تحرص القوى الفعلية التي تحكم منطقتنا من تل أبيب وواشنطن وأبرز العواصم الأوروبية على التدخل في الوقت المناسب للحؤول دون انفراط حبات سيطرتها وتسرب خيوط اللعبة من بين أيديها الحمراء، وهي إذ تدرك أن النظم السلطوية التي تدين بالولاء والخضوع لها تجمع مفردات الحكم والنفوذ والهيمنة في يد طاغية واحد يسهل توجيهه باستخدام وسيلتي العصا والجزرة، الرشاوى والعمولات العسكرية وغض الطرف عن الفساد المالي الضخم، والتلويح باستخدامها في زيادة لي ذراع "الزعيم" الملوي أصلاً، إضافة إلى جملة الملفات القذرة المتخمة التي تحوي جرائم وكبائر "الزعماء" على طول سني حكمهم العجاف.
وكما تحرص تلك العواصم على الاحتفاظ بهؤلاء الخدم لتركيع الشعوب العربية والمسلمة والتمسك بهم لآخر قطر دم طاهرة بريئة، تحرص على سرعة لملمة الأوضاع بعدهم ووضع يدها على أزرار التغيير الاضطراري الذي تلجأ إليه بفعل غضبات الشعوب.
القصة قديمة حديثة، ووسائل "الاستعمار" لم تتبدل كثيراً في كل أقطار عالمنا العربي والإسلامي، والذين لاحظوا التحول السريع في مزاجات الصف الثاني من الأذناب والتلونات الحربائية لدى أجهزة إعلام متغربة لم تزل تهزي طرباً احتفاءً بالثورات الجديدة كما لم تكن من أعتى وسائل مناهضتها منذ أيام قريبة، يدرك بيقين أن أوامر قد صدرت من تلك العواصم بضرورة التحول المفاجئ، و"الصعود الاضطراري" إلى سماء الثائرين.
ومثلما زرع "الاستعمار القديم" عسسه ودسسه وتجاره الأوفياء في صدارة المشهد حين كانت الثورات وعمليات التحرير النقية في أروع صورها لتغتال الحلم وتعيد ترتيب أوراق الولاء لتلك العواصم بمزايدات تفوق مطالب الثائرين أحياناً على نفس طريقة المندسين في المظاهرات الذين تعمد الأجهزة الإرهابية الأمنية إلى بثهم فيها لتحويل دفة تلك المظاهرات إلى العنف والصراخ لغير الغاية التي خرجت من أجلها لإيجاد ذرائع لضربها، وهم يعمدون إلى رفع سقف الشعارات كثيراً عما يطلبه الثوار ليطمئن البسطاء إلى "نبل" مقاصدهم فيتبعوهم إلى قمة الجبل ثم الهاوية.
وإذ تمسك الغرب و"إسرائيل" بخدمه إلى أن استيأس ببعضهم، وعلم أنهم لا محالة ساقطون، وأن أدنى الأضرار هو في هندسة صيغة حكم جديدة تضمن استمرار العديد من الملفات الخارجية في سياقها المعهود، وضمان المعقول والممكن من الملفات الداخلية في أيديهم أيضاً؛ فإنه بادر إلى تأمين البديل، تحت قنابل دخانية كثيفة كلها تقول للثائرين هاأنتم قد انتصرتم وانتهى الأمر فقوموا إلى أنخابكم فاشربوها حتى الثمالة!!
لننتبه جيداً، إن اللحظة التي يقول فيها الأمريكيون وأذيالهم للآخرين إنه السلام بعد الانتصار هي بكل تأكيد ساعة الانقضاض؛ فسياسة الأحفاد لا تخالف الأجداد الذين جلسوا ذات يوم في ضيافة الهنود الحمر بعد خلاف، وعقدوا صلحاً أولم فيه الهنود الحمر ديوكاً رومية، آووا إلى معسكرهم مطمئنين بعد احتفالية الاتفاق والوليمة، وانهمكوا في الإعداد لـ"التدخين من أجل السلام" وفق طقوس الهنود الحمر، (أو احتفالات نجاح الثورة مثلما نفعل الآن في البلدان المنتصرة)، فباغتهم الغربيون بارتكاب مذبحة لم تتوقف عند سلخ فروات شعر رؤوس الهنود البسطاء، وكان من يومها "عيد الشكر"! الذي اتخذ فيه توقيت الإبادة التي قضت على نحو 99% من الهنود الحمر.
