من يظن أن الهوية الإسلامية للدولة تؤثر أو تقلل من مدنيتها فقد وقع فى خطأ كبير بل ربما يعانى من قصور شديد فى الفهم والقدرة على استيعاب الأمور.. فالإسلام دين أسس قواعد الدولة المدنية وخرج بها للحياة وهى الدولة التى لم يكن لها وجود قبله لأن العالم كان يعيش عصورا مظلمة تحت وطأة الفرقة فى كل شىء.. فرقة الدين واللغة.. فرقة اللون والجنس.. فرقة بين طبقات معصومة وأخرى محكومة.. فرقة غيبت المساواة والعدل ورفعت راية التمييز بين السلطة الدينية والسياسة وبين عامة الشعب.. ولم يكن لأحد أن يجاهر باختلافه العرقى أو الدينى وإن فعل سيكون الجزاء القتل أو النفى.. هكذا كانت الحياة قبل أن تقوم الدولة المدنية فى رحاب الإسلام.
لقد قامت الدولة المدنية أو ما يعرف بدولة القانون مع ظهور الإسلام ونمت وترعرعت عبر عصوره القوية منذ بعثة النبى الخاتم ومرورا بفترة الخلافة الرشيدة وخلال تلك السنين عاش الجميع سواسية كأسنان المشط فلم يكن هناك فرق بين أبيض وأسود أو بين حاكم ومحكوم.. بل كانت الدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية قبلة لكل من أراد أن ينجو بدينه وماله.. ولِمَ لا وقد أكدت تلك الدولة أن الحياة تتسع للجميع فكان من حق غير المسلم أن يجاهر بدينه ويتعبد وقتما شاء وكيفما يريد.. بل كان له حق التملك والتجارة والزراعة والشراكة مع المسلمين وغيرهم بكل حرية وبدون أى قيود.
وظلت الدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية تدافع عن هذه الأسس والمبادئ دون أن تميز بين المسلمين وغيرهم من أهل الكتاب على مدار سنوات طويلة ولم تغب تلك الدولة عن الحياة إلا عندما تنكر الحكام والساسة للمرجعية الإسلامية وولوا وجوههم قبل المرجعيات البشرية والقوانين الوضعية.. وأرادوا أن يقيموا دولة مدنية بلا مرجعية إسلامية بدعوى التحرر من قيود الماضى تارة والفصل بين الدين والدولة تارة أخرى ظنا منهم أن الارتباط بالإسلام سيخلق دولة دينية وهكذا ضل سعيهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا!
إن الحفاظ على المرجعية الإسلامية لمصر هو الضامن الأصيل لبناء دولة مدنية، لأن الإسلام لم يعرف ولم يعترف بالدولة الدينية على الاطلاق بل كان دائما ركيزة أساسية لدولة القانون والمساواة بين الناس فى كل شىء وأعتقد أن مصر الآن فى حاجة ماسة كى تتمسك بالمرجعية التى صنعت منها دولة مدنية قبل أكثر من ألف وأربعمائة عام، ليس فقط من أجل أن تطهر نفسها من الفسدة والمفسدين وتعيد الحياة لضمائر ماتت ولكن لكى تكون ندا لأعداء الداخل والخارج الذين يتمسكون بمرجعيات دينية يرفعونها فوق رءوسهم ويجاهرون بها آناء الليل وأطراف النهار.. وليست إسرائيل عنا ببعيد.. فهذا الكيان الذى زرع نفسه فى أرض العرب لا يتنازل عن مرجعيته أبدا ويتعامل بها مع العالم كى يصنع لنفسه هوية تضمن له البقاء على أرض ليست من حقه.
وأعتقد أن جميع القوى السياسية فى مصر وعلى الأخص الليبرالية منها مطالبة بالحفاظ على المرجعية الإسلامية لأنها هى الأساس فى قيام الدولة المدنية الحقيقية وليست المصطنعة وعلى جميع التيارات بكل أطيافها (من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين) أن تقبل بالمرجعية الإسلامية لأنها ليست خطرا على الدولة المدنية أو العلمانية بل هى الضامن لها ومن مصلحة الجميع أن يدافع عن تلك المرجعية كما هو الحال فى تركيا التى تتمسك بهويتها ومرجعيتها الإسلامية ومع ذلك فكيان الدولة راسخ ولا يحيد عن قواعد المدنية والعلمانية التى تتسع للجميع وتمنح الحق لكل التيارات فى التعبير والتنافس.. ويكون الفيصل فى نهاية الأمر هو صندوق الاقتراع.. فهل من مجيب؟
المزيد من المقالاتالثورة عندما يركبها شعبان عبدالرحيم التوافق بديلاً عن التنابذ العبث بشخصية الميدان «خط أحمر»