عرفات والأضحية ويوم العيدعبد الله بن محمد البصري
ملخص الخطبة1- فضل العشر من ذي الحجة. 2- فضل يوم عرفة. 3- فضل يوم النحر. 4- فضل الأضحية وأحكامها. 5- فضل صلاة العيد وآدابها.
الخطبة الأولى
أَمَّا بَعدُ: فَأُوصِيكُم ـ أَيُّها النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ عز وجل وَتَعظِيمِ حُرُمَاتِهِ وَشَعَائِرِهِ، ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَ خَيرٌ لَهُ عِندَ رَبِّهِ، ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقوَى القُلُوبِ.
أَيُّهَا المُؤمِنُونَ، إِنَّكُم تَعِيشُونَ أَيَّامًا فَاضِلَةً جِدُّ فَاضِلَةٍ، أَيّامًا مِن أَفضَلِ الأَيَّامِ عِندَ اللهِ، بَل هي بِنَصِّ الحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَفضلُهَا، إِنها الأَيَّامُ المَعلُومَاتُ الفَاضِلاتُ التي جَعَلَ اللهُ العَمَلَ فِيهَا لَيس كالعَمَلِ في غَيرِها، يَقُولُ : ((مَا مِن أَيَّامٍ العَمَلُ الصَّالحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إلى اللهِ مِن هَذِهِ الأَيَّامِ العَشرِ))، قَالُوا: وَلا الجِهَادُ في سَبِيلِ اللهِ؟! قَالَ: ((وَلا الجِهَادُ في سَبِيلِ اللهِ، إِلاّ رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفسِهِ وَمَالِهِ فَلَم يَرجِعْ مِن ذَلِكَ بِشَيءٍ))، وَيَقُولُ : ((مَا مِن أَيَّامِ أَعظَمُ عِندَ اللهِ سُبحَانَهُ وَلا أَحَبُّ إِلَيهِ العَمَلُ فِيهِنَّ مِن هَذِهِ الأَيَّامِ العَشرِ، فَأَكثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهلِيلِ وَالتَّكبِيرِ وَالتَّحمِيدِ)).
إِنها الأَيَّامُ التي فِيهَا يَومُ عَرَفَةَ، اليَومُ التَّاسِعُ مِن ذِي الحِجَّةِ، وفي خِتَامِهَا يَكُونُ يَومُ عِيدِ الأَضحَى، يَومُ النَّحرِ وَأَوَّلُ أَيَّامِ العِيدِ. أَمَّا يَومُ عَرَفَةَ وَمَا أَدرَاكَ مَا يَومُ عَرَفَةَ فَيَكفِيهِ شَرَفًا أَن اللهَ أَقسَمَ بِهِ في كِتَابِهِ فَقَالَ: وَالفَجرِ وَلَيالٍ عَشرٍ وَالشَّفعِ وَالوَترِ، فَكَيفَ إِذَا اجتَمَعَ وَيَومَ الجُمُعَةِ، قال : ((اليَومُ المَوعُودُ يَومُ القِيَامَةِ، وَاليَومُ المَشهُودُ يَومُ عَرَفَةَ، وَالشَّاهِدُ يَومُ الجُمُعَةِ، وَمَا طَلَعَتِ الشَّمسُ وَلا غَرَبَت على يَومٍ أَفضَلَ مِنهُ، فِيهِ سَاعَةٌ لا يُوَافِقُهَا عَبدٌ مُسلِمٌ يَدعُو اللهَ بِخَيرٍ إِلاَّ استَجَابَ اللهُ لَهُ، وَلا يَستَعِيذُ مِن شَرٍّ إِلاَّ أَعَاذَهُ اللهُ مِنهُ))، وَعَنِ ابنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ: اليَومَ أَكمَلتُ لَكُم دِينَكُم الآيَةَ وَعِندَهُ يَهُودِيٌّ فَقَالَ: لَو نَزَلَت هَذِهِ الآيَةُ عَلَينَا لاتَّخَذنَاهَا عِيدًا، فَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: فَإِنها نَزَلَت في يَومِ عِيدَينِ: يَومِ جمعةٍ وَيَومِ عَرَفَةَ. وَفي يَومِ عَرَفَةَ الصِّيَامُ الذي يُكَفِّرُ سَنتَينِ: سَنَةً قَبلَهُ وَأُخرَى بَعدَهُ، بِذَلِكَ أَخبرَ النبيُّ حَيثُ قَالَ: ((صِيَامُ يَومِ عَرَفَةَ أَحتَسِبُ على اللهِ أَن يُكَفِّرَ السَّنَةَ التي قَبلَهُ وَالسَّنَةَ التي بَعدَهُ))، وَلمَّا سُئِلَ عَن صِيَامِهِ قَالَ: ((أَحتَسِبُ عَلَى اللهِ أَن يُكَفِّرَ السَّنَةَ التي قَبلَهُ وَالسَّنَةَ التي بَعدَهُ)). إِنَّ يَومَ عَرَفَةَ هو يَومُ تَنَزُّلِ الرَّحَمَاتِ، إنَّهُ اليَومُ الذي مَا رُئِيَ عَدُوُّ اللهِ إِبلِيسُ في يَومٍ هُوَ أَحقَرَ وَلا أَصغَرَ وَلا أَغيَظَ مِنهُ فِيهِ؛ وَذَلِكَ لِمَا يَرَى مِن تَنَزُّلِ الرَّحمةِ وَتَجَاوُزِ اللهِ عَنِ الذُّنُوبِ العِظَامِ. إِنَّهُ يَومُ العِتقِ مِنَ النَّارِ، فَعَن عَائِشَةَ رضي اللهُ عنها أَنَّ رَسُولَ اللهِ قال: ((مَا مِن يَومٍ أَكثَرُ مِن أَن يُعتِقَ اللهُ فِيهِ عَبدًا مِنَ النَّارِ مِن يَومِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدنُو ثم يُبَاهِي بهم الملائِكَةَ فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلاءِ)).
فَلِلهِ ذَلِكَ اليَومُ الشَّرِيفُ العَظِيمُ الذي يَقِفُ الحُجَّاجُ فِيهِ بِتِلكَ المَوَاقِفِ المُشَرَّفَةِ، وَيحظَونَ بِزِيَارَةِ تِلكَ البِقَاعِ المُطَهَّرَةِ، فَكَم مِن ضَارِعٍ بَينَهُم وَمُنكَسِرٍ! وَكَم مِن حَزِينٍ فِيهِم وَأَسِيفٍ! كَم مِن نَائِحٍ عَلَى ذُنُوبِهِ بَاكٍ عَلى عُيُوبِهِ! كَم مِن رَجُلٍ بَادَرَ اللهَ بِالتَّوبَةِ فَبَادَرَهُ بِالغُفرَانِ! وَخَطَّ بِدُمُوعِهِ كِتَابَ رُجُوعِهِ فَحَطَّ عَنهُ وِزرَ العِصيَانِ! لَيتَ شِعرِي، كَم يَنصَرِفُ ذَلِكَ اليَومَ مِنَ المَوقِفِ مِن رِجالٍ مَا عَلَيهِم مِنَ الأَوزَارِ مِثقَالُ ذَرَّةٍ! قَد مَلأَت قُلُوبَهُمُ الأَفرَاحُ وَعَلت وُجُوهَهُمُ المَسَرَّةُ!
فَيَا مَن رَأَى هَذِهِ الجُمُوعَ وَقَدِ استَدبَرَت دُنيَاهَا وَاستَقبَلَت أُخرَاهَا، وَاستَوحَشَت مِن الأَرضِ وَحَرِيقِها، وَطَمِعَت في الجِنَانِ وَرَحِيقِهَا، جَعَلَت مُنَاجاتَهَا طَرِيقًا إِلى نجَاتِهَا، وَعَبرَتَهَا سَبِيلاً إِلى عِبرَتِهَا، مِئاتُ الآلافِ تجأَرُ إلى اللهِ بِمُختَلِفِ اللُّغَاتِ، وَاللهُ سُبحَانَهُ سميعٌ بصيرٌ، لا تختَلِفُ عَلَيهِ الأَلسِنَةُ وَلا يَشغَلُهُ سُؤَالٌ عَن سُؤَالٍ.
