انفصال جنوب السودان "خسارة مصرية"
في أمر خطير جدا مثل انفصال جنوب السودان يجب أن نتعامل مع الأمور بروح جادة وقوية وجذرية، ليست مرحلية أو على طريقة المسكنات أو تأجيل المواجهة للحقائق المريرة.
يجب بداية أن نعترف أن الجريمة التي ارتكبتها حكومة الثورة في عام 1956 حين قبلت انفصال السودان، كان معناه أن يتم تفكيك السودان عاجلا أم آجلا، وإذا كان الأمر قد استغرق 54 عاما ليبدأ مسلسل تفكيك السودان، فإنه كان محصلة طبيعية مهما طال الزمان، لأن مصر بدون السودان دولة ناقصة المكونات والمقومات، والسودان بدون مصر دولة بلا مقومات على حد تعبير المؤرخ المصري المعروف عبد الرحمن الرافعي، وكذا فإن مفاوضات الاستقلال المصري عن الاحتلال الإنجليزي تحطمت دائمًا على صخرة السودان، حيث كان الإنجليز يعرضون هذا الاستقلال بشرط فصل السودان عن مصر، واتفق جميع الفرقاء والسياسيون في ذلك الوقت من ملك وأحزاب أغلبية وأقلية على أن ذلك خط أحمر، وعبَّر النحاس باشا زعيم حزب الأغلبية في ذلك الوقت عن ذلك بقوله: تقطع يدي ولا تفصل السودان عن مصر.
ويجب أيضا أن نعترف أن قيام دولة في الجنوب يعني إطلاق يد إسرائيل في ذلك البلد الوليد نظرا للعلاقات التاريخية بين حركة التمرد التي أصبحت حكومة الآن وإسرائيل، وهو ما فضحته أكثر من وثيقة معروفة وكتب صادرة وزيارات متبادلة بين رموز حركة التمرد وإسرائيليين، ومنها كتاب موشي فرجي عن علاقة إسرائيل بحركة التمرد، والذي تحدث فيه عن أهداف ووسائل إسرائيل في هذا الصدد، وكذلك اعترف رئيس حكومة الجنوب سلفاكير عن إمكانية قيام سفارة إسرائيلية في جوبا على غرار السفارة الإسرائيلية في مصر والأردن، رغم الفارق طبعا الذي لا يبرر قيام سفارة في جوبا.
يجب أيضا أن نعترف أن الواقع القريب يقول أن دولة الجنوب ستكون مستقرة مؤقتًا، فهي تملك جيشًا قويًّا ربما أقوى من جيش دولة الشمال الآن، وهي قد استطاعت أن تحل المشاكل مع القوى الرافضة لقيادة الدنيكا كالشلك أو غيرهم، بل إن المسلمين في الجنوب الذين يشكلون 17% من السكان أعلنوا تأييدهم للانفصال، على عكس الشمال الذي يعاني من انقسام سياسي جاد ومشاكل في دارفور وغيرها، والمتوقع أن يحدث المزيد من تفكك السودان، وهذا هو السيناريو الأخطر على مصر، لأن المزيد من الانقسام يعني ضياع أوراق مصر القوية في النيل والاستقرار، ويفتح الباب للفوضى في المنطقة، ولعلنا لا نبالغ حين نقول أن توقيت الانفصال جاء في وقت ضعفت فيه مصر إلى حد كبير بحيث لا يمكنها أن تلعب دولا في منعه بالقوة أو النفوذ السياسي، والأكثر إثارة للانتباه وقوع حادث إرهابي بالإسكندرية قبيل انفصال الجنوب لشل حركة مصر تمامًا!!
ويجب أن نعترف أيضا أن مصر قصرت تقصيرًا كبيرًا حين وافقت على اتفاقية ماشاكوس، فكان يمكنها وقف المسألة من البداية لو كانت عارضت الاتفاقية بقوة، وفي أقل الأحوال كان على مصر أن تشترط في تلك الاتفاقية على أن تعترف دولة الجنوب إذا كانت قبل حقوق مصر في مياه النيل وفي كل الاتفاقيات التي وقعتها السودان بهذا الصدد، بحيث لا تفاجأ مصر بموقف جديد من تلك الدولة الجديدة.
وعلى المستوى الاستراتيجي والمتوسط المدى أو الطويل المدى فإن الأمور لن تستقر في المنطقة كلها، وإذا كانت حكومة الجنوب قد نجحت في حل المشاكل السياسية داخل الدولة الجديدة فإن الاعتداء العرقي والقبائلي لسكان جنوب السودان مع قبائل وأعراق في كل من إثيوبيا وكينيا والكونغو وأوغندا يعني أن هناك مشاكل عرقيَّة ستظهر ستضرب استقلال كل هذه الدولة، وكذا فإن نشأة دولة إفريقيَّة إفريقيَّة جديدة على عكس العُرف المتبع في هذا الصدد باحترام الحدود التي تركها الاستعمار يعني أننا أمام انقسامات متوقَّعة في نيجيريا وساحل العاج والسودان وتشاد بل وإثيوبيا وكينيا وأوغندا, وإذا أضفنا إلى ذلك الفوضى في الصومال والتفكيك القادم في اليمن, وأوضاع الجزائر وتونس وموريتانيا والنيجر لقلنا أن الذين دفعوا جنوب السودان للانفصال مثل الولايات المتحدة والغرب, قد ارتكبوا حماقة كبيرة؛ لأن الإرهاب مرشح للاتساع في مثل هذا التشرذم من موريتانيا إلى الصومال واليمن، وهو أمر من الصعب السيطرة عليه حتى لو حشدت الولايات المتحدة الأمريكية 10 ملايين جندي, وهي لن تقدر على حشد عشر معشار هذا العدد بالنظر إلى ورطتها في أفغانستان والعراق.
الخاسر الأكبر هو مصر في أمنها المائي والاستراتيجي على المدى القريب, ولكن العالم الغربي والولايات المتحدة سيدفعون ثمن الفوضى التي تسببوا فيها عن طريق انتشار رقعة الإرهاب والهجرة غير الشرعيَّة.
ولن يوقف هذا السيناريو المأساوي من تفكك السودان وربما تفكك مصر واليمن ودول افريقية أخرى وانتشار الإرهاب والهجرة غير الشرعية إلا بقيام وحدة كاملة بين مصر والسودان, يعطي الدولتين مقومات الحياة, ولو حدث ذلك لكان إنقاذا للعالم من ويلات, لم يقدرها سياسيو حتى الآن بصورة صحيحة, لأن هذا العالم وخاصة الغربي والأمريكي ينفقون أموالهم على الانفصال، وسوف تكون عليهم حسرة إن شاء الله.
ولكن المشكلة هل السَّاسة في كل من مصر والسودان يمتلكون الجرأة لفعل هذا الأمر الذي يمنع الكارثة قبل فوات الأوان...
الله تعالى أعلم.