ندرك حقيقة أن ثوار مصر وتونس وليبيا ليسوا هنوداً حمراً، لكنهم سيكونون بكل تأكيد في دائرة الاستهداف الغربي الساعي لتكرار تغييرات دفات الثورات العربية والإسلامية ضد "المستعمرين" القدماء لتكون في صالح الأخيرين في النهاية، وحيث عمد الأذيال إلى محاولة شد أطراف الثورة باتجاههم فإن القلق لابد أن يساور كل غيور على هذه الثورات التي نزفت فيها الشعوب الدم الغالي ودفعت الملايين أثمانها الباهظة لكي تبقى ثوراتهم نقية مستقلة حرة.
لم تقم الثورات لتغيير وجوه مهما كانت كلاحتها ودمامتها، ولم تقفز تلك الشعوب قفزة في الهواء ليقف غيرها على بسيطة الحكم والنفوذ، ولم تبذل الجموع كل ما بذلت لكي يمتطي ظهرها بقايا النظم وأيتام الطغاة.
إن سبعة آلاف مصري بين شهيد وجريح ـ رسمياً ـ والآلاف من الشهداء في ليبيا، والمئات في تونس لم يقوموا شهوداً لتبقى حكومات شفيق والغنوشي والرجل المجهول الذي سيبدأ الغرب في تسويقه في ليبيا التي لم يزل السفاح يحكمها من منطقته الخضراء الأمريكية، ولم يدفعوا الثمن الباهظ هذا لتبقى الأجهزة السيئة السمعة التي مارست جميع أنواع القهر والحيف والإجرام تمارس أدوارها الأمريكية على أراضٍ حسبناها قد تحررت.
لم يزالوا يخدروننا بنجاح الثورات ويشيدون بها حتى نظن أنهم من أنصارها وهم لا يفتؤون يدبرون بليل حالك إعادة الأمور إلى "أشبال طغاة".. يدغدغون مشاعرنا بملاحقة فريق محدود من أفراخ الفاسدين، لكي ننسى أن كل مفاصل السيادة لم تزل في أيدي "الحرس القديم".. أدواته، أجهزته، وسائله، نفوذه، وهم لا "يمنحون" الشعوب شيئاً إلا حالما لا يجدون فكاكاً من ذلك، فإن تركوا سرقوا الأعين باتجاهات ترضي البسطاء ولا تقنع المخلصين الحاذقين.
من استوزر شفيقاً والغنوشي لم يكونا سوى الطاغيتين مبارك وبن علي، ورئيسا الوزراء كلاهما لا يمثلان إلا واجهة جديدة أكثر أناقة لنظام بائد بغيض، وبقاؤهما في منصبيهما وبقاء كثير من وجوه الحرس القديم في أجنحة أنظمة حكم مبارك وبن علي لا يعني غير محاولة مستميتة للإبقاء على خطوط الاتصال بين الداخل والخارج كما كانت ساخنة أو على الأقل دافئة بحسب ما تقتضيه المعادلة الثورية الجديدة، وعملية الترقيع الحالية تمثل إجهاضاً متدرجاً للثورات الشعبية في الشمال العربي الإفريقي برغم كل المقبلات التي توضع على موائد الثائرين، وما لم نكن في حالة تيقظ دائمة رافضين كل طرائق دفن الثورات تحت ثرى الزمن والتخدير والاحتفالات الجوفاء والإجراءات المرتعشة والمتذبذبة، فسوف نبتاع الوهم من الداخل والخارج على حد سواء، وسوف يحتفلون مجدداً بـ"عيد الشكر" بعد دفن الثورات بمسالح الـ"سوف".