تتعدد الرؤى وتتنوع فى قضية تطوير المؤسسات ولكن يأتى الاتفاق على أن أولى الخطوات هى وضوح الرؤية وشفافيتها لأعضاء المؤسسة ذاتها. والأزهر كمؤسسة ليس استثناءً من تلك القاعدة. لقد ظل الأزهر طيلة عهود طويلة رائداً للكفاح ضد الغاصب وضد المحتل وضد الظلم. ويشهد التاريخ على تلك الصحائف الناصعة من تاريخ جهادنا فى مصر ودور الأزهر فى ذلك. كان الأزهر كمؤسسة مصنعاً للرجال كقادة وكأئمة وكعلماء فى أمور الشرع والأمور الحياتية العملية فى الهندسة والطب وغيرهما من العلوم. ونتيجة لإدراك الناس هذا الدور تم إقامة العديد من الأوقاف على الأزهر وعلمائه وطلبته وعلى المساجد التى تغذى الأزهر بطلبة العلم والتى يقوم بشأنها خريجو الأزهر. لقد خَفَتَ صوت الأزهر خلال عقود طويلة حين خفتت روح العمل والعدل فى المجتمع لصالح المحتل ولصالح الحكام الذين لم يجدوا فى الأزهر إلا مناوئاً لسلطتهم. وشهدنا ذلك رؤية العين خلال عقود عديدة تم فيها تشتيت شمل المؤسسة الإسلامية الرسمية وتفتيتها إلى ثلاث مؤسسات هى الأزهر الشريف بأقسامه: جامعة الأزهر والمعاهد الأزهرية ومجمع البحوث الإسلامية، ودار الإفتاء ووزارة الأوقاف.
الأزهر بمعناه التقليدى والمحدث فى آن واحد هو طالب وأستاذ. وكتطبيق وكضبط لأمور الدعوة والاجتهاد نشأ تجمع لكبار العلماء داخل الأزهر للتدارس ولضبط المسار يتم من خلاله انتخاب شيخ للأزهر، كما وُجِدت منظومة للإفتاء داخل الأزهر مازالت تعمل حتى اليوم. وحينما توسعت الأمور نشأت الحاجة إلى منظومة إدارة لبعض العمليات المكملة والرئيسة فى المنظومة كإدارة أوقاف الأزهر. كان هذا هو ديدن الأزهر فى القديم، ولكن مع الرغبة فى تقليص العامل الدينى فى المجمتع من قِبَل الحكام حتى يَسهُل على الحاكم الانفراد بالحكم دون رابط خاصة مع وجود أزهر قوى يستطيع ضبط إيقاع المجتمع كان لابد من تفتيت المؤسسة. بدأ ذلك التفتيت منذ أكثر من قرنين من الزمان لتقليص التعليم الأزهرى ولمناوئة سلطة شيخ الأزهر حالما تتعارض توجهاته مع توجهات الحاكم. بدأ الأمر بالنواحى المادية وتطور إلى غيرها من أمور الإفتاء فى ازدواجية لا مثيل لها فى أى مجتمع من المجتمعات. هذا الأمر استهوى مختلف الحكومات ولا نعجب لهذا حينما ندرك أن المنظومة التى حكمت مصر فى العقود السابقة فاسدة، ولكننا نعجب لعدم التصدى الآن لهذا التشتت بل الدفاع عنه.
الأمر الآن يتطلب إعادة تصميم منظومة الهيئة الرسمية الإسلامية تحت قيادة الأزهر الشريف. هذا الأمر بجانب أنه منطقى فهو إسلامى النزعة والتوجه. ويتمثل الأمر فى توحيد المؤسسة الإسلامية واستقلالها استقلالاً كاملاً من أية هيمنة من خلال دمج جهازين للدعوة الإسلامية (وزارة الأوقاف ودار الإفتاء) فى مشيخة الأزهر الشريف، ومن ثَمَّ إدارة مؤسسة الأزهر الشريف بمختلف مستوياتها بالانتخاب الحر بشفافية وعدالة وفقاً لقواعد علمية بناءً على ضوابط شرعية. ولن يتأتى ذلك إلا من خلال إعادة هيكلة الأزهر الشريف؛ بمختلف قطاعاته؛ رفعاً لكفاءة عمله وبما يتيح له ولأعضائه النهوض به ونشر رسالته الصحيحة والاضطلاع بدوره فى إنهاض الأمة وبنائها.
إن النهوض بمؤسسة الأزهر الشريف لهو إنهاض للأمة بأكملها وبسطاً للعدالة بين مختلف أبناء الوطن مسلمين وغيرهم لأن العدل والذى هو أساس المُلك يعنى إعمال معيار واضح معلن شفاف بين الجميع بدونه لا يمكننا ترجيح أمر على أمر آخر. إن أهم أسباب فساد المنظومة التى حكمت مصر لعقود هو سوء اختيار القيادات الذى لم يكن من خلال معايير عادلة شفافة معلنة للجميع. قضية معايير اختيار القيادات تحتاج إلى مفكرين ولابد من النهوض بهذا الواجب القومى من رجال الفكر فى الأمة جميعها ومن أساتذة الجامعات ومنهم أساتذة ومفكرى الأزهر.
