معركة الحجاب في تركيا.. أردوغان يقترب من الانتصار
انفراجة تلو الأخرى تشهدها معركة الحجاب المستعرة في تركيا بين العلمانيين بزعامة الجيش والأحزاب العلمانية (على رأسهم حزب الشعب المعارض) من جهة وحزب العدالة والتنمية الحاكم ذي الجذور الإسلامية بزعامة رجب طيب إردوغان من جهة والذي استطاع في الآونة الأخيرة أن يتخذ خطوات تمهد لرفع الحظر عن الحجاب كليا في البلد الإسلامي ذي النظام العلماني.
وتعتبر التعديلات الجديدة على اللوائح الخاصة بملابس العاملين في شركة الخطوط الجوية التركية والتي تتيح للموظفات ارتداء حجابهن دون أدنى مشكلة أحدث انفراجة في الحصار على ارتداء الحجاب في المؤسسات الرسمية والحياة العامة في تركيا.
وبموجب التعديلات الجديدة التي تم الإعلان عنها الأسبوع الماضي فقد اختفت المادة التي تقول: "يجب الكشف عن الشعر بصفة دائمة خلال العمل"، وهو ما يسمح للموظفات المحجبات العمل بحجابهن بالشركة الجوية التي تملك الدولة فيها حصة قدرها 49.12% وتعد رابع أكبر شركة طيران في أوروبا.
وكانت الموظفات المحجبات بالشركة اللواتي تعملن على الأرض خارج الطائرة يضطررن إلى خلع الحجاب قبل الدخول إلى العمل. وتتعلق التعديلات بالموظفات اللواتي لا يشترط لهن ملبس موحد مخصص للعمل مثل المضيفات اللواتي يخضعن للائحة منفصلة.
وتأتي التعديلات الأخيرة بعد انتصارات أو انفراجات سابقة في الطريق نحو رفع الحظر عن الحجاب وكان أبرزها قرار مجلس التعليم العالي بمنع أساتذة الجامعات من طرد أي طالبة محجبة من قاعة الدراسة، على أن يخضع من يخالف ذلك منهم لتحقيق رسمي.
هذا فضلا عن ظهور خير النساء، عقيلة الرئيس التركي عبد الله جول، بحجابها في الاحتفال الرسمي للدولة بعيد إعلان الجمهورية، وهي أول مرة تظهر مرأة محجبة في هذا الاحتفال المعتاد أن يحضره قادة الجيش وقادة الدولة، حيث تمنع التقاليد التركية منذ سنوات طويلة زوجات المسئولين في الدولة، إن كنَّ محجبات، من حضور أي مناسبة رسمية يشارك فيها العسكر، باعتبار أن هذا "انتهاك" لمبدأ علمانية الدولة.
وكانت خير النساء أول امرأة محجبة تتسيد قصر الحكم منذ سقوط نظام السلطنة العثمانية وإعلان الجمهورية العلمانية على يد مصطفى كمال أتاتورك عام 1923.
وجاء تلميح إردوغان في تصريحات له بإمكانية دخول محجبة البرلمان ليؤشر لانفراجة جديدة قد تشهدها معركة الحجاب في المستقبل، فبسؤال إردوغان قبل نحو شهر عن احتمال وصول محجبة الى البرلمان بعد الانتخابات التشريعية في يونيو 2011 ، أجاب "في السياسة كل شيء ممكن" وهو ما أثار تساؤل صحف تركية عن مغزى هذه التصريحات علماً أن الحجاب ممنوع في المباني الرسمية التركية باسم العلمانية.
وذكّرت هذه الصحف بحادثة منع نائبة إسلامية بحزب الفضيلة الذي كان يقوده الإسلامي البارز نجم الدين أربكان بعد انتخابها عام 1999 من أداء القسم وقتها، وتم طردها من البرلمان لأنها محجبة، متسائلة (الصحف) هل سيختلف الأمر في الانتخابات القادمة وتتمكن المحجبات من دخول البرلمان بعد تلميحات إردوغان.
للتذكير، حينها صرخ العلمانيون بوجهها في البرلمان وطالب رئيس الوزراء الراحل بولنت أجاويد بطردها من البرلمان وقررت المحكمة ذلك ثم أسقطت الحكومة الجنسية التركية عنها بعد 11 يوماً فقط من دخولها البرلمان، ولاحقتها الشرطة والصحافة وتم نشر مكالماتها الهاتفية في الصحف ومضايقة بناتها ولم تعد آمنة في تركيا حتى اضطرت للهجرة إلى الولايات المتحدة التي تحتفظ بجنسيتها أيضاً، لكنها الآن عادت للكتابة في كبريات الصحف التركية، وأصبح لها حضورها الثقافي الواضح.. الوضع تغير الآن بعد أن هيمن الإصلاحيون ذوو الجذور الإسلامية على المشهد السياسي التركي مع مجيء حزب العدالة والتنمية التركي قبل ثماني سنوات.
ومن المتوقع أن يكون ملف حظر الحجاب من الملفات الساخنة في الأشهر القادمة في تركيا؛ حيث يستعد حزب العدالة والتنمية لوضع دستور جديد للبلاد إذا ما فاز في الانتخابات التشريعية عام 2011، وهو الدستور العسكري الذي استغله انقلابيو 1997 لوضع تشريع يحظر ارتداء الحجاب.
ورغم أن العلمانيين دائما ما يتهمون حزب العدالة بأن لديهم "أجندة إسلامية خفية تعيد تركيا لعهود الظلام"، وأن حظر الحجاب لازم للدفاع عن الجمهورية العلمانية التي أسسها مصطفى كمال أتاتورك عام 1923 على أنقاض السلطنة العثمانية ذات الحكم الإسلامي، إلا أن حزب الشعب الذي يعد أشد الأحزاب العلمانية أبدى في الأشهر الماضية إشارات لرغبته في حل مشكلة الحجاب متعهدا بذلك إذا وصل الحكم، وهو ما فسرته حكومة إردوغان بأنها دعاية انتخابية لكسب أصوات المتدينين في الانتخابات المقبلة.
ويعتبر الحجاب في تركيا قضية قديمة بدأت كمشكلة مع سلسلة الإجراءات التي صدرت في عهد مؤسس الجمهورية التركية العلمانية مصطفى كمال أتاتورك (1923- 1938) عندما اتجه إلى فرض مجموعة من الجوانب المتعلقة بالثياب على المواطن التركي، وذلك في إطار تطلعه إلى قطع صلة بلاده بالإسلام كهوية حضارية وإلحاقها بالغرب, فكانت سلسلة الأوامر المتعلقة بمنع ارتداء الطربوش والحجاب وأنواع من اللباس الطويل لصالح أنواع أخرى تظهر التركي بالمظهر المنسجم مع ما هو سائد في الغرب باعتبار أن الأخير هو النموذج الحضاري المنشود والنهائي.
وبرزت قضية الحجاب كقضية سياسية في تركيا عقب الانقلاب العسكري الذي قام به الجنرال كنعان أيفرين يوم 12 سبتمبر 1980 حيث تم بعد ذلك ليس منع المحجبات من دخول الجامعات فقط بل من سائر المعاهد والمدارس وباقي مؤسسات الدولة, وهو أمر زاد من معاناة المحجبات في البلاد في وقت تقول فيه التقارير إن عدد الطالبات اللواتي اضطررن إلى مغادرة البلاد لاستكمال دارستهن تجاوز أربعين ألف طالبة, معظمهن اتجهن إلى دول مثل أمريكا وألمانيا وهولندا والمجر وأذربيجان ومؤخرا سوريا ومصر. فيما تمسكت فتيات أخرى بتلقي التعليم داخل الجامعات التركية حيث اضطررن لارتداء القبعات أو الشعر المستعار (الباروكة) كأضعف الحلول للتحايل على قرار منع الحجاب (برغم عدم كفاية ذلك للوفاء بالحق الشرعي عليهن فيما يخص الحجاب).
وبين هؤلاء بنات بعض كبار المسؤولين بمن في ذلك ابنة رئيس الوزراء رجب طيب إردوغان التي درست في الجامعات الأمريكية التي لا تحظر ارتداء الحجاب، في حين تركيا البلد المسلم (99% من السكان مسلمون) يمنع فيها ارتداء الحجاب!
وعندما نجح حزب العدالة والتنمية عام 2008 في تمرير مشروع قانون في البرلمان (بموافقة 411 صوتا من أصل 550 مقعدا) يسمح بارتداء الحجاب في الجامعات استنفرت القوى العلمانية ونجحت عبر المحكمة الدستورية العليا في إبطال مفعول القانون رغم مصادقة رئيس الجمهورية عبد الله جول, وهكذا تحولت قضية الحجاب في تركيا إلى قضية سياسية بامتياز, خيضت من أجلها العديد من المعارك السياسية.
لكن توالت الانفراجات في معركة الحجاب بعد النجاح الكبير لحزب العدالة والتنمية في الاستفتاء الدستوري الأخير والذي تم بموجبه تعديل 26 مادة من الدستور تتعلق جلها بالجسم القضائي والمحاكم المدنية والحريات الفردية، حيث أصبح هناك مناخ جديد في البلاد يشي بإمكانية إيجاد حل لقضية الحجاب في تركيا عبر حل دستوري.
فإردوغان بحسب المراقبين لا يفكر بتشريع قانون خاص في قضية الحجاب بقدر ما يفكر بإعداد دستور جديد شامل بعد الانتخابات البرلمانية المقبلة يتم فيه رفع الحظر بالكامل عن الحجاب.
وينظر حزب العدالة والتنمية ومعه باقي القوى الإسلامية إلى مسألة رفع الحظر عن ارتداء الحجاب في إطار الحرية الشخصية والدينية التي تكفلها القوانين التركية والأوروبية, كما أنها تشكل نوعا من المصالحة التاريخية بين المجتمع والدولة عبر رفع الإجراءات القسرية التي فرضت على المواطنة التركية وهويتها الاجتماعية الحضارية باسم العلمانية منذ تأسيس الجمهورية التركية عام 1923.
بينما ترى القوى العلمانية ولا سيما الجيش أن حزب العدالة والتنمية يريد من وراء هذه الخطوة وغيرها أسلمة المجتمع والدولة تدريجيا وتحقيق ثورة إسلامية مضادة، بما يعني كل ذلك القضاء على الأسس التي قامت عليها الجمهورية التركية, بل إن بعض الأوساط المتطرفة تذهب إلى حد القول إن حزب العدالة يخطط للعودة بالبلاد إلى نظام الخلافة الإسلامية.
وفي النهاية هل يستطيع حزب العدالة بزعامة إردوغان بعد الانتخابات القادمة الانتصار على الأتاتوركيين العلمانيين في هذه المعركة الشرسة من خلال وضع نهاية لمنع الحجاب في بلد إسلامي؟