(مَن كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ !)
يقول الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ}[آل عمران144].
وما محمدٌ إلا رسولٌ قد مضت من قبله الرسل، التي أرسلها الله إلى الناس تترا، أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ، وتركتم الإسلام، وأعرضتم عن رسالته ، فارين من أرض المعركة، وأنتم تعلمون أن الدعوةَ باقيةٌ والرجال يموتون، وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ متقهقرًا، ويعود إلى الجاهلية .. يجري وراء الأشخاص، ويترك الرسالة، فلا يلومنَّ إلا نفسه، وَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا، فالله غني عن العالمين، وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ الذين شكروا الله على نعمة الإسلام والرسول ، وثتبوا وصبروا ولم ينقبلوا ..
***
لقد قرأ أبوبكر – رضي الله عنه – هذه الآية، يوم أن مات رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ليذكِّر بها الناس، أن رسول الله ميتٌ وهم ميِّتون، وبينما الناسُ في جلبة وبكاء، إذ أقبل أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ عَلَى فَرَسٍ مِنْ مَسْكَنِهِ ـ بِالسُّنْحِ[1] ـ حَتَّى نَزَلَ فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَلَمْ يُكَلِّمْ النَّاسَ ، حَتَّى دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ، فَتَيَمَّمَ رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَهُوَ مُغَشًّى بِثَوْبِ حِبَرَةٍ، فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ، ثُمَّ أَكَبَّ عَلَيْهِ فَقَبَّلَهُ وَبَكَى، ثُمَّ قَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي! وَاللَّهِ لا يَجْمَعُ اللَّهُ عَلَيْكَ مَوْتَتَيْنِ ! أَمَّا الْمَوْتَةُ الَّتِي كُتِبَتْ عَلَيْكَ فَقَدْ مُتَّهَا[2] !
ثم خرج أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ إلى الناس، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يُكَلِّمُ النَّاسَ، ويتهدد من زعم أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ مات ! ويقول: إنه لم يمت، إنما ذهب إلى ربه كما ذهب موسى أربعين ليلة ...
وحاول أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ أن يسكت عمرَ، فأبى عمرُ، وواصل ترديد هذه الكلمات...فَقَالَ أبو بكر: اجْلِسْ يَا عُمَرُ، فَأَبَى عُمَرُ أَنْ يَجْلِسَ ...
وفي ثبات منقطع النظير، أقبل أبو بكر على الناس خطيبًا، وأقبلوا إليه وتركوا عمرَ ..
وفي ثقة تسحق الشمَ الرواسي، حَمِدَ اللَّهَ أَبُو بَكْرٍ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ:
" أما بعد "
ـ وأنصتت الدنيا لأبي بكر الصديق، الذي يزن إيمانُه إيمان الأمم، فكانت كلمةً وأي كلمةٍ، وكانت وصيةً، وأي وصية .. نِّعمَ الوصيةُ العملية في نهاية المسيرة النبوية الكريمة ـ:
قال: " فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ وَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لا يَمُوتُ"[3] ..
وقرأ الآية:
{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ}[آل عمران144].
قال ابن عباس – مُعقبًا على كلمة أبي بكر-: " وَاللَّهِ لَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الآيَةَ حَتَّى تَلاَهَا أَبُو بَكْرٍ - رضى الله عنه - فَتَلَقَّاهَا مِنْهُ النَّاسُ ، فَمَا يُسْمَعُ بَشَرٌ إِلاَّ يَتْلُوهَا" [4].
وقال عمر – رضي الله عنه – حينما سمعها -: "مَا هُوَ إِلاَّ أَنْ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ تَلاَهَا فَعَقِرْتُ حَتَّى مَا تُقِلُّنِى رِجْلاَىَ ، وَحَتَّى أَهْوَيْتُ إِلَى الأَرْضِ حِينَ سَمِعْتُهُ تَلاَهَا أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ مَاتَ"[5].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – معقبًا -: "والناس تغيب عنهم معاني القرآن عند الحوادث فإذا ذُكِّروا بها عرفوها"[6]
***
فضل كلمة الصدِّيق:
" مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ ، وَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَىٌّ لاَ يَمُوتُ ".
كان لكلمة الصدِّيق هذه، من الأثر العظيم في نفوس المسلمين، وهي من الكلمات البارزة في تاريخ المسلمين، إذ كانت من الأهمية بمكان في وحدة الصف، ولـمِّ الشمل حول خليفة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، ولاسيما وقد كان حادث وفاة النبي – صلى الله عليه وسلم – بمثابة الزلزال، وبهذا عرف الناس فضل أبي بكر في تلك المحنة وهو ما أشار إليه ابن بطال: " أن في ظل هذه الرزية الشنيعة والمصيبة الجليلة النازلة بالأمة من موت نبيها عرف الناسُ ثبات نفس الصديق ، ووفور عقله ومكانته من الإسلام، ما لا مطمع فيه لأحد غيره "[7]
وأشار ابن حجر، أن تلكم الكلمة أبانت: " قوة جأش أبي بكر وكثرة علمه وقد وافقه على ذلك العباس"[8].
وفيها أيضًا، بيان فضل أبي بكر على عمر، أو كما قال ابن حجر: " فيه بيان رجحان علم أبي بكر على عمر فمن دونه ، وكذلك رجحانه عليهم لثباته في مثل ذلك الأمر العظيم"[9] .
