برغم أن الثورة التونسية قد كشفت كثيراً من الأسرار المتنوعة فيما يخص الحكم البائد، كما أبانت بوضوح طبيعة الشعب التونسي ومدى قدرته على تحريك الأحداث والثورة، إلا أنها لم تبح بعد بأهم أسرارها الخاصة بالثورة ذاتها، من استثمرها حقيقة، ومن غل يد البطش الأمنية التونسية عن أن تطالها في أحرج اللحظات صعوبة على نظام بن علي، ومن حيد الجيش، ودفع النظام في النهاية إلى الاستسلام؟ وتلك مسائل في واقعها تساهم في التناول الصحيح للحدث ومن ثم توفر أرضية للحديث عن مستقبل تونس ذاتها، وعما إذا كانت ستؤول إلى إعادة إنتاج الديكتاتورية من جديد بعد هدنة من الحرية يفرضها الوضع الضاغط على مجمل التراب التونسي الآن، والذي لم يرق لثواره بال طمعاً في قطف ثمار ثورتهم، حتى بعد مرور على فرار الرئيس التونسي السابق بن علي، أم أنها ستباشر في إطلاق الحريات وإقامة نظام عادل بشكل يستأهل التضحية التي قدمها الشعب التونسي.
لكن مهما يكن من أمر؛ فإن الثورة التونسية أكانت عفوية حتى النهاية أم تحولت إلى موجهة في آخر لحظات حكم الرئيس بن علي، ستكون ملهمة لغيرها، ضاغطة على خلفاء بن علي وكثير من جيرانه، مؤثرة في المحيط الإقليمي الذي وخزته سرعتها ودقتها وفعاليتها فأفاق على وقع الصدمة.
والملاحظ أن هذا الإلهام قد بدأ يؤتي ثماره بعض الشيء في أكثر من بلد بدا فيه أن تجاوب الشارع مع المطالب العامة للشعوب قد بات أكثر فعالية وحضوراً، كما أنه في المقابل بدت السلطة مدفوعة إلى امتصاص غضبات الجماهير أكثر من رغبتها في مجابهتها بشكل فج كالذي اعتادته الشعوب منها.
والذي يشاهد الآلاف من رجال الشرطة التونسيين بالزي الرسمي والمدني، وقد وضعوا الشارات الحمراء وتجمعوا أمام مقار الاتحاد العام للشغل ومقارهم الأمنية للتعبير عن مساندتهم وتضامنهم مع الثورة الشعبية، ويستمع إلى مطالبات بعضهم "نريد نقابة تتبع الاتحاد العام لحمايتنا من تعسف السلطة في إصدار الأوامر الزجرية والقمعية ضد الشعب، نحن غير مستعدين بعد اليوم لتقبل مثل هذه الأوامر، الشرطة جزء من الشعب"، ثم يشاهد جنود الشرطة في الأردن وهم يوزعون الماء والعصائر على المتظاهرين الناقمين على إجراءات الحكومة من أقصى اليمين (إخوان) إلى أقصى اليسار (شيوعيين)، يتيقن أن روحاً ما قد سرت في الشعوب العربية، دفعت القادة المعارضين حتى المحسوبين على الدول الأوروبية وعملائها في الجزائر كالقيادي العلماني سعيد سعدي، أو المتدينين كبقايا الإنقاذ وغيرها إلى الصراخ في وجه السلطة الجزائرية، والشيء نفسه يرى في مقاطعة "تفرغ زينة" بالعاصمة الموريتانية نواكشوط، حيث مهرجانها الشعبي الذي أقيم احتجاجاً على الفساد وخطب به الزعيم المعارض ولد داده، وما سوريا التي رفع الإخوان فيها من سقف تطلعاتهم عبر التلويح بالعصيان المدني من ذلك ببعيد.. الخ.
إن شيئاً ما يتشكل في عالمنا العربي، ليس بالضرورة محاكياً للنموذج التونسي، أو قادراً على تكراره، وإنما الأهم أن الرغبة في الإصلاح لم تعد بعيدة عن أذهان الشعوب العربية المقهورة، الغارقة سلطتها في الفساد والاستبداد، وهذا هو أعظم نتائج ثورة الياسمين.