عشر ذي الحجة وأوضاع الأمة
عكرمة بن سعيد صبري
ملخص الخطبة
1- الغاية العظمى. 2- حاجة المسلمين إلى اللجوء إلى الله تعالى. 3- فضل عشر ذي الحجة. 4- ما يشرع في عشر ذي الحجة. 5- حرمة الدماء والموال والعراض. 6- دعوة للوحدة والائتلاف. 7- التنديد بالجدار العنصري. 8- الحرب على الإسلام.
الخطبة الأولى
أما بعد: فيقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: وَذَكّرْ فَإِنَّ ٱلذّكْرَىٰ تَنفَعُ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلرَّزَّاقُ ذُو ٱلْقُوَّةِ ٱلْمَتِينُ[الذاريات:55-58]، صدق الله العظيم.
أيها المسلمون، هذه الآيات الكريمة من سورة الذاريات، وهي مكية، وفيها يطلب الله سبحانه وتعالى من رسوله الكريم أن يستمر في التذكير لمن تنفعه الذكرى ولديه الاستعداد لقبول الإرشاد والنصيحة والهداية، ويخبره أن الله رب العالمين ما خلق الجن والإنس إلا ليأمرهم وليكلفهم بعبادته، وذلك ليعرفوه ويشكروه على نعمه، لا لأنه محتاج إليهم في تحصيل الرزق، فالله العلي القدير هو الرزاق ذو القوة المتين. ويقول سبحانه وتعالى في سورة التوبة: وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـٰهًا وٰحِدًا لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَـٰنَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة:31]، ويقول في سورة البينة: وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَذَلِكَ دِينُ ٱلقَيّمَةِ [البينة:5].
أيها المسلمون، من هنا حدد الله عز وجل للجن والإنس رسالة سامية واضحة، ألا وهي عبادة الله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، إنها العبادة الشاملة التي تتمثل في العبادات والطاعات والالتزام بأحكام الله في التصرفات والإخلاص في الأعمال والحركات والسكنات.
أيها المسلمون، نحن في وقت أحوج ما نكون فيه إلى اللجوء إلى الله رب العالمين، وأن نستغيث برب السماوات والأرضين، ليفرج كربنا، وليوحد صفنا، ولينصرنا على أعدائنا، نحن في وقت أحوج ما نكون فيه إلى الحياة التعبدية، لنكون طائعين لله عز وجل، ولنتحرر من عبادة المادة، ومن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ولنعتِق أنفسنا من زخارف الدنيا ومشاغلها وتعقيداتها، فكلما انغمس الإنسان في شؤون الدنيا الفانية ابتعد عن الله رب العالمين، وأصبحت دنياه شغله الشاغل، لا يفكر في موته ولا في آخرته، في حين يقول الله سبحانه وتعالى في سورة القصص: وَٱبْتَغِ فِيمَا ءاتَاكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ ٱلْفَسَادَ فِى ٱلأرْضِ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُفْسِدِينَ [القصص:77].
الصحابي الجليل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يحدثنا قائلاً: أخذ رسول الله بمنكبي فقال: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل))، وكان ابن عمر يقول: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك).
أيها المسلمون، يا أحباب الله، ندخل في شهر ذي الحجة، والعبادة فيه ليست منحصرة بالحجيج، فقد هيأ الله ربُ العالمين للمسلمين أن يكسبوا الثواب العظيم تلو الثواب، في العشر الأوائل من شهر ذي الحجة، التي لها فضل كبير من الله سبحانه وتعالى على غيرها من الأيام والليالي، وقد أقسم الله عز وجل بهذه الليالي لبيان فضلها ولتعظيم شأنها بقوله: وَٱلْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ وَٱلشَّفْعِ وَٱلْوَتْرِ [الفجر:1-3]، وقال معظم المفسرين بأن المراد من هذه الليالي هو الليالي العشر الأوائل من ذي الحجة، وأن الفجر هو فجر يوم النحر، أي: يوم عيد الأضحى المبارك.
أيها المسلمون، يا أحباب الله، إن الله عز وجل يضاعف العمل الصالح في هذه الأيام، فعليكم أن تغتنموها لقول رسولنا الأكرم : ((ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر))، قيل: يا رسول الله، ولا الجهاد في رسول الله؟ قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء))، أي: إذا رزقه الله الشهادة، حينئذ تفوق الشهادة العمل الصالح في هذه الأيام.
أيها المسلمون، يا أحباب الله، من الأعمال الصالحة التي يحرص المسلم على أدائها في هذه الأيام صوم التطوع والإكثار من صلوات النافلة والاستغفار والتوبة والدعاء وتلاوة القرآن والتصدق وصلة الأرحام وتقديم الأضاحي بعد أداء صلاة العيد، فإن الله سبحانه وتعالى يزيد الثواب فيها، يقول العلماء بأن زيادة الفضل في هذه الأيام لوجود يوم عرفة ويوم عيد الأضحى ضمنها.
أيها المسلمون، يا أحباب الله، يلزم الإشارة إلى أنه يستثنى الصوم يوم العيد حيث لا يجوز الصوم فيه، فصوم النافلة فيها يشمل تسعة أيام، كما لا يطلب من الحجيج أن يصوموا يوم عرفة، حتى يتقوى الحاج على العبادة والدعاء في عرفة، أما غير الحاج فإنه يصوم في يوم عرفة لقول رسولنا الأكرم : ((صوم يوم عرفة يكفر سنتين))، وهذا يؤكد بأن الثواب في هذه الأيام ليس منحصرًا بالحجيج، وأنه يمكن للمسلمين جميعًا أن يغتنموا هذه الأيام العشرة بصلة الرحم وبالصوم والتنفل وغير ذلك من العبادات والأعمال الصالحة.
أيها المسلمون، يا أحباب الله، حينما ألقى رسولنا الأكرم خطبته الشهيرة في خطبة الوداع في السنة العاشرة للهجرة، فإنه لم يخاطب الحجيج وحدهم وقتئذ، وإنما خاطب جميع المسلمين في كل زمان ومكان إلى أن يرث الله ومن عليها.
ومن المبادئ العامة التي وردت في خطبة الوداع حرمة سفك الدماء وحرمة غصب الأموال والممتلكات، فيقول عليه الصلاة والسلام من حديث مطول :((أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا))، فقد شدد ديننا الإسلامي العظيم على حرمة سفك الدماء وعلى حرمة غصب الأموال، سواء كانت الأموال أموالاً عامة أو أموالاً خاصة، وسواء كانت الأموال أموالاً منقولة أو غير منقولة كالأراضي والعقارات، فأين نحن من هذه المبادئ الرفيعة؟! أين نحن من آخر وصية من نبي الإسلام لأمة الإسلام؟! إن ما نشاهده في العالم الإسلامي من خلافات ومنازعات وانقسامات لأقربُ دليل على بُعد المسلمين عن دينهم وعلى عدم التزامهم بالأحكام الشرعية التي أوصانا بها رسولنا الأكرم .
أيها المسلمون، يا أحباب الله، لا تصلح الأمور بسفك الدماء وبالخلافات والتناقضات فيما بين المسلمين، وإنما تصلح الأمة بعقيدة الإسلام وبحقن الدماء وبالإحسان والتودد فيما بين المسلمين، وأن يتعاملوا فيما بينهم على ضوء الأحكام الشرعية المستمدة من الكتاب والسنة لقوله سبحانه وتعالى مخاطبًا نبيه الكريم عليه الصلاة والسلام: فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159]، وطلب عز وجل من موسى وأخيه هارون عليهما السلام أن يخاطبا فرعون خطابًا لينًا بقوله: فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ [طه:44]، فإذا كان الخطاب الموجه إلى فرعون خطابًا لينًا، فكيف يكون خطاب المسلمين بعضهم بعضا؟!
أيها المسلمون، يا أحباب الله، لقد وصف القرآن الكريم النبي محمدًا عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام رضوان الله عليهم بأنهم متراحمون فيما بينهم أشداء على أعدائهم بقوله سبحانه وتعالى: مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَـٰهُمْ فِى وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ [الفتح:29]، هكذا يجب أن يكون المسلمون فيما بينهم في كل زمان ومكان، هذه هي طريقة رسولنا الأكرم في دعوته، فلا يصلُح آخرُ هذا الأمر إلا بما صلح به أوله.
اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، اللهم احقن دماء المسلمين، وحقق لهم النصر المبين.
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين.
[color:6c62=darkblu
e]الخطبة الثانية
نحمد الله رب العالمين حمد عباده الشاكرين الذاكرين، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، صلاة وسلامًا دائمين عليه إلى يوم الدين، اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كلّ مكان، حدَثان ساخنان لا يزالان يزدادان سخونة:
الحدث الأول بشأن الجدار العنصري الفاصل الذي يجعل من المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية كنتونات وسجون كبيرة، ويمزق البلاد ويشتت العباد، وقد سبق أن تناولنا هذا الموضوع، وحذرنا من نتائج إقامته قبل تنفيذه، ولا نزال نتناول هذا الموضوع المرة تلو المرة، حيث إن سلطات الاحتلال وبتأييد من أمريكا ماضية في غيّها وفي عنادها، غير مبالية بأي اعتراض ولا استنكار، وإن الاستمرار في إقامة هذا الجدار العنصري لمؤشر على تفكك الأنظمة العربية وضعفها وتساقط هيبتها وكرامتها، ومؤشر أيضًا على أن سلطات الاحتلال لا تنوي سلامًا، بل تريد حربًا وقتالاً، وهذا ما كشفه القرآن الكريم بحقهم بقوله سبحانه وتعالى في سورة الحشر: لاَ يُقَـٰتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلاَّ فِى قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ [الحشر:14]، فالقرى المحصنة تتمثل في المستعمرات والمستوطنات، والجُدُر تتمثل بالجدار الفاصل المقام الآن، ونؤكد رفضنا لهذا الجدار، وأنه لا استسلام للأمر الواقع، ليقضي الله أمرًا كان مفعولاً، والله يمهل ولا يهمل، ويتوجب علينا أن نتمسك بحقوقنا المشروعة التي لا مجال للتفريط فيها ولا للتنازل عنها.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، أما الحدث الآخر الساخن ويزداد الآن سخونة، هو موضوع الحجاب في فرنسا، وسبق أن قلنا: إن منع الحجاب من خلال سنِّ القوانين في فرنسا هو بمثابة حرب ضد الإسلام كدين، يؤكد ذلك ما نشر أمس في الصحف المحلية بأن الموضوع سوف لا يقتصر على الحجاب، بل سيشمل المنديل الذي يوضع على الرأس، وكذلك سيشمل الحظر الرجالَ الذين يطلقون اللحى من منطلق ديني، وهكذا أقحمت الحكومة الفرنسية نفسها في موضوع شائك، وكان الأجدر بها أن لا تقحم نفسها فيه.
ومع الأسف، ومن المؤلم أن الشاب إذا تصرف تصرفًا لا أخلاقيًا من ارتكاب للموبقات ومصاحبة المومسات فهو مرضي عنه في الشرق وفي الغرب، وملفه أبيض، في حين أن الشاب الملتزم بدينه ويطلق لحيته يفتح له ملف لملاحقته ومراقبته والتحقيق معه والتضييق عليه في الشرق وفي الغرب، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، هذا يؤكد أن الإسلام هو المستهدف كدين، وأن الحرب الصليبية المبطنة تظهر رأسها من جديد، لتحارب أي مظهر إسلامي، فعلى المسلمين جميع المسلمين أن يعتزوا بدينهم، وأن يتمسكوا بأحكامه، أينما وجِدوا، في الشرق وفي الغرب، وصدق الله العظيم إذ يقول في سورة التوبة: يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوٰهِهِمْ وَيَأْبَىٰ ٱللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَـٰفِرُونَ [التوبة:32]، ويقول في سورة الصف: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوٰهِهِمْ وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَـٰفِرُونَ [الصف:8]، فلا بد للّيل أن ينجلي، ولا بد للقيد أن ينكسر.
سبحان الله، والحمد الله، ولا إله إلا الله، والله وأكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.