إِنَّ يَومَ عَرَفَةَ كَالمُقَدِّمَةِ لِعِيدِ النَّحرِ، إِذْ فِيهِ يَكُونُ الوُقُوفُ وَالتَّضَرُّعُ وَالدُّعَاءُ، وَفِيهِ التَّوبَةُ والابتِهَالُ وَالاستِقَالَةُ، فَهُوَ كَالطُّهُورِ وَالاغتِسَالِ بَينَ يَدَي يَومِ النَّحرِ، وَفِيهِ يَكُونُ أَفضَلُ الدُّعَاءِ وَأَرجَى المَسأَلَةِ، قال عليه الصلاةُ والسلامُ: ((خَيرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَومِ عَرَفَةَ، وَخَيرُ مَا قُلتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِن قَبلِي: لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ لَهُ المُلكُ وَلَهُ الحَمدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ)).
أَمَّا يَومُ النَّحرِ فَهُوَ يَومُ الوِفَادَةِ وَالزِّيَارَةِ؛ وَلَذَا سُمِّيَ طَوَافُهُ طُوَافَ الزِّيَارَةِ؛ لأَنهم قَد طُهِّرُوا مِن ذُنُوبِهِم يَومَ عَرفَةَ، ثم أَذِنَ لهم رَبُّهُم يَومَ النَّحرِ بِزِيَارَتِهِ وَالدُّخُولِ إلى بَيتِهِ. إِنَّهُ يَومُ الحَجِّ الأَكَبرِ الذِي تَقَعُ فِيهِ أَكثَرُ أَعمَالِ الحَجِّ مِنَ الحُجَّاجِ، وَفِيهِ يَتَقَرَّبُ سَائِرُ أَهلِ الأَمصَارِ إِلى اللهِ بِالصَّلاةِ وَالنَّحرِ وَالذِّكرِ، وَهُوَ يَومٌ عِندَ اللهِ عَظِيمٌ، يَرَى بَعضُ أَهلِ العِلمِ أَنَّهُ أَفضَلُ أَيَّامُ السَّنَةِ، وَأَنَّهُ أَفضَلُ حتى مِن يَومِ عَرَفَةَ، لِمَا في السُّنَنِ عنه أَنَّهُ قال: ((إِنَّ أَعظَمَ الأَيَّامِ عِندَ اللهِ يَومُ النَّحرِ ثم يَومُ القَرِّ))، وَيَومُ القَرِّ هُوَ يَومُ الاستِقرَارِ في مِنى، وَهُوَ اليَومُ الحَادِيَ عَشَرَ. وَسَوَاءٌ كَانَ يَومُ العِيدِ أَفضَلَ أَم يَومُ عَرَفَةَ فَإِنَّ كِلَيهِمَا يَومَانِ فَاضِلانِ عَظِيمَانِ كَرِيمَانِ، وَاقِعَانِ في أَيَّامٍ عَظِيمَةٍ شَرِيفَةٍ، لا يَقدُرُهَا حَقَّ قَدرِهَا إِلاَّ المُوَفَّقُونَ الأَتقِيَاءُ، وَلا يُحرَمُ مِن فَضلِهَا إِلاَّ المحرومُونَ الأَشقِيَاءُ. وَعَن يَومِ عَرَفَةَ وَالعِيدِ وَأَيَّامِ التَّشرِيقِ قَالَ عليه الصلاةُ والسلامُ: ((يَومُ عَرَفَةَ وَيَومُ النَّحرِ وَأَيَّامُ التَّشرِيقِ عِيدُنَا أَهلَ الإِسلامِ، وَهِيَ أَيَّامُ أَكلٍ وَشُربٍ)).