لقد مر على الأزهر عقود طويلة لم يقدم فيها ما يدفع الأمة إلى الأمام فكراً وقيادة وريادة إلا النذر اليسير الذى لم يقو على مواجهة الفساد ودَفْعْ الأمة للأمام. لم يقم الأزهر بواجبه كما ينبغى وهو أمر يتطلب تصحيح مسيرة الأزهر لنعلىَ من شأنه باستقلاله دعوياً وإدارياً وسياسياً ليُدار بشفافية من أبنائه المخلصين. وهذا عين ما تتمتع به الكنيسة فى مصر. إن إصلاح الأزهر الشريف سيحل مختلف قضايا المؤسسة الإسلامية بل مختلف قضايا المؤسسات الدينية فى مصر.
إن من أخطر ما يصيب الأمم هو غياب الرؤية وهو ما يجب أن تضطلع به مؤسسات الدولة الفكرية ومنها الجامعات. فأين الأزهر من هذا؟ بل وأين الأزهر من قضايا الريادة والقدوة؟ إن استقلال الأزهر الشريف بعد دمج مختلف مؤسساته لهو وتد أصيل من أوتاد الحفاظ على ترابط نسيج الوطن وتقدمه.
لقد مر الأزهر بعدة مراحل كان آخرها قانون تطوير الأزهر رقم 103 لعام 1961م وبتصفح مواده ومواد لائحته التنفيذية يمكننا أن نرى تكامل النظرة والتى للأسف غاب عنها التطبيق، فكل الأمور الورقية تسير على ما يرام؛ كغيرها فى مختلف مؤسسات الدولة؛ ولكن ما المحصلة حينما يتم تقنين كافة الأمور، صالحها وطالحها، صحيحها وسيئها، وحين تغيب الروح عن الجسد، وحين يغيب عنا أن النصر قرار؛ فى تلك الأثناء لا ندرى من نحن؟ ولنأخذ كمثال لهذا التيه منظومة البحث العلمى التى هى قاطرة أية جامعة لنجد الخطط المكتوبة (إن وُجِدَت) توضع بعيداً عن متطلبات المجتمع وعن الأسلوب العلمى الذى نص عليه قانون تطوير الأزهر. لقد غابت بحوث الجامعة عن منظومة التنمية إلا فيما ندر كما غاب عنها اتجاهات بعينها مثل العدل والحكم واللغة والهوية رغم ما ينص عليه القانون. لقد غاب عن الجامعة كما المجتمع ذلك الوعاء الواحد الذى يحتوى مختلف جهود أفراده لغياب الرؤية والهدف القومى! الأمر جد خطير لأن الأستاذ الجامعى غاب عن المشهد طيلة عقود وحينما أتت له الفرصة لم يقتنصها وفضل الانضمام لصفوف المطالبين بمطالب فئوية (تتساهل معهم الحكومة عكس المطالب الهيكلية التى لا تدير لها بالاً على أحسن الفروض)؛ وتقاعس عن الانضمام لفكر المطالب الهيكلية التى نحتاجها الآن أكثر من أى وقت آخر لأنها المسار الذى سيسير عليه الوطن لعقود قادمة.
لقد بُذل جهد فى طريق استقلال الأزهر ووحدة مؤسساته، ولم يكن رد فعل الحكومة موجباً حيث اتبعت سياسة العصا والجزرة كسابق عهدنا مع من سبقها. هلا تيقظنا لعمليات تفتيت المسيرة والانحراف عن المطلب الأساسى والوحيد وهو ضم وزارة الأوقاف ودار الإفتاء إلى الأزهر الشريف حتى يستقل دعوياً وإدارياً وسياسياً، ولندرك أن النتائج ستأتى تباعاً. إن تفتيت المطالب سيضر بمسيرة الإصلاح. ونحن نرى أن للاستقلال أدواته وآلياته التى ستجعل علمائه أحراراً لا يخافون إلا وجه الحق. إن الحلول الجزئية لن تُجدى ولا ترقى لمستوى الطموحات ولا تحقق للأزهر استقلاله. يتطلب الأمر إعادة منهجة الحلول للنهوض بالأزهر الشريف كى يقوم بواجبه تجاه الوطن بمختلف فئاته وطبقاته لتتبوأ مصرنا مكاناً تستحقه بجهد أبنائها، غُيِّبَت عنه طويلاً!
ألى أن أرسل رسالة أخيرة إلى أساتذة وأئمة ودعاة الأزهر الشريف بل وإلى كل وطنى غيور على مصرنا العزيزة بأبنائها؛ مهما كانت عقيدته ومهما كانت انتماءاته: هناك قضية عاجلة لننهض بمصرنا هى دمج مختلف هيئات الدعوة الإسلامية الرسمية فى الأزهر الشريف والنهوض به، والتى ستَحِل مختلف قضايا المؤسسة الإسلامية فى مصر وستنعكس على بقية مؤسسات المجتمع إيجاباً، فهل من مجيب؟ وهل من رائد بل وهل من قدوة؟! ولنتذكر أن من شعارات ثورة الطلبة فى فرنسا مايو 1968م: إن الذين يصنعون نصف ثورة يحفرون قبورهم بأيديهم.
أستاذ هندسة الحاسبات، جامعة الأزهر
مقالات عامةالماسونية في عهد مبارك.. بقلم د محمد عمارة دكتور زويل .. عاشت الاسامى: بقلم أبوالعباس محمد د محمد عمارة: المادة الثانية من الدستور 2 سيرجموكم أو يعيدوكم فى ملتهم.. ممدوح اسماعيل وما يزال الأقباط مضطهدون! بقلم: م. محمد إلهامي محمود مراد.. النخبة المصرية تقود الثورة المضادة