ظلم الحكام "خطبة مكتوبة"
الخطيب::الشيخ ماجد بن عبدالرحمن آل فريان
كان العلماء يتفاوتون في مواقفهم من الدولة الأموية
الموازنة بين وحدة الجماعة وحفظ الدماء والأموال وبين تغيير المنكر
إن الحمد لله ...
أما بعد فيا عباد الله اتقوا الله حق التقوى.
معاشر المسلمين: إن الأمة الإسلامية قد مرت في جميع عصورها بفترات من الظلم والعدل، والصلاح والفساد، من قبل الولاة الذين يتأمرون على ممالكها، وكان مما مر على الأمة يزيد بن معاوية وكان من أعماله المشينة مقتل الحسين رضي الله عنه، ومذبحة أهل الحرة في المدينة لأبناء الصحابة، وممن مر على الأمة الحجاج بن يوسف الثقفي، وكان من أعماله المشينة مع الظلم والجور قتل عبدالله بن الزبير رضي الله عنه، وقتل سعيد بن جبير رحمه الله.
وكان العلماء يتفاوتون في مواقفهم من الدولة الأموية، التي حولت الخلافة الراشدة إلى ملك عاض، وحصل من ولاتها ظلم كبير لأهل الإسلام.
فمن السلف من كان يرى الخروج عليها، وقتالها كما فعل الحسين بن علي، وعبدالله بن الزبير رضي الله عنهم، وكما فعل جمع من التابعين في خروجهم مع ابن الأشعث على الحجاج والي عبدالملك بن مروان، ومن هؤلاء التابعين الشعبي، وابن أبي ليلى، وسعيد بن جبير.
وكان من مستندهم في خروجهم وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والاحتساب على السلاطين الظلمة بالسيف.
وكان يعارض هؤلاء في مواقفهم فئة أخرى يرون أن حكم بني أمية ظالم وجائر، ولكن البيعة له واجبة، والسمع والطاعة له ملزمة؛ لأن الضرورة متمثلة في وحدة الجماعة والابتعاد عن الفتنة وسفك الدماء، فهم يرون أن شرعية حكم بني أمية مستمدة من ضرورة وجود السلطان، ووأد الفتن.
ويرون مع ذلك وجوبَ المناصحة، والأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر، وخاصة باللسان، مع عدم التعاون معهم على الإثم والعدوان أو طاعتهم في جورهم وظلمهم ومعصيتهم لله.
وكان من هؤلاء الذين يتبنون هذا الموقف: عبدالله بن عمر، وعبدالله بن عباس، والحسن البصري، وسعيد ابن المسيب وغيرهم.
واستندوا في موقفهم هذا إلى أدلة كثيرة: منها:
قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم»، وهؤلاء هم ولاة الأمر فتكون طاعتهم واجبة.
ومما استندوا إليه الحديث الذي يرويه حذيفة رضي الله عنه: يقول النبي صلى الله عليه وسلم : «يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهديي ولا يستنون بسنتي، رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس، فقال: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع الأمير، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع» رواه مسلم.
ومن أدلتهم حديث أم سلمة رضي الله عنها في صحيح مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد بريء، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع. قالوا: يارسول الله أفلا نقاتلهم قال: لا ما صلوا».
ومن أدلتهم حديث ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (على المرء السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة) رواه مسلم.
ومن أدلتهم حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والكره وأثر علينا وعلى ألا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول الحق أينما كان، لا نخاف في الله لومة لائم). رواه البخاري ومسلم.
معاشر المسلمين: ويتبين من هذه الأحاديث التي استند إليها طائفة كبيرة من السلف أن السمع والطاعة واجبة حتى مع وجود الانحراف، في الحكام والخلفاء.
ونجد في حديث أم سلمة بياناً للمنهج بصورة أكثر تفصيلاً من غيره، فهو يبين أنه سيحدث انحراف في مسار الخلافة: ((يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون) ويبين لهم أسلوب مقاومة هذا الانحراف، وهو الإنكار القولي: «فمن أنكر فقد سلم»، وحذر من اللجوء إلى القوة. قالوا: يارسول الله أفلا نقاتلهم قال: لا ما صلوا) ثم بين درجة أخرى أقل من الأولى ولكنها تحقق شيئاً من الإصلاح، وهي الإنكار القلبي، المتضمن عدم المتابعة في المعاصي أو تبرير المنكرات فقال: «فمن كره فقد بريء، ومن أنكر فقد سلم» وحذر في آخر الحديث من مجارات الظلمة والسكوت والرضى عن أفعالهم فقال: «ولكن من رضي وتابع».
ولتحقيق التوازن المطلوب بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحفاظ على وحدة الجماعة بنى هؤلاء العلماء قولهم على قاعدتين عظيمتين من قواعد الإسلام:
القاعدة الأولى: قول النبي صلى الله عليه وسلم «لا ضرر ولا ضرار» رواه مالك في الموطأ.
والقاعدة الثانية: «إذا تعارضت مفسدتان ترتكب أخفهما لدرء أعظمهما خطراً». فهم يرون أن حكم بني أمية خروج عن الخلافة الراشدة وهو مفسدة كبيرة، ولكن الإنكار عليه بالسيف، والخروج عليه فيه مفسدة أكبر، وهي سفك الدماء وتهديد وحدة الجماعة، وأن الصبر على حكم بني أمية أفضل من الخروج عليهم.
واستمسكوا مع ذلك بالقاعدة الأصلية التي تقول بأن الضرر يزال فاستمروا في إنكارهم بالقول، والمعارضة للمخالفات الشرعية ولكن دون نزع يد الطاعة أو إشهار السيف أو إراقة الدماء.
ولقد فهم موقف هذه الفئة من علماء السلف فهماً خاطئاً من قبل بعض الكتاب المسلمين وغير المسلمين فأصبح الاعتقاد الشائع لديهم أن فقهاء السنة ليسوا إلا أتباعاً للدولة يخضعون لتعاليمها ويجارون سياساتها بشكل دائم، وهو اعتقاد مجحف بحق هؤلاء العلماء، فلقد كانوا يقرنون السمع والطاعة بالنصح، والإنكار لكل ما يخالف شريعة الله مع سلامتهم من التزلف والمداهنة وتزيين المنكرات.
معاشر المسلمين:
إن الطريقة التي سار عليها ابن عمر، وابن عباس، وقاعدة عريضة من جماهير السلف حيال الدولة الأموية أصبحت هي التيار السائد في الدولة العباسية، وقد كان الحكم العباسي في نظر كثير من العلماء لا يختلف كثيراً عن الحكم الأموي، فقد كان حكماً وراثياً جبرياً، وليس على منهاج النبوة، ولكن أكثر الفقهاء والعلماء في عصرهم كانوا يحرصون أشد الحرص على عدم الاصطدام المسلح معهم، أو الانخراط في أي صورة من صور الخروج عليهم.
بل يمكن القول بأن الفكر الذي كان ينزع لمقاومة الظلم والاستبداد بالقوة والسيف والخروج قد تلاشى في عهد الدولة العباسية، وسبب ذلك ما رآه العلماء من كثرة سفك الدماء والقتل الذي تعرضت له الفئات التي كانت تنـزع لإنكار المنكرات بالقوة والسيف، وقد قتل العلماء والصالحون بسبب هذا القول، مع عدم تحقيق إصلاح حقيقي، وهذا ما جعل أئمة الإسلام في العصر العباسي يراجعون المواقف الأولى التي ترى رفع السيف والخروج على الولاة بسبب الظلم والاستبداد، والمكفرات التي اختلف فيها العلماء، وأصبح العلماء يميلون إلى اتخاذ موقف المناصحة والمعارضة السلمية.
وأصبح التيار السائد بين العلماء والفقهاء في العصر العباسي يقول بوجوب الموازنة بين وحدة الجماعة وحفظ الدماء والأموال وبين تغيير المنكر، وأصبح موقف عبد الله بن عمر، وسعيد بن المسيب، ومدرستهما هو الطابع الغالب على المفتين، في العصر الذي تلا عصر الصحابة والتابعين سواء كان هؤلاء من مدرسة أهل الرأي في العراق أو أهل الحديث في المدينة، ومنهم الأمام أبو حنيفة، وسفيان الثوري في الكوفة، والإمام أحمد في بغداد، ومالك في المدينة، والشافعي في مصر.
بل إن النووي رحمه الله ذكر في شرحه لصحيح مسلم بأن الخروج على الحاكم كان موضع خلاف في عهد الصحابة والتابعين، ثم حدث الإجماع بعد ذلك في عصور لاحقة على عدم جواز الخروج على الحكام، وكذا قال ابن حجر رحمه عن الخروج على أئمة الجور أنه مذهب للسلف قديم ثم انعقد الإجماع على خلافه.
وكذا قال علماء الإسلام في العصور المتلاحقة ومنهم الإمام الماوردي وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن جماعة، وغيرهم.
وهذا القول الذي يذهب إليه علماء الإسلام لم يذهبوا إليه ارتجالاً أو تخاذلاً، أو مدارة ومداهنة، بل إنهم نظروا إلى تاريخ الخروج على ولاة الأمور، مع عدم المستند الشرعي له، فوجدوه تاريخاً مليئاً بدماء المسلمين، من العلماء والصالحين، وغيرهم، مع عدم الحصول على فائدة تذكر، إلا الفتن التي تموج كموج البحر، وتجعل الحليم حيراناً، والفرقة التي تضعف المسلمين أمام أعدائهم، وتجعلهم يؤخذون على حين غرة وغفلة، مناقضة لما أمر الله به في كتابه (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم
أقول ما تسمعون وأستغفر الله.
الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه
أما بعد فيا عباد الله:
لقد بدأت الفتن في هذه البلاد منذ سنوات باجتهاد من بعض الشباب الذين رأوا في غيرهم مثالاً للتخاذل والاستكانة عما يجب عليهم من رفع السيوف وإشهار الأسلحة على حكام هذه البلاد وغيرها، واختطوا طريقاً دفعتهم إليه حماستهم، أو أهواؤهم، أو حقد بعضهم على البلاد، ثم حاولوا أن يجدوا في النصوص ما يعضد قولهم ويؤيد فعلهم، لكن العلماء الذين شابت لحاهم في الإسلام، وقرأوا تاريخ الأمة، وما فيه من العواصم والقواصم كانوا لهم بالمرصاد، فنقضت شبههم واحدة تلوا الأخرى، وتهافتت الشبه عند أصحاب البصائر، وقتل هؤلاء جميعاًَ، كما هو مصير السابقين لهم ممن رأى أن الحكام لا يعاملون إلا بطريقة الخروج عليهم.
ومع بالغ الأسف فإننا في الوقت الذي كنا نظن أن الشباب قد اعتبروا واستفادوا من التجربة السابقة وعواقبها الوبيلة، نجد أن القوائم تتابع، والمنضويين تحت هذه الرايات السود يزدادون، والمبايعين للخارجين على الحكام يكثرون، فما اعتبروا بحال إخوانهم الذين مضوا ولا قرأوا تاريخ الإسلام، ولا حكموا شريعة الإسلام في أنفسهم.
وهكذا نجد أن التاريخ يعيد نفسَه، فهذه البليَّة هي التي ابتُلِيَ بها الإسلامُ في أَواخِر عهدِ الصَّحابة رِضوان الله عليهم، وأزهقت بسببها أرواح العلماء والصالحين من بعض الصحابة والتابعين.
وهي تحصل اليوم في هذه البلاد منذ أربع سنوات فماذا كانتِ النتيجة يا عباد الله؟ إن النتيجة المباشرة ضعفٌ في التدين وانحسارٌ في الدعوة وتجفِيف لمنابعِ الخير وتسلّط من الأعداء وفشوٌّ للتحزّب والتعصّب، فخسر أهل الحقّ، وكسب أهل الباطل، واتَّخَذ الأعداءُ هذه الأحوالَ والشتات سُلَّمًا وذراعاً للنيل من الدين وأهله ودِيارِه، ولا حول ولا قوّةَ إلاّ بالله العليِّ العظيم.
وهنا ننصح إخواننا من الشباب الذين يعتنقون هذا الفكر أو يتعاطفون معه بأن نخبرهم بأن الهدمَ سهل، وأن سَفكَ الدماء إذا فتِح صعُب إيقافه، وإذا استُرخِصَت النفوسُ عمَّت الفوضى. والبِناءُ هو الصَّعب، وتربيةُ النفوس وإِصلاحها أصعَب، وهذا هو طريقُ المرسلين.
إنَّ التصرفاتِ التدميريّة والسلوكيّات القاتلة لا تبني بيتًا، ولا تعمر مسجدًا، ولا تفتَح مدرسةً، ولا تعلّم جاهلاً، ولا ترشِد ضالاًّ، ولا تطعِم جائعاً، ولا تعالج مريضًا.
إن حُسنَ النية وصلاحَ القصد إذا وجِد فإنّه لا يكفي وحدَه البتة، بل لا بدَّ أن يقتَرنَ به صحّة المنهج وحسنُ العمل وإيجابيَّةُ الأثر، وبخاصّة الأعمال المتعدّية التي تمسّ الأمّةَ والديار.
إننا لا ندعي العصمة لأحد مِن البَشر سوى أنبياء الله فيما يبلِّغون عن الله، والحقُّ ضالّة المؤمن، ومن ابتغى في الناس الكمال فقد طلب المحالَ، والخطأُ من ولاةِ الأمورِ وأهل العلم واردٌ وواقِع، ومَن أراد الحقَّ وتصويبَ الخطأ فليَبحَث عن ذلك بطريقِه، وليصَحِّح ولينصَح بأسلوبِ الحكمة، مَع حسن القصدِ وحِفظ بيضةِ المسلمين وهَيبةِ الأئمّة وأهلِ العلم.
نسأل الله أن يصلح الأعمال، ويصوب الأفهام، ويرد الضال إلى الهدى، ويبصر المؤمنين في دينهم، ومصالحهم.
اللهم صل على محمد وعلى محمد كما صليت على إبراهيم