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، وَمِن أَعظَمِ شَعَائِرِ يَومِ العِيدِ وَأفضَلِ الأَعمَالِ وَأَحَبِّهَا إلى اللهِ تعالى فِيهِ وفي أَيَّامِ التَّشرِيقِ ذَبحُ الأَضاحِي وَالتَّقَرُّبُ إلى اللهِ بِإِهرَاقِ دِمَائِهَا، يَقُولُ سُبحَانَهُ: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانحَر. وَالأُضحِيَةُ مَشرُوعَةٌ بِاتِّفَاقِ المُسلِمِينَ بِلا خِلافٍ بَينَهُم، وَذَبحُ الهَدَايَا وَالأَضَاحِي مِن شَعَائِرِ هَذَا الدِّينِ الظَّاهِرَةِ، بل هِيَ مِنَ العِبَادَاتِ المَشرُوعَةٍ في كُلِّ المِلَلِ، فَعَلَهَا إِبرَاهِيمُ أَبُو الأَنبِيَاءِ فِدَاءً لابنِهِ إِسمَاعِيلَ عَلَيهِمَا السَّلامُ، وَسَنَّهَا نَبِيُّنَا محمدٌ وَحَثَّ أُمَّتَهُ عَلَيهَا، قال أَنَسٌ رَضِيَ اللهُ عنه: ضَحَّى النبيُّ بِكَبشَينِ أَملَحَينِ أَقرَنَينِ، ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ وَسَمَّى وَكَبَّرَ، وَوَضَعَ رِجلَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا. وَهِيَ مَطلُوبَةٌ في وَقتِهَا مِنَ الحَيِّ عَن نَفسِهِ وَعَن أَهلِ بَيتِهِ، وَلَهُ أَن يُشرِكَ في ثَوَابِهَا مَن شَاءَ مِنَ الأَحيَاءِ وَالأَموَاتِ. قال الشَّيخُ محمدُ بنُ صالحٍ العُثيمينُ رحمه اللهُ: "الأَصلُ في الأُضحِيَةِ أَنَّهَا مَشرُوعَةٌ في حَقِّ الأَحيَاءِ، كَمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ وَأَصحَابُهُ يُضَحُّونَ عَن أَنفُسِهِم وَأَهلِيهِم، وَأَمَّا مَا يَظُنُّهُ بَعضُ العَامَّةِ مِنِ اختِصَاصِ الأُضحِيَةِ بِالأَموَاتِ فَلا أَصلَ لَهُ، وَالأُضحِيَةُ عَنِ الأَموَاتِ على ثَلاثَةِ أَقسَامٍ: الأَوَّلُ: أَن يُضَحِّيَ عَنهُم تَبَعًا لِلأَحيَاءِ، مِثلُ أَن يُضَحِّيَ الرَّجُلُ عَنهُ وَعَن أَهلِ بَيتِهِ، وَيَنوِيَ بهمُ الأَحيَاءَ وَالأَموَاتَ، وَأَصلُ هَذَا تَضحِيَةُ النبيِّ عَنهُ وَعَن أَهلِ بَيتِهِ، وَفِيهِم مَن قَد مَاتَ مِن قَبلُ. الثَّاني: أَن يُضَحِّيَ عَنِ الأَموَاتِ بِمُقتَضَى وَصَايَاهُم تَنفِيذًا لها، وَأَصلُ هَذَا قَولُهُ تعالى: فَمَن بَدَّلَهُ بَعدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. الثَّالِثُ: أَن يُضَحِّيَ عَنِ الأَموَاتِ تَبَرُّعًا مُستَقِلِّينَ عَنِ الأَحيَاءِ، فَهَذِهِ جَائِزَةٌ، وَقَد نَصَّ فُقَهَاءُ الحَنَابِلَةِ على أَنَّ ثَوَابَهَا يَصِلُ إِلى المَيِّتِ وَيَنتَفِعُ بها، قِيَاسًا عَلَى الصَّدَقَةِ عَنهُ، وَلَكِنْ لا نَرَى أَنَّ تَخصِيصَ المَيِّتِ بِالأُضحِيَةِ مِنَ السُّنَّةِ؛ لأَنَّ النبيَّ لم يُضَحِّ عَن عَمِّهِ حمزَةَ وَهُوَ مِن أَعَزِّ أَقَارِبِهِ عِندَهُ، وَلا عَن أَولادِهِ الذين مَاتُوا في حَيَاتِهِ، وَهُنَّ ثَلاثُ بَنَاتٍ مُتَزَوِّجَاتٍ وَثَلاثَةُ أَبنَاءٍ صِغَارٍ، وَلا عَن زَوجَتِهِ خَدِيجَةَ وَهِيَ مِن أَحَبِّ نِسَائِهِ، وَلم يَرِدْ عَن أَصحَابِهِ في عَهدِهِ أَنَّ أَحَدًا مِنهُم ضَحَّى عَن أَحَدٍ مِن أَموَاتِهِ. وَنَرَى أَيضًا مِنَ الخَطَأِ مَا يَفعَلُهُ بَعضُ النَّاسِ، يُضَحُّونَ عَنِ المَيِّتِ أَوَّلَ سَنَةٍ يمُوتُ أُضحِيَةً يُسَمُّونَهَا أُضحِيَةَ الحُفرَةِ، وَيَعتَقِدُونَ أَنَّهُ لا يجُوزُ أَن يُشرَكَ مَعَهُ في ثَوَابِها أَحَدٌ، أَو يُضَحُّونَ عَن أَموَاتِهِم تَبَرُّعًا أَو بِمُقتَضَى وَصَايَاهُم، وَلا يُضَحُّونَ عَن أَنفُسِهِم وَأَهلِيهِم، وَلَو عَلِمُوا أَنَّ الرُّجُلَ إِذَا ضَحَّى مِن مَالِهِ عَن نَفسِهِ وَأَهلِهِ شَمِلَ أَهلَهُ الأَحيَاءَ وَالأَموَاتَ لَمَا عَدَلُوا عَنهُ إِلى عَمَلِهِم ذَلِكَ" انتهى كَلامُهُ رحمه اللهُ.
وَيُضَحِّي الرَّجُلُ بِالشَّاةِ الوَاحِدَةِ عَنهُ وَعَن أَهلِ بَيتِهِ وَإِنْ كَثُرَ عَدَدُهُم أَو تَفَاوَتَت دَرَجَةُ قَرَابَتِهِم، قَالَ أَبُو أَيُّوبَ رضي اللهُ عنه: كُنَّا نُضَحِّي بِالشَّاةِ الوَاحِدَةِ، يَذبَحُهَا الرَّجُلُ عَنهُ وَعَن أَهلِ بَيتِهِ ثم تَبَاهَى النَّاسُ بَعدُ فَصَارَت مُبَاهَاةً.
ثم إِنَّ لِلأُضحِيَةِ شُرُوطًا لا بُدَّ مِن تَوَفُّرِها حتى تَصِحَّ:
فَأَوَّلُهَا أَن تَكُونَ مِن بَهِيمَةِ الأَنعَامِ: الإِبِلِ أَوِ البَقَرِ أَوِ الغَنَمِ.
وَثَانِيهَا أَن تَبلُغَ السِّنَّ المُعتَبرَةَ شَرعًا، بِأَن تَكُونَ مُسِنَّةً، وَالمُسِنَّةُ هِيَ الثَّنِيَّةُ فَمَا فَوقََهَا مِنَ الإِبِلِ وَالبَقَرِ وَالغَنَمِ، إِلاَّ الجَذَعَةَ مِنَ الضَّأنِ فَإِنها تُجزِئُ؛ لِقَولِهِ : ((لا تَذبَحُوا إِلاَّ مُسِنَّةً إِلاَّ أَن يَعسُرَ عَلَيكُم فَتَذبَحُوا جَذَعَةً مِنَ الضَّأنِ)).
وَثَالِثُ الشُّرُوطِ أَن تَكُونَ خَالِيَةً مِنَ العُيُوبِ المَانِعَةِ مِنَ الإِجزَاءِ، وَالعيُوُبُ المَانِعَةُ مِنَ الإِجزَاءِ أَربَعَةٌ: المَرَضُ البَيِّنُ، وَالعَرَجُ البَيِّنُ، وَالعَوَرُ البَيِّنُ، وَالهُزَالُ المُزِيلُ لِمُخِّ العَظمِ، وَيُلحَقُ بِهَذِهِ العُيُوبِ مَا كَانَ مِثلَهَا أَو أَشَدَّ مِنهَا. أَمَّا مَا كَانَ دُونَهَا فَلا يَمنَعُ الإِجزَاءَ وَلَكِنَّهُ يُكرَهُ؛ وَاللهُ طَيِّبٌ لا يَقبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا.
