مكتبة الخطب
الخطب المكتوبة
ملخص الخطبة
1- أدلة حقيقة العين من الكتاب والسنة. 2- موضوع الإصابة بالعين بين الإفراط والتفريط. 3- الفرق بين العين والحسد. 4- ذكر الله والقرآن الكريم حصنان حصينان من العين. 5- التبريك يبعد المرء عن حسد إخوانه. 6- اغتسال العائن وعلاج العين. 7- التطير والتشاؤم. 8- المصائب سببها الذنوب والمعاصي.
-------------------------
الخطبة الأولى
فأما بعد: فأوصي نفسي وإياكم ـ معاشر المسلمين ـ بتقوى الله امتثالا لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر: 18]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70-71].
أيها المسلمون، وحديث اليوم امتداد للحديث السابق عن الآفات والعلل التي تصيب بعض بني الإنسان، وكيف يحفظ الله منها.
حديث اليوم عن آفة تستنزل الفارس عن فرسه، وكما قال النبي : ((تورد الرجل القبر، وتدخل الجمل القدر)) رواه أبو نعيم في الحلية وحسنه الألباني في صحيح الجامع (4023). إنها العين، والنبي يقول: ((العين حقّ، ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين، وإذا استغسلتم فاغتسلوا)) رواه مسلم في صحيحه.
جاءت الإشارة إلى العين في القرآن الكريم على لسان يعقوب عليه السلام حين خاف على أبنائه فقال: يَا بَنِي لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ [يوسف: 67].
وهكذا يفعل المؤمنون بالأسباب، ويبقى التوكّل على الله ملاذا آمنا ومعتقدا صادقا، يأخذون بالحيطة والحذر، ويؤمنون بالقضاء والقدر، ويثقون بقدرة الواحد الأحد، وَمَا أُغْنِي عَنكُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ.
وجاء في القرآن أيضا إخبار من الله إلى رسوله عن حسد الكافرين له ومحاولة إنفاذه بأبصارهم: وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ [القلم: 51]. قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: لَيُزْلِقُونَكَ أي: يعينونك بأبصارهم، بمعنى يحسدونك. قال ابن كثير في تفسيره (8/227): "وفي هذه الآية دليل على أن العين إصابتها وتأثيرها حق بأمر الله عز وجل كما وردت بذلك الأحاديث المروية من طرق متعددة كثيرة".
إخوة الإيمان، وينبغي أن يعلم أن العين إنسيّة وجنية، بمعنى أنها تصيب من الجنّ كما تصيب من الإنس، فعن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله قال لجارية في بيتها رأى في وجهها سفعة: ((بها نظرة، استرق لها)) رواه البخاري ومسلم. والسفعة علامة من الشيطان، وقيل: ضربة واحدة منه. والمعنى كما جاء في شرح السنة (12/163): بها عين أصابتها نظرة من الجن أنفذ من أسنّة الرماح؛ ولهذا كان يتعوذ من الجان ومن عين الإنسان، حتى إذا نزلت المعوذتان أخذ بهما وترك ما سوى ذلك. أخرجه الترمذي وحسنه.
عباد الله، ومع ثبوت العين وأثرها بإذن الله حتى قال عليه الصلاة والسلام: ((أكثر من يموت من أمتي بعد قضاء الله وقدره بالعين)) رواه البخاري في التاريخ وحسنه الألباني في صحيح الجامع (1217) فلا ينبغي الإفراط ولا التفريط بشأنها، وكما لا يسوغ إنكارها فلا يسوغ الإسراف بشأنها ونسبة كل شيء إليها.
وفوق ما مضى من الأدلة يردّ ابن القيم رحمه الله على المنكرين لأثر العين بقوله في زاد المعاد (4/165): "فأبطلت طائفة ممن قلّ نصيبهم من السمع والعقل أمر العين وقالوا: إنما ذلك أوهام لا حقيقة لها، وهؤلاء من أجهل الناس بالسمع والعقل، ومن أغلظهم حجابا، وأكثفهم طباعا، وأبعدهم معرفة عن الأرواح والنفوس وصفاتها وأفعالها وتأثيراتها، وعقلاء الأمم على اختلاف مللهم ونحلهم لا تدفع أمر العين ولا تنكره، وإن اختلفوا في سببه وجهة تأثير العين".
أما المسرفون بأمر العين فتطاردهم الأوهام ويحاصرهم القلق ويضعف عندهم اليقين ويختل ميزان التوكل، أولئك يعظمون البسيط، وينسبون كلّ إخفاق أو فشل إلى العين وإن لم يكن بهم عين، وربما استدرجهم الشيطان فأمرَضهم وما بهم مرض، وأقعدهم عن العمل وما بهم علّة، ذلكم لأنّ نسبة العجز والكسل إلى الآخرين أسهل من الاعتراف به وتحمّل لوم الآخرين.
وبين هؤلاء الجفاة والغلاة تقف طائفة من الناس موقفا وسطا، تؤمن بالعين وتصدق بآثارها نقلا وعقلا، ولا تغالي فتنسب كل شيء إليها، تتقي العين قبل وقوعها، وتفعل الأسباب المأذون بها شرعا بعد وقوعها.
أيها المسلمون، وإذا كان هذا كله يقال للمعي، فيقال للعائن: اتقِ الله، ولا تضرّ أحدا من إخوانك المسلمين، وإيّاك والحسد فإنه منفذ للعين، فكل عائن حاسد، وليس كلّ حاسد عائنا، ولما كان الحاسد أعمّ من العائن كما في قوله تعالى: وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [الفلق: 5]، والعائن ربما فاتته نفسه أحيانا فوقعت منه العين وإن لم يردها، وقد يكون العائن صالحا، وربما أصاب أقرب الناس إليه وإن لم يقصد من والد أو ولد، ولذا يوصى المسلم عموما والعائن خصوصا بذكر الله والتبريك حينما يعجبه شيء، وتلك وصية من وصايا الحبيب المصطفى يأمرنا بها حين يقول: ((إذا رأى أحدكم من نفسه أو ماله أو من أخيه ما يعجبه فليدع له بالبركة، فإن العين حق)) رواه أبو يعلى والطبراني في الكبير والحاكم في مستدركه وهو في صحيح الجامع (1/212).
إن النفوس المؤمنة لا يفارقها الذكر، ولا ترضى للآخرين بالضر، ويصاحبها الدعاء والتبريك والشكر، وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ [الكهف: 39].
على أن المسلم نفسه ينبغي أن يحتاط لنفسه، ويدفع غوائل الشر عنه ما استطاع، وإذا كانت العين سهما تخرج من نفس الحاسد أو العائن نحو المحسود والمعين فهي تصيب تارة وتخطئ تارة، فإن صادفته مكشوفا لا وقاية عليه أثرت فيه ولا بد، وإن صادفته حذرا شاكيَ السلاح لا منفذ فيه للسهام لم تؤثر فيه، كذا قال العارفون.
فإن قلت: وكيف أتقي العين؟ وما أعظم سلاح ألوذ به؟
أجبت بأن الأذكار والأوراد الشرعية أعظم ما يحفظ الله بها الإنسان، فاسم الله الأعلى لا يضر معه شيء، وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [سورة الفلق] وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [سورة الناس] ما تعوذ متعوذ بمثلهما، وقراءة آية الكرسي والآيتين الأخيرتين من سورة البقرة يحفظ الله بهما عباده المؤمنين، وقد سبق لك البيان، إلى غير ذلك من أوراد الصباح والمساء التي بسطها العلماء في كتب الأذكار.
قال ابن القيم: "ومما يدفع به إصابة العين قول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، روى هشام بن عروة عن أبيه أنه كان إذا رأى شيئا يعجبه أو دخل حائطا من حيطانه قال: ما شاء الله ولا قوة إلا بالله. ومنها رقية جبريل عليه السلام للنبي التي رواها مسلم في صحيحه (2185): ((بسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك، باسم الله أرقيك)).
ولقد رخص النبي بالرقية، وقال لأسماء بنت عميس رضي الله عنها: ((ما لي أرى أجسام بني أخي ضارعة؟!)) أي: نحيفة، قالت: لا، ولكن العين تسرع إليهم، فقال: ((ارقيهم))، فعرضت عليه فقال: ((ارقيهم)) رواه مسلم (2198).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [سورة الفلق].
نفعني الله وإياكم بهدي الكتاب، وسنة المصطفى عليه السلام، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم.
-------------------------
الخطبة الثانيةالحمد لله رب العالمين، أحمده تعالى وأشكره، وأثني عليه الخير كله، وهو أهل الثناء والحمد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
أيها المسلمون، ومن وسائل اتقاء العين أيضا التبريك، وهو قولك: "اللهم بارك عليه" للشيء تراه أو يذكر لك فيعجبك، إذ قد تقع منك العين وإن لم ترِدها، فعن أبي إمامة بن سهل بن حنيف قال: اغتسل أبي: سهل بن حنيف بالخرار ـ وهو من أودية المدينة ـ، فنزع جبّة كانت عليه وعامر بن ربيعة ينظر إليه، وكان سهل شديد البياض حسن الجلد، فقال عامر: ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأة عذراء، فوعك سهل مكانه واشتدّ وعكه، فأخبر رسول الله بوعكه فقيل له: ما يرفع رأسه، فقال: ((هل تتهمون له أحدا؟)) قالوا: عامر بن ربيعة، فدعاه رسول الله فتغيظ عليه فقال: ((علام يقتل أحدكم أخاه؟! ألا بركت، اغتسل له))، فغسل عامر وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه ودخلة إزاره في قدح، ثم صب عليه من ورائه، فبرأ سهل من ساعته. رواه مالك وأحمد والنسائي وابن ماجه وهو في صحيح الجامع (3908).
عباد الله، وإذا كان التبريك سببا واقيا بإذن الله من وقوع العين فإن اغتسال العائن ووضوءه بماء يصب على المعين شفاء له بإذن الله كما سمعتم في قصة سهل بن حنيف وعامر بن ربيعة رضي الله عنهما، وهو مفسر لقوله : ((وإذا استغسلتم فاغتسلوا)) رواه مسلم. ولذا فينبغي للمسلم أن لا يمتنع عن الاغتسال إذا اتهمه أهل المعين، أو أحسّ هو من نفسه أنه عان أحدا من المسلمين.
أيها المسلمون، وثمة وقاية من العين بإذن الله يغفل عنها كثير من الناس، ألا وهي ستر محاسن من يخاف عليه العين بما يردها عنه، فقد ذكر البغوي في شرح السنة أن عثمان رضي الله عنه رأى صبيا مليحا، فقال: (دسموا نونته كيلا تصيبه العين). ثم شرحه بقوله: "ومعنى (دسموا) أي: سودوا، والنونة: الثقبة أو النقرة التي تكون في ذقن الصبي الصغير".
إخوة الإيمان، ويبقى بعد ذلك أمران مهمان يحسن التنبية إليهما حين الحديث عن العين:
الأول منهما: أن لا تكثر من التطير والتشاؤم، وأن تحسن الظن بالله، وتقوي جانب التوكل عليه، وأن يلازمنا الفأل الحسن، فقد كان عليه الصلاة والسلام يعجبه الفأل، ونهى عن الطيرة فقال: ((الطيرة شرك، الطيرة شرك، الطيرة شرك)) رواه أبو داود والترمذي وقال: "حديث حسن صحيح".
ثانيا: أن لا ننسى حظوظ النفس وآثار المعاصي في وقوع المصائب والكوارث لبني الإنسان، فكثير من الناس إذا وقع لهم مرض أو أتته مصيبة عزاه للعين مباشرة دون أن يتّهم نفسه أو يفتش في أحواله وعلاقته بربه.
صحيح أن العين حق وقد سبق البيان، ولا يماري في ذلك مسلم يؤمن بنصوص الكتاب والسنة، ولا عاقل يرى أثر العين رأي العين، ولكن الذي ينبغي أن لا ينسى أن للذنوب أثرا في وقوع المصائب، كيف لا والحق تبارك وتعالى يقول: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى: 30]؟! قال الحسن: لما نزلت هذه الآية قال النبي : ((وما من اختلاج عرق ولا خدش عود ولا نكبة حجر إلا بذنب، ولما يعفو الله عنه أكثر)). وقال عكرمة: "ما من نكبة أصابت عبدا فما فوقها إلا بذنب لم يكن الله ليغفره له إلا بها، أو لينال درجة لم يكن ليوصله إليها إلا بها" تفسير القرطبي (16/31).
ويقول تعالى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء: 123]. روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية بلغت من المسلمين مبلغا شديدا، فقال رسول الله : ((قاربوا وسدّدوا، ففي كل ما يصاب به الإنسان كفارة، حتى النكبة ينكبها أو الشوكة يشوكها)) رواه مسلم (2574). قال ابن عبد البر رحمه الله في التمهيد (23/26): "الذنوب تكفرها المصائب والآلام والأمراض والأسقام، وهذا أمر مجتمع عليه".
أيها المسلمون، ولا يقف الأمر في المصائب التي يبتلي الله بها عباده عند حدود تكفير السيئات، بل فيها زيادة حسنات ورفعة درجات، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله يقول: ((ما ضرب على مؤمن عرق قط إلا حط الله به عن خطيئته، وكتب له حسنة، ورفع له درجة)) أخرجه الطبراني في الأوسط والحاكم وصححه وأقره الذهبي وحسن سنده المنذري وغيره.
ألا فاحتسبوا ما يقدر الله عليكم من المصائب والأسقام، واستغفروا ربّكم واشكروه، ولا تحيلوا كل شيء للعين وإن كانت العين حقا.
عصمني الله وإياكم من الذنوب والآثام، وعافانا والمسلمين من كيد الفجار وحسد الحساد...