كم هي بديهية هذه المسألة : أيهما أولا : الدستور أم الانتخابات ؟ ورغم ذلك يختلفون.
في الدكتاتوريات غير الطاغية يعرف ما يسمى بسرقة القوانين وهي أن يعمد رئيس الجمهورية أو رئيس الحكمومة إلى قانون يريد أن يسنه فيأتي إلى فترة عدم انعقاد البرلمان ويقوم بسن هذا القانون متفاديا بذلك الرفض المتوقع أو مجرد التساؤلات التي قد تثار على القانون المزمع تمريره , فيختلس هذه الغفلة من الشعب ليمرر مصيبته ولا تكون بالطبع إلا مصيبة .
ولقد رأينا في الفترة السابقة محاولات لسن بعض القوانين منها ما وقعت به المصيبة ومنها ما كفى الله فيه البلاد الشر , وكنت عند التفكير في كل واحد من هذه القوانين – سواء قانون منع التظاهر والإضرابات أو قانون دور العبادة الموحد أوالموازنة وما أدراك ما الموازنة وغيرها – كنت أقول : هذه سرقة ولا برلمان لها , وأتساءل كيف يجرؤون على سن قوانين في غياب البرلمان , دون رجوع إلى شريعة ربانية ولا حتى إلى الشعب عند دعاة الديمقراطية والحرية و و ..الخ ثم إذا بي أستيقظ من غفلتي وأقول لنفسي ألا أدلك على أعجب من ذلك : الدستور أولا , وهذه المرة ليست السرقة لشيء من البيت في غياب حارسة ومراقبه بل هو خطف للبيت كله ومحاولة لرسمه وتخطيطه على مراد فئةٍ ما , ثم رده إلى سكانه الأصليين ليعيشوا فيه رغما عنهم بمقاساته الجديدة وأطره المحددة شاؤوا أم أبوا ..
الحمد لله كل هذا كان كابوسا , أقول في نفسي سأستيقظ , لا لن يسرقوا بيتي , لا لن يرسموا داري على أهوائهم , وظللت أسافر بخيالي أذكر الصغر : كنت أراهم يقسمون على احترام الدستور : الرئيس والوزراء , المحافظون و الضباط .وكنت أقول في نفسي أي مكانة هذه ؟ وأي تقديس ؟ لقد نالت كلمة الدستور في عرف البشر تعظيما وتفخيما حتى جعلوه أبا القوانين كلها , وأعود لحاضري فأقول : هل يعقل ترك هذه القيمة تختلس هكذا منا ؟!!
البعض قد يزعم أني حين أقول هذا أسحر أعين الناس عن رؤية الصواب النخبوي الذي فيه مصلحة البلاد كما يزعمون وأخدع البسطاء بمعسول الكلام لأصل إلى نتيجة غير واقعية إذا أنه لا الاستفتاء ولا إرادة الشعب تتنافى مع كون الدستور يوضع أولا .إذن فلنهبط على أرض الواقع وننظر بعين مجردة لما حدث ..