أبعاد هذه الكلمة:
قد كانت هذه الكلمةُ ترنو إلى بُعد نظر، ورجاحة عقل، وعميق فهم لطبيعة المرحلة التي يواجهها المسلمون، وأن الإسلام بعد وفاة النبي – صلى الله عليه وسلم – سيُؤتى من قبل المنافقين والمرتدين، وهو ما يلمح إليه بقوله – رضي الله عنه -: " من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات "
قال الملا علي القاري [10] في شرحها: " من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات.. أي فليس له إله فهو كافر، وفيه تعريض للمنافقين "[11] .
وكأن أبي بكر ينظر إلى وفاة النبي – صلى الله عليه وسلم – بعين، وينظر بالعين الأخرى إلى خطر المنافقين المحدق بالإسلام، وقد كانت نظرته في محلها .
قد تخطأ الجماعةُ ويصيب الفرد:
واستدل العلماء بهذا الحادث، وبتلك الكلمة على وجه الخصوص، أن الاجتهاد الصواب قد يكون في كفة الأقلِّين، غير أن الأمة لا تجتمع على ضلالة، إجماعًا، وقد كان جماهير الصحابة في ارتياب من أمر وفاة النبي – صلى الله عليه وسلم – حتى حسم أبو بكر الموقف بتلك الكلمة، قال ابن حجر:
"فيؤخذ منه أن الأقل عددًا في الاجتهاد قد يصيب، ويخطئ الأكثر، فلا يتعين الترجيح بالأكثر ولا سيمًا إن ظهر أن بعضهم قلد بعضًا "[12].
أهمية تلك الكلمة:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "عند قتل النبي وموته: تحصل فتنة عظيمة للناس - المؤمنين والكافرين - وتحصل ردة ونفاق لضعف قلوب أتباعه لموته ولما يلقيه الشيطان في قلوب الكافرين: إن هذا قد انقضى أمره وما بقي يقوم دينه . وأنه لو كان نبيا لما قتل وغلب . ونحو ذلك "[13] .
" وارتد بسبب موت الرسول - صلى الله عليه وسلم – ولـِما حصل لهم من الضعف جماعاتٌ من الناس: قوم ارتدوا عن الدين بالكلية . وقوم ارتدوا عن بعضه فقالوا: نصلي ولا نزكي . وقوم ارتدوا عن إخلاص الدين الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم – "[14] .
قلتُ: هنالك ينبغي أن يبرز الربانيون الذين كانوا ثمرة الأنبياء، ويتمموا رسالة نبيهم، ولا يبالوا من بعده بشيء، فلَكم قُتل نبيٌ، وقام الربانيون من بعده على أمر دعوته. قال تعالى:
{وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}[آل عمران146]
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " ولما قُبض النبىُ، فتزلزلت القلوب، واضطرب حبل الدين، وغشيت الذلة من شاء الله من الناس، حتى خرج عليهم الصديق - رضي الله تعالى عنه - فقال من كان يعبد محمدًا فان محمدًا قد مات ومن كان يعبد الله فان الله حى لا يموت"[15].
***
خاتمة:
والحاصل، أن كلمة الصدِّيق – رضي الله عنه -:
1ـ نزلت على نفوس المسلمين بردًا وسلامًا، فثبَّت الله به القلوب، وأنار بها العقول، في محنة تدع الحليم حيران.
2ـ أنها وضعت النقاط على الأحرف في إشكالية " الدعوة والداعية"، حيث يكون الارتباط بالرسالة لا بالأشخاص، والدعوات التي تقوم على الأشخاص؛ إنما تزول بزوال الأشخاص، أما التي خلّفت ربانيين يرتبطون بالمنهج، فهي دعوة عزيزة باقية .
3ـ وأبانت أيضًا تلك الكلمة العزيزة، أن وقت المحن، يظهر الرجال، وتبرز معادن الناس، والمعصوم من عصم الله.
4ـ كذلك أفادت تلك الكلمة، أن من البيان لسحرًا، وأن من القول ما هو أمضى من السيف، وأنه لا لطالما كانت كلماتٌ غيرت مجرى كثير من الدول والأمم .
والحمد لله .
[1] قال الإمام بدر الدين العيني – في عمدة القاري (26 / 367) - : " قوله بالسنح بضم السين المهملة وسكون النون وبضمها أيضًا وبالحاء المهملة، وهو موضع في عوالي المدينة كان للصديق مسكن ثمةٌ، ويقال : هو من منازل بني الحارث بن الخزرج بعوالي المدينة وقيل : كان مسكن زوجته "، قلتُ : " محمد " : والجميع هو الصواب .
[2] البخاري : 4097
[3] أخرجه البخاري (4454)
[4] صحيح البخاري (5 / 84)
[5] صحيح البخاري (5 / 84)
[6] مجموع الفتاوى (27 / 363)
[7] شرح صحيح البخارى (8 / 285)، بتصرف يسير.
[8] فتح الباري (8 / 146)
[9] فتح الباري (10 / 465)
[10] الملا علي القاري (ت 1014 هـ - 1606 م) علي بن (سلطان) محمد، نور الدين الملا الهروي القاري: فقيه حنفي، من صدور العلم في عصره.
ولد في هراة وسكن مكة وتوفي بها. وصنف كتبا كثيرة، منها " تفسير القرآن - خ " ثلاثة مجلدات، و " الاثمار الجنية في أسماء الحنفية " [الأعلام للزركلي (5 / 12)]
[11] شرح مسند أبي حنيفة (1 / 305)
[12] فتح الباري (8 / 146)
[13] مجموع الفتاوى (14 / 374)
[14] مجموع الفتاوى (28 / 412)
[15] مجموع الفتاوى (28 / 412)