أَمَّا رَابِعُ الشُّرُوطِ فَأَن تَكُونَ الأُضحِيَةُ مملُوكَةً لِلمُضَحِّي أَو مَأذُونًا لَهُ فِيهَا مِن صَاحِبِهَا، فَلا تَصِحُّ الأُضحِيَةُ بِالمَسرُوقِ وَلا المَغصُوبِ وَنحوِهِما.
وَأَمَّا خَامِسُ الشُّرُوطِ فَأَن يُضَحِّيَ في الوَقتِ المُحَدَّدِ لِلأُضحِيَةِ شَرعًا، وَهُوَ مِن بَعدِ صَلاةِ العِيدِ إِلى غُرُوبِ الشَّمسِ في اليَومِ الثَّالِثَ عَشَرَ مِن شَهرِ ذِي الحِجَّةِ.
وَاعلَمُوا ـ رحمكمُ اللهُ ـ أَنَّ الأُضحِيَةَ تَصِحُّ ممَّن أَخَذَ مِن شَعرِهِ أَو أَظفَارِهِ في أَيَّامِ العَشرِ، وَلا شَيءَ عَلَيهِ إِن فَعَلَ ذَلِكَ نَاسِيًا أَو جَاهِلاً أَو لم يَكُنْ نَوَى أَن يُضَحِّيَ ثم نَوَى في أَثنَاءِ العَشرِ، أَمَّا مَن تَعَمَّدَ ذَلِكَ فَعَلَيهِ الإِثمُ وَأُضحِيَتُهُ صَحِيحَةٌ.
فَضَحُّوا وَطِيبُوا بِضَحَايَاكُم نَفسًا، وَاستَشعِرُوا في ذَبحِهَا التَّقَرُّبَ إِلى اللهِ وَإِخلاصَ النِّيَّةَ لَهُ وَاحتِسَابَ الأَجرِ وَالثَّوَابِ عِندَهُ، بَعِيدًا عَنِ الرِّيَاءِ وَالسُّمعَةِ وَالمُبَاهَاةِ وَالمُفَاخَرَةِ أَو مُجَارَاةِ النَّاسِ وَالسَّيرِ على عَادَاتِهِم فَحَسبُ، قُلْ إِنَّ صَلاَتي وَنُسُكِي وَمَحيَايَ وَمماتي للهِ رَبِّ العَالمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسلِمِينَ.
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ، وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلنَا مَنسَكًا لِيَذكُرُوا اسمَ اللهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِن بَهِيمَةِ الأَنعَامِ فَإِلَهُكُم إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسلِمُوا وَبَشِّرِ المُخبِتِينَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَت قُلُوبُهُم وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُم وَالمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقنَاهُم يُنفِقُونَ وَالبُدنَ جَعَلنَاهَا لَكُم مِن شَعَائِرِ اللهِ لَكُم فِيهَا خَيرٌ فَاذكُرُوا اسمَ اللهِ عَلَيهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَت جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنهَا وَأَطعِمُوا القَانِعَ وَالمُعتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرنَاهَا لَكُم لَعَلَّكُم تَشكُرُونَ لَن يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقوَى مِنكُم كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُم لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُم وَبَشِّرِ المُحسِنِينَ.
الخطبة الثانيةأَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُم يَغفِرْ لَكُم ذُنُوبَكُم، وَأَطِيعُوهُ تُفلِحُوا وَتَسعَدُوا في دُنيَاكُم وَآخِرَتِكُم، وَمَن يَتَّقِ اللهَ يجعَلْ لَهُ مخرَجًا وَيَرزُقْهُ مِن حَيثُ لا يحتَسِبُ، وَمَن يَتَّقِ اللهَ يجعَلْ لَهُ مِن أَمرِهِ يُسرًا.
عِبَادَ اللهِ، وَمِن أَفضَلِ الأَعمَالِ في يَومِ العِيدِ صَلاةُ العِيدِ، وَإِنَّ مِنَ الشَّرَفِ حُضُورَهَا مَعَ المُسلِمِينَ، فَاحرِصُوا عَلَيهَا وَاشهَدُوهَا، وَإِيَّاكُم أَن تَكُونُوا مِنَ الذين يُثَبِّطُهُم الشَّيطَانُ، فَيُفَضِّلُونَ النَّومَ على هَذِهِ الشَّعِيرَةِ العَظِيمَةِ. فَقَد رَجَّحَ بَعضُ أَهلِ العِلمِ ومنهم شَيخُ الإِسلامِ ابنُ تَيمِيَّةَ رحمه اللهُ أَنَّ صَلاةَ العِيدِ وَاجِبَةٌ عَلَى الأَعيَانِ، وَاستَدَلُّوا بِقَولِهِ تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانحَرْ، وَلا تَسقُطُ صَلاةُ العِيدِ عَن أَحَدٍ إِلاَّ بِعُذرٍ شَرعِيٍّ، حتى النِّسَاءُ عَلَيهِنَّ أَن يُصَلِّينَ العِيدَ وَيشهَدْنَ الخَيرَ مَعَ المُسلِمِينَ، بَل حتى الحُيَّضُ وَالعَوَاتِقُ، إِلاّ أَنّ الحُيَّضَ يَعتَزِلْنَ المُصلَّى.
فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ، وَاستَعِدُّوا وَصَلُّوا العِيدَ مَعَ إِخوَانِكُم. وَاعلَمُوا أَنَّ لِلعِيدِ آدَابًا وَسُنَنًا يَنبَغِي الأَخذُ بها وَعَدَمُ التَّهَاوُنِ بِشَأنِهَا، مِنها الاغتِسَالُ وَالتَّطَيِّبُ لِلرِّجَالِ، وَالتَّجَمُّلُ وَلبسُ أَحسَنِ الثِّيَابِ، دُونَ إِسرَافٍ وَلا إِسبَالٍ وَلا مَخِيلَةٍ، وَأَمَّا حَلقُ اللِّحَى الذي يَعتَقِدُ بَعضُ النَّاسِ أَنَّهُ يَتَزَيَّنُ بِهِ فَهُوَ لَيسَ بِزِينَةٍ وَلا مِنهَا، وَكَيفَ تَكُونُ الزِّينَةُ بِما حَرَّمَ اللهُ؟! فَلْنَحذَرْ مُخَالَفَةَ السُّنَّةِ،. وَيُستَحَبُّ لِلمُصَلِّي يَومَ العِيدِ أَن يَأتيَ مِن طَرِيقٍ وَيَعُودَ مِن طَرِيقٍ آخَرَ اقتِدَاءً بِالنبيِّ ، فَعَن جَابِرٍ رضي اللهُ عنه قال: كان النبيُّ إِذَا كَانَ يَومُ عِيدٍ خَالَفَ الطَّرِيقَ. وَيُستَحَبُّ لَهُ الخُرُوجُ مَاشِيًا إِن تَيَسَّرَ، وَأن يُكثِرَ مِنَ التَّكبِيرِ حتى يحضُرَ الإِمَامُ. وَأَمَّا سماعُ الخُطبَةِ في العِيدِ فَهُوَ مُستَحَبٌّ غَيرُ وَاجِبٍ، لِمَا وَرَدَ عَن عبدِ اللهِ بنِ السَّائِبِ رضي اللهُ عنه قال: شَهِدتُ العِيدَ مَعَ النبيِّ فَلَمَّا قَضَى الصَّلاةَ قال: ((إِنَّا نخطُبُ، فَمَن أَحَبَّ أَن يجلِسَ لِلخُطبَةِ فَلْيَجلِسْ، وَمَن أَحَبَّ أَن يَذهَبَ فَلْيَذهَبْ))، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ استِمَاعَ الخُطبَةِ وَالجُلُوسَ لَهُ خَيرٌ عَظِيمٌ وَمكسَبٌ كَبِيرٌ، لا يَلِيقُ بِالمُسلِمِ العَاقِلِ أَن يَترُكَهُ أَو يَتَسَاهَلَ فِيهِ، خَاصَّةً مَعَ تَهَاوُنِ بَعضِ السُّفَهَاءِ وَالأَعَاجِمِ في ذَلِكَ، حَيثُ يَقُومُ بَعضُهُم بَعدَ انقِضَاءِ الصَّلاةِ وَيَنجَفِلُونَ، وَيُعرِضُونَ عَنِ استِمَاعِ الذِّكرِ وَيَهرُبُون، وَكَأَنَّهُم بِذَلِكَ قَدِ استَغنَوا عَمَّا في الخُطبَةِ مِنَ المَوَاعِظِ وَالأَحكَامِ، والتي رُبَّمَا كَانَت سَبَبًا في اتِّعَاظِ بَعضِهِم وَحَيَاةِ قَلبِهِ أَو خُرُوجِهِ مِن دَائِرَةِ الجَهلِ بِبَعضِ الأَحكَامِ إِلى العِلمِ بها. فَاحرِصُوا ـ رحمكم اللهُ ـ على استِمَاعِ الخُطبَةِ، وَصَبِّرُوا أَنفُسَكُم عَلَى ذَلِكَ، وَاحتَسِبُوهَا دَقَائِق تَقضُونَهَا في ذَاتِ اللهِ، فَإِنَّ اللهَ قَد ذَمَّ المُعرِضِينَ عَن ذِكرِهِ، فقال: فَمَا لَهُم عَنِ التَّذكِرَةِ مُعرِضِينَ كَأَنَّهُم حُمُرٌ مُستَنفِرَةٌ فَرَّت مِن قَسوَرَةٍ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، لَئِن كَانَ بَعضُنا لم يَحظَ بِالحَجِّ وَأَدَاءِ المَنَاسِكِ فَإِنَّ اللهَ سُبحَانَهُ وَهُوَ الكَرِيمُ المَنَّانُ وَاسِعُ العَطَاءِ وَمُجزِلُ الإِحسَانِ قَد شَرَعَ لَنَا مِنَ العِبَادَاتِ وَالأَعمَالِ الصَّالحةِ في هَذِهِ الأَيَّامِ مَا تَقَرُّ بِهِ أَعينُ المُؤمِنِينَ وَتَسلُو بِهِ أَفئِدَةُ المُتَّقِينَ، فَمَن فَاتَهُ في هَذا العَامِ القِيَامُ بِعَرَفَةَ فَلْيَقُمْ للهِ بِالحَقِّ الذي عَرَفَهُ، وَمَن عَجَزَ عَنِ المَبِيتِ بِمُزدَلِفَةَ فَلْيُبَيِّتْ عَزمَهُ عَلى طَاعَةِ اللهِ الذي قَرَّبَهُ وَأَزلَفَهُ، وَمَن لم يَقدِرْ عَلى نَحرِ هَديِهِ بِمِنى فَلْيَذبَحْ هَوَاهُ هُنا، وَمَن لم يَصِلْ إِلى البَيتِ فَلْيَقصِدْ رَبَّ البَيتِ، وَلْيَتَّصِلْ بِخَالِقِ الكَونِ وَلْيُعظِمِ الرَّجاءَ فيه، فَإِنَّهُ سُبحانَهُ القَائِلُ: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَني فَإِني قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَليَستَجِيبُوا لي وَليُؤمِنُوا بي لَعَلَّهُم يَرشُدُونَ، وَإِنُّكُم اليَومَ صَائِمُونَ في يَومِ عَرَفَةَ وَفي يَومِ الجُمُعَةِ الذي فِيهِ سَاعَةٌ لا يُوَافِقُهَا عَبدٌ مُسلِمٌ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي يَسأَلُ اللهَ شَيئًا إِلاَّ أَعطَاهُ إِيَّاهُ، فَأَلِحُّوا على اللهِ بِالدُّعَاءِ وَأَجزِلُوا المَسأَلَةَ في صَلاتِكُم هَذِهِ، وَمِن بَعدِ صَلاةِ العَصرِ إِلى غُرُوبِ الشَّمسِ، عَسَى اللهُ أَن يَرحَمَنَا وَإِيَّاكُم وَيَغفِرَ لَنَا وَلكم وَلِوَالِدِينَا وَلِجَمِيعِ المُسلِمِينَ.