنوا السهر وذبح الأوقات في رمضان.. فأولئك الذين لم يعلموا أنَّ الإنسان لن يجد جوهر إنسانيته في رمضان إلا في مَعِيَّةِ الذِّكْر، وحلاوةِ الأُنْسِ بالله، والصيام والقيام، وقراءة القرآن، وبَذْلِ الخير، وصلة الأرحام، والعطف على جَوْعى المسلمين ومساكينهم.. ولن يجد الإنسان شيئًا من هذا، ولا حَفْنةً منه في مُطالعةِ شاشات الفضائيات بين مسلسلات وأفلامٍ تضرُّ ولا تفيد، وتَهْدِم ولا تبنِي، والعقلاء لا يفعلون هذا.
ينبغِي أن يكون رمضان موسم الإنسانية الأسْمَى؛ حيث تنبثق سلوكياتنا من ديننا الحنيف؛ لأنَّ المشكلة الهادمة في بنياننا، أنَّنا نَهْتَم بالمظهر، ولا نعتنِي بالجوهر، ونأخذ بظواهر الأشياء لا بحقائقها.. والواقع خير شاهدٍ على ذلك؛ فما زِلْنا نسرف في الولائم، ونُنْفق ببذخٍ ينافِي روح رمضان، وسمو الإنسان على معاني الجسد إلى فضاء الروح..
وما زالت الزوجات يَخْتَرعن مشاكل كل عام؛ من الإسراف في طلب الملابس، وشراء الطعام، وصناعة الولائم التي يغلب عليها الإفراط والبذخ.
حتى صارت بدع الإسراف في رمضان وغيرها من البدع التي اصطنعناها ووَرِثْناها، عبئًا يماثل أعباء السنة كلها، وصارت البيوت ساحات حرب وصراع تتصادم فيها الألفاظ وتصخب فيها الكلمات!
موسم الطاعة، ومجاهدة النفس انقلب في حياتنا- إلا من رحم الله- إلى موسم كسلٍ يرفع فيه البعض شعار: إنِّي صائم.. وكأنَّ الصوم عبادة شعارها التثاؤب!
رغم أنَّ الشهر الذي سَطّرَتْ فيه هذه الأمة صفحاتِ النور بأقلام الضياء في ميادين الحياة كلها، عِلمًا وعَمَلًا، وجهادًا وكفاحًا.
أتمنى أن نتوب إلى الله ونرجع، ونقلع عن رذائل نفوسنا، وسخائم صدورنا، وفساد بواطننا؛ حتى ننطق جميعًا بالصوت الصادق المنبعث من القلب: اللهم تقبل منا رمضان بغفرانك، والعتق من نيرانك واحفظ مصرنا من كل مكروهٍ.. يا رب العالَمِين!
المزيد من المقالاتالإسلام والمدنية الثورة عندما يركبها شعبان عبدالرحيم التوافق بديلاً عن التنابذ العبث بشخصية الميدان «خط أحمر»