كانت الأغلبية 77.2 % من المصوتين في استفتاء التعديلات الدستورية قد صوتوا لصالح قبول التعديلات فى استفتاء شمل عدة مواد توصف بكونها جوهرية في الدستور القديم وكان العوار الذي أصاب هذه المواد من أهم ما قنن لديكتاتورية النظام السابق , وكانت الرغبة في إصلاح هذا العوار ملحة جدا , ويضاف لهذا أن وضع دستور جديد كان أمرا بدهيا بعد الثورة ولم يكن في ذلك نزاع , غير أن النزاع كان في الآلية التي سيوضع بها هذا الدستور , هل سيوضع بلجنة معينة أو منخبة ؟ وكيف سيتم انتخابها ؟ ..لهذين الهدفين (إصلاح المواد الدستورية الجوهرية ووضع آلية لوضع الدستور الجديد) تم عمل الاستفتاء الشعبي الرائع بكل ما تحمله الكلمة من معان , وكانت التعديلات تقع على مواد معينة من دستور (معطل) وليس مُلغىً فلم تقع التعديلات على دستور ساقط كما يظن البعض ولا على دستور ساري المفعول يجب العودة له كاملا بعد قبول التعديلات التي أجريت عليه كما يظن البعض الآخر , بل لقد أصاب المجلس العسكري جدا حين اختار لفظة (التعطيل) لا (الإلغاء) ولا (استمرار العمل) بالدستور القديم , وقد أعلن المجلس العسكري قبل الاستفتاء أنه سيعلن عن بيان دستوري بعد الاستفتاء بغض النظر عن نتيجته, وذلك يفيدنا عدة أشياء : منها دفع الشبهة عند بعض من كان يقول : لا للتعديلات الدستورية من أجل دستور جديد , ومنها الرد على من يقول إن البيان الدستوري ألغى الاستفتاء برمته , إذ أن الكل كان يعرف قبل أن يذهب للاستفتاء على التعديلات أن التعديلات ستصدر في هيئة بيان دستوري لا أنها ستعود بنا للدستور القديم , وبذلك يتضح أن البيان الدستوري لم يكن خيانة لإرادة الشعب ولا هدما للاستفتاء , وإلا لما سكت الشعب الذي خرج بالملايين في الاستفتاء عن ذلك , بل وتعجب حيت ترى الساكتين عن هذه الحكاية والراضين عنها هم الموافقون على التعديلات وترى من يقلّب في دفاترها هم (بعض) أصحاب لا للتعديلات الدستورية والذين هم اليوم يرفعون شعار الدستور أولا , ولا يطعن فيما أقول هنا كون البيان الدستوري قد زاد في عدد مواده كثيرا على عدد مواد التعديلات الدستورية , إذ أنه بطبيعة الحال لم تكن المواد المعدلة تكفي لإنشاء بيان دستوري متكامل تسير عليه البلاد هذه الفترة الانتقالية , فاحتاج الأمر ولا بد إلى إضافة مواد بعضها مواد فوق دستورية وبعضها يفرضها الواقع الثوري ووضع المجلس العسكري كإدارة مؤقتة للبلاد , لذا لم يكن هناك اعتراض يذكر على البيان الدستوري , اللهم إلا اعتراضات شكلية لا ترقى في جملتها لدرجة العيب , فمثلا ترى نصا من نصوص هذه المواد واسعا لم يحدد آلية معينة لتنفيذه مما يقطع الناظر أنه وضع هكذا عمدا من باب المرونة وعدم التحجر عند آلية معينة بما ييسر تنفيذه على المطبقين له بعد ذلك , وكما يقول أهل الشريعة : إن الخلاف رحمة إذ يسع كل واحد من الناس أن يأخذ بأي من أقوال العلماء مالم يكن متشهيا متبعا للذلات .
فإن قيل لماذا نورط أنفسنا في انتخابات برلمانية تكلفنا الكثير من أجل وضع الدستور ثم ستصبح هذه المجالس منتهية الصلاحية إلى مجالس جديدة سريعا , فأقول إن هذا الأمر قد يطول ومع علمنا بأهمية البرلمان الذي هو صاحب البيت وحارسه كما ذكرنا عرفنا أننا قد لا نستغني أبدا عن وجود البرلمان فالبرلمان هو الذي يشكل الحكومة وهو الذي يمارس الرقابة عليها ولا يمكن أبدا أن ترى دولة من الدول بلا برلمان أو حكومة بينما ترى الكثير من الدول برئيس أو ملك شرفي هو في مكانه كالمعدوم ., ومن عجب أيضا أن ترى كثيرا من دعاة الدستور أولا يطالبون برئيس للدولة قبل مجلس الشعب !!! ولن أتحدث عما يفوح من وراء هذه المطالبات من روائح (ديكتاتورية) يدركها كل ذي حس سليم .
ولو فرضنا مع هذا أن البرلمان الجديد لن يلبث إلا أياما هي فترة إعداد الدستور الجديد ثم ينحل ونكون قد خسرنا تكاليف انتخابات تشريعية في طول البلاد وعرضها , فأقول هل هذه التكاليف غالية بالنسبة لما دفعناه من دخل بلدنا فترة الثورة ومن أمننا وسعادتنا فضلا عن أرواح خيرة شبابنا ؟ وهل نفقات هذا المجلس تمثل شيئا فيما حاولت الحكومة الحالية -التي لم تخرج من رحم مجلس للشعب - أن تقترضه وتورطنا فيه ؟؟ وهل ما سننفقه ونبذله من مجهودات في هذا المجلس لا تستأهله عيون الدستور الجديد الذي كان مطلبا رئيسيا من مطالب الثورة وحلما كبيرا من أحلام الشعب ؟؟
فإن قيل ولماذا لا تكون هنام لجنة منتخبة تضمن تمثيل إرادة الشعب وليست معينة تقفز على إرادته ونضع الدستور قبل الانتخابات فأقول : إننا لو فعلنا هذا سنكون بذلك قد كسرنا رغبة الأغلبية التي صوتت في الاستفتاء ونكون أيضا قد فتحنا الباب لكل متسلق ليفرض على هذا الشعب رؤيته الخاصة بعد أن رأى أقوى دليل واقعي وهو الاستفتاء يسهل تكسيره وتنتهك حرمته ويعتدى عليه جهارا نهارا.
وأقول أيضا إننا لو اتفقنا على أن وضع دستور البلاد من خلال لجنة تأسيسية معينة هو سرقة صريحة مؤيدة بالبلطجة التي يستحق فاعلها أقصى أنواع العقوبة – إذا قررنا هذا ورجعنا إلى أنه لا بد من الانتخاب للجنة التأسيسية لا التعيين , فإن هذه اللجنة إما أن تكون منتخبة بالانتخاب المباشر من الشعب أو بالانتخاب غير المباشر من نواب الشعب وهذا الأخير – أعني الانتخاب غير المباشر بوسطة مجلس الشعب يفيدنا إيجاد حكومة منتخبة بأسرع ما يكون ورقابة على الحكومة والقوانين وميزانية الدولة التي خيبت آمالنا في أول ظهور لها بعد الثورة لأنها أيضا كانت في غياب الرقابة الشعبية , كما كان اختيار المحافظين والوزراء قد تم في غير رقابة شعبية وكما تسير الأمور كلها على غير ما يرام لأنها ما تزال بغير وجود رسمي شعبي , يتضح بذلك أن الطريق الذي نسير فيه الآن -مالم ينقلب عليه المنقلبون- يحقق لنا عدة أهداف : منها دستور يضعه الشعب بنفسه فعلا وحكومة ورقابة تمثل الشعب سريعا بما يقطع الطريق على كل ما لا يمثل الشعب من عقائد وأفكار وثقافات ويقطع الطريق أيضا على من يستعجل سرقة الدستور قبل أن يكون للشعب رجال معهم أحقية التمثيل في الحكومة وحصانة تقديم الاستجوابات في البرلمان .
أعلم أنه ليس كل من يقولون (الدستور أولا) هم دعاة لسرقة البلاد بل منهم من لم يدرك خطورة الأمر ومنهم من أراد الحق فأخطأه وهو لا يستوي أبدا مع من أراد الباطل فأصابه ولكن النية الصالحة لا تصلح العمل الفاسد وكما يقال إيضا : القانون لا يحمي المغفلين . ونحن نرى أن الشعب المصري قد أثبت بشباب ثورته الرائع أنه ليس مغفلا وأنه متيقظ لمن يريد سرقة الدستور أولا .
طبيب وداعية إسلامي