في زيارة قصيرة لإحدى الأسر، جلسنا فيها مع الجدة وكنّاتها وبعض أحفادها، أعجبني ما رأيت من صفاء نفس ومحبة ووئام بين الكنّات مع بعضهنّ من جهة، وبين الكنّات والجدة –أي: الحماة- من جهة أخرى، وقد ذكرت الكنّات أنهنّ نلن نصيباً وافراً من دلال هذه الحماة لهنّ؛ ولذا فهي كالأم بالنسبة لهنّ، وهنّ كالأخوات مع بعضهنّ البعض، وما أهنأ الأسرة إذا كانت على هذه الشاكلة!
شيء آخر أعجبني وبهرني، وهو المكان نفسُه، فالجد والجدة يسكنان في بيت مستقل، ولكل واحد من أبنائهما بيت خاص يسكنه مع زوجته وأولاده، وهناك أيضاً بناء آخر يجتمع فيه الرجال، ويستقبلون فيه ضيوفهم، والمساحات الشاسعة التي تفصل كل بناء عن الآخر، يلعب فيها الأطفال، مع وجود مساحات خضراء، تضفي على المكان جمالاً ونداوة، وكل هذا البناء وما يحوي مُحاط بسور، وكأنه مجمّع سكني لهذه الأسرة فقط.
في هذا الجو الأسري الحميم ينشأ الولد، بين أجداده وأعمامه وأولاد أعمامه، مع الحفاظ على استقلالية وخصوصية كل عائلة، ولكن بوجود روابط قوية تجمعهم.
ولكن ماذا عن البنات؟ أخبرتنا الجدة أن زوجها –أي: الجد- بنى لبناته المتزوجات لكل واحدة منهن بيتاً تسكنه مع زوجها وأولادها، وفي مكان قريب منهم، ويبدو أنه أراد بذلك أن يساوي في العطية ويعدل بين أولاده، ليكونوا له في البر سواءً، والله وسّع على هذا الأب فوسّع على أولاده، ولم يُقَتِّر عليهم، هذا عدا المعايير الإنسانية التي في الأسرة.
فلله در هذه الأسرة، ويا حسرة على الأسر التي لا تعرف التراحم، ولا تعرف المعاني الإنسانية الطريقَ إلى قلوب أفرادها!
ويا حسرة على الأب الذي يضيق على أولاده، والذي يميز ولا يعدل بينهم! كذلك الأب الذي وزّع ثروته من محلات وعقارات على أولاده الذكور، وحرم بناته، في حياته وقبل وفاته، فما كان من أبنائه إلا أن ألقوه في الشارع، بعد أن استولى كل واحد منهم على حصته، فذهب الأب يجر ثوب الخزي والندامة إلى إحدى بناته، فاستضافته هي زوجها لكرم أخلاقهما.
الأب في القصة الأولى، والأب في القصة الثانية، كانا من الأثرياء، ولكن لا أعلم ما ثقافة كل منهما، ولكني أظن أن الأول صاحب ثقافة إنسانية، وأما الثاني فيبدو أنه من أصحاب ثقافة الطين!
هذان صنفان من الآباء، والأصناف غيرهما كثيرة، فمن أي الأصناف ترتضي لنفسك أن تكون أيها الأب؟ وبماذا تتمنى أن يذكرك أولادك بعد مماتك؟