كم بعت العراق رخيصاً يا سيستاني
ليؤذن المؤذن بينكم، "أيها الملالي إنكم لخائنون".. فما أعظم من خيانة أمة تشهد الشهادتين، يسع بذمتها أدناها وهي يد على من سواها..
قبل أن يقول شيعته لا تصدقوا رامسفيلد إنه كذاب، وأن كل ما احتوته مذكرات وزير الدفاع الأمريكي الأسبق من إدانة واضحة لسلوك المرجع الأعلى للشيعة في العراق وكثير من دول العالم، هي محض اختلاقات وتخرصات من رجل يكره الإيراني السيستاني ودولته، ويبادل شيعة السيستاني بغضاً ببغض وهم يهتفون بكل جوارحهم ويصرخون بحناجرهم "الموت لأمريكا"، وعليه فإن من يوالي النبي وعترته لا يمكن أن يخون أمته ويرتمي في أحضان "الشيطان الأكبر"، وستصدر البيانات نافية بل بدأت بالفعل بالصدور؛ فإن الجدير بهم التريث قليلاً في التعاطي السلبي مع مذكرات رامسفيلد، وأن يمنحوا عقولهم فرصة لتصديق اعترافاته، لأن الرجل استطاع تغيير قناعة غدت راسخة عند معظم ساكني الإقليم، كانت تسيء بشدة إلى السيستاني باعتباره سلّم العراق للأمريكيين بلا ثمن، بينما الشهادة الأخيرة تفيد بأن الثمن كان مائتي مليون دولار نظير إصدار فتوى واحدة، ناهيكم عن فتاويه بشأن التصويت على الانتخابات البرلمانية في دوراتها المختلفة ودوره في معركة النجف وتمكنه من لعب دور رمانة الميزان بين القوى الشيعية المختلفة على كعكعة النفط وغيرها في العراق.
الثمن ليس هيناً في نطاقه الشخصي والحوزوي، والمبرر سيساق، وماذا سنفعل ما دام العراق كان مصيره الغزو شئنا أم أبينا؟! لكنه عند النظر له بمعياره الديني والأممي سيكون بخساً في صفقة أقل ما يقال عنها أنها كانت حقيرة (إذا سلمنا بشهادة رامسفيلد).
وإذا كان رامسفيلد قد أكد على سهولة الوصول إلى مقر السيستاني برغم احتجابه عن الناس لأسباب تتعلق بطقس "الستر" الذي يمنح بموجبه كبار رجال الحوزة الشيعية هالة تقديس وغموضاً يساهم في صنع الكاريزما الفريدة ويمنح البسطاء فرصتهم في إضفاء رمزية غير محسوبة لديه بما يوفر الخيال الخصب لكل صاحب وهم من تصورات، وإذا كان قد نوه إلى أحضان السيستاني وقبلاته التي يضن بمثلها على "النواصب" و"التكفيريين" و"الصداميين" و"الوهابيين" مثلما تملي عليه عقيدته؛ فإن ما نطقت به مذكرات دونالد رامسفيلد حول قدم العلاقة والوسيط الذي مثل حلقة الوصل بين "الآية العظمى" و"القوة العظمى"، هو أهم بكثير من فضيحة المائتي مليون دولار، فلقد صارت العلاقة الأمريكية/الإيرانية معروفة لكل مراقب لشؤون العراق وشجونه، ولم يعد في الأمر سر كبير، عدا حجم الصفقة وبعض تفاصيلها، و"التكييفات الفقهية" التي سمحت ببيع العراق للولايات المتحدة و"إسرائيل" بأي ثمن فضلاً عن أن يكون بخساً كهذا.
صحيح أن السيستاني وأتباعه قد حصلوا على أكثر من مجرد هذه الملايين كحكام بأمر واشنطن ولندن وتل أبيب وطهران إلا أن حجم "الهدية" يبدو هيناً بل رخيصاً إلى درجة غير متصورة في صفقة بموجبها دولة فتحها الصحابة وآل البيت رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.
على أن ذلك يتضاءل في أهمية نشره مع الحديث عن البداية وعن حلقة الوصل التي قربت بين "الصديقين"، البروتستاني المحافظ معلم التوراة وواعظ الإدارة الأمريكية إبان حكم بوش، وصاحب اللقب الأثير في العراق زعيم حوزتها الصامتة، وهو وكيله في الكويت، الذي تحكي المذكرات ـ ولعلها صادقة ـ أنها قد بدأت عام 1987 أي قبل ثلاث سنوات من غزو العراق للكويت، بما يشي بأن الإدارة الأمريكية قد أولت "الحكام الإيرانيين" القادمين مستقبلاً في العراق أهمية خاصة، قبل أن تبدأ خدعة السفيرة الأمريكية، وقبل أن تفجر قنبلة حقل الرميلة، بل قبل انتهاء الحرب الإيرانية العراقية ذاتها في العام 1988، وفي الوقت الذي كانت تدعي فيه أمريكا أنها حليفة للعراق في حربه ضد إيران، بل في الوقت الذي وصف لدوره رامسفيلد بأنه كان "مهندس العلاقات الأمريكية العراقية" على حد تعبير واشنطن بوست قبل ثماني سنوات.. فما الدور إذن الذي قام به السيستاني ووكيله في الكويت في هذا الوقت بالذات (إن صحت شهادة رامسفيلد)؟!
الأخطر، هو في الشق الأمريكي وبعيداً عن التلاسن المذهبي ـ إن جاز التعبير ـ، دعونا من ذكر السنة والشيعة الآن، لنعبر إلى الشق الآخر من "الفضيحة"، وهو ما يخص الأمريكيين أنفسهم، ومع تسليمنا ببراجماتيتهم غير المحدودة، دعونا ننعش ذاكرتنا جيداً حول أكذوبة ضرب إيران، ومنعها من امتلاك الأسلحة النووية، ومنعها من مد نفوذها في دول الجوار الخليجية، ودون النظر إلى الوكيل الكويتي، لنسأل عن حجم الثقة التي توافرت لدى الأمريكيين عن "صدق نوايا الأصدقاء الإيرانيين"، وما الذي طمأن واشنطن لدفع هذه الأموال الطائلة لرجل ربما ـ أقول ربما ـ تستجاش لديه "العاطفة الدينية" فيأخذ من الأمريكيين ولا يعطيهم.. هل هي إذن لحظة عارضة أم وحدة الهدف وإدراك لمتانة العلاقة المبدئية وحتى الدينية التي يمكن التعويل عليها في ضمان تحقيق مآرب الأمريكيين.
إن الولايات المتحدة الأمريكية ليست دولة شمولية فردية تتدفق من خزائنها هذه الأموال الضخمة ـ نسبياً ـ دون رقيب أو مساءلة أو حتى ضمانة وثيقة لنبتلع مسألة احتمال المخاطرة فيما تصنع، ولديها مؤسسات يمكنها أن تعد على رامسفيلد وفريقه أنفاسهم في حال بعثروا أموال فيدرالية لـ"عملاء ظنيين"، وهو ما يدعونا للقول، إنه لو كان رامسفيلد كاذباً فلن تعفيه الأجهزة الرقابية من المساءلة لأنه لا يتصور أن كتب هزلاً في مذكراته، وهو السياسي/العسكري المخضرم، وهو ما يحفزنا كله للقول إنه لو وضعت كل وثائق ويكيليكس في كفة ووثيقة رامسفيلد الجديدة في كفة لطاشت الأولى بسهولة، ولو وضعت فضيحة وكيل السيستاني الأخلاقية التي دارت على كل جهاز كمبيوتر في العمارة والبصرة والنجف، والتي رمت المرجعية بثقلها من أجل لملمة آثارها لدى المخدوعين، والفضيحة الأخيرة لرجحت هذه بلا مراء... هذا كله إن صحت مذكرات رامسفيلد.. وبريمر أيضاً.. وما رأيته أعيننا في بداية الغزو وفي الجنوب تحديداً.. وإن صح ما شاهدناه بعد الغزو وحتى اليوم..
أعود إلى نفاة القصة، ليتريثوا قليلاً ويطامنوا من احتقانهم الزائد؛ فلأن يقال قبض الثمن "أشرف" مائتي مليون مرة من أن يتردد طوال السنين الماضيات أنه قد سلمه هدية بلا مقابل!!
المسلم