الخطبة الأولى :
13/3/1429هـ
عباد الله : إننا نعيش في عصر تقطعت فيه الروابط والصلات ، انشغل فيه الابن عن أبيه ، وقاطع القريب قريبه ، وكل همه نفسه إلا من شاء الله وقليل ما هم ، وهذا يا عباد الله إن وقع في مجتمعات الذين لا يرجون لله وقارا ، فكيف يسوغ في المجتمعات المؤمنة ، وبين المسلمين الذين يخشون الله ويرجون الفلاح في الدين والآخرة .
أيها المسلمون : لقد بلغ من اهتمام الإسلام بصلة الأرحام والأقارب وتأكيده علي ذلك أن قرن الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز حقهم في الإسلام بعبادته وتوحيده ، فقال تعالى : ( واعبدوا الله ولا تشركوا شيئاً وبالوالدين إحسانا وبذي القربى .. ) الآية "النساء : 36" ، ثم قرن رسوله صلى الله عليه وسلم صلة الأرحام بإفراد الله بالعبادة والصلاة والزكاة ، جاء المصطفى صلى الله عليه وسلم رجل فقال يا رسول الله : أخبرني بعمل يدخلني الجنة فقال : تعبد الله ولا تشرك به شيئاً ، وقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم .. متفق عليه.
عباد الله : لعظيم صلة الرحم ولكونها من أسس الخلاق وركائز الفضائل وأبواب الخيرات فرضها الله على الأمم قبلها قال سبحان : ( وإذا أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحساناً وذي القربى ( البقرة 83 ، وكانت صلة الرحم من أوائل ما دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم مطلع نبوته، قال عمرو بن عبسه : قدمت مكة أول بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فدخلت فقلت من أنت ؟ قال : نبي ، قلت : وما نبي ؟ قال : أرسلني الله ، قلت : بم أرسلك ؟ قال : بصلة الأرحام وكسرا الأوثان وأن يوحد الله .. أخرجه الحاكم ، ويقول عبد الله بن سلام رضي الله عنه : لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أنجفل الناس إليه – أي ذهبوا إليه – فكان أول شي تكلم به أيها الناس : أفشو السلام ، وأطعم لطعام ، وصلوا الأرحام وصلوا بالليل والناس نيام ، تدخلوا الجنة بسلام . أخرجه الترمذي وابن ماجه .
أيها المسلمون : صلة الأرحام والأقارب من المكارم العظيمة ، والصفات الحميدة التي كان العرب يمتدحون بها في الجاهلية قبل الإسلام ، ويثنون على أصحابها ، ويذكرونهم بالفضل، لأنهم يرون أن القرابة لحمة من الإنسان وبضعة منه ، لا بد له منهم ، ولا فكاك له عنهم ، فعزهم عز له ، وذلهم ذل لهم .
فلم يرى عز لامرئ كعشيرة * ولم يرى ذل مثل نأي عن الأهل
ومما درج على ألسنتهم في هذا الباب قولهم : من لم يصلح لأهله لم يصلح لغيرهم ، ومن لم يذب عنهم لم يذب عن غيرهم ، وهذا المقنع الكندي أحد سادات العرب في الجاهلية يفاخر العرب قاطبة بقوله :
وإن الذي بيني وبين بني أبـــــي * وبين بني عمي لمختلف جـــدا
إذا قدحوا لي نار حرب بزندهم * قدحت لهم في كل مكرمة زندا
وإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم * وان هدموا مجدي بنيت لهم مجدا
وأعطيهم مالي إذا كنت واجدا * وان قل مالي لم أكلفهم رفدا
ولا احمل الحقد القديم عليهم * وليس رئيس القوم من يحمل الحقد
عباد الله : الأرحام هم أقارب المرء من جهة الأب ومن جهة الأم ، ويشمل ذلك الآباء والأمهات والأجداد والجدات والأولاد ذكورا وإناث وأولادهم ، وهكذا الأخوة والأخوات وأولادهم ، وكذلك الأعمام والعمات والأخوال والخالات وأولادهم، كل أولئك أرحام داخلون في قوله جل وعلا : ( وأولي الأرحام بعضهم أولى ببعض ) ، أما أقارب الزوجة فهم أصهار وليسوا بأرحام ، وكذلك أقارب الزوج بالنسبة للمرأة أصهار وليس بأرحام . أ . هـ من كلام العلامة ابن باز رحمه الله تعالى .
أيها المسلمون: إن صلة الرحم والإحسان للأقربين طرقها ميسرة وأبوابها متعددة ، فمن بشاشة عند اللقاء ولين في المعاملة ، إلى طيب في القول وطلاقة في الوجه ، إضافة إلى الزيارات والصلات ، والمشاركة في الأفراح والمواساة في الأتراح ، المبادرة إلى صلحهم عند عداوتهم ، والاجتهاد في إيصالهم كفايتهم بطيب نفس عند فقرهم ، ومداومة مودتهم ونصحهم في كل شئونهم ، مساندة مكروبهم ، وعيادة مريضهم ، والصفح عن عثراتهم ، وترك مضارتهم ، والمعنى الجامع لذلك كله : إيصال ما أمكن من الخير لهم ، ودفع ما أمكن من الشرعنهم ، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه : أخرجه الشيخان .
عباد الله : إن حق الأقارب وذوي الرحم في البذل والعطاء مقدم على اليتامى والمساكين، والصدقة عليهم مضاعفة من رب العالمين :[يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ] {البقرة:215} ، قال عليه الصلاة والسلام : "الصدقة على المسكين صدقة ، وعلى القريب صدقة وصلة " رواه الترمذي ، تصدق أبو طلحة رضي الله عنه ببستانه ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ( أرى أن تجعلها في الأقربين فقسمها أبو طلحة على أقاربه وبني عمه ) متفق عليه . يقول الشعبي رحمه الله : ما مات ذوي قرابة لي وعليه دين إلا وقضيت عنه دينه .
أيها المسلمون : لقد بشرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكثر من حديث من أحاديثه الشريفة المباركة ، وعدد لنا من الآثار والفوائد العظيمة ما لا يملك الإنسان أمامه إلا أن يتساءل : أين المسلمون من هذه المنح الإلهية وتلك الفوائد الدنيوية والأخروية العظيمة التي تجلبها صلة الرحم ، قال صلى الله عليه وسلم: " ليس شيء أطيع الله فيه أعجل ثواباً من صلة الرحم " رواه البيهقي .
عباد الله: من منا يكره محبة الأهل وبسط الرزق وبركة العمر ودفع ميتة السوء وإجابة الدعاء ؟
إن ذلك كلَه حاصل لمن انعم الله عليه بصلة رحمه والإحسان إليهم ، وإليكم مصداق ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم : ( من أحب أن يبسط له في رزقه وينسى له في أثره فليصل رحمه ) رواه البخاري ومسلم ، وقال صلى الله عليه وسلم : (صلة الرحم محبة في الأهل مثراة في المال منسأة في الأثر ) رواه احمد ، قال ابن التين رحمه الله : ( صلة الرحم تكون سبباً للتوفيق والطاعة، والصيانة عن المعصية ، فيبقى بعده الذكر الجميل فكأنه لم يمت) ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( من سره أن يمد له في عمره ويوسع له في رزقه ، ويدفع عنه ميتتة السوء ليتقي الله وليصل رحمه ) أخرجه احمد وغيره .
أيها المسلمون : إن القطيعة بين الأرحام في هذا الزمان قد كثرت ، والحقوق قد ضاعت ، والبغضاء قد فشت وانتشرت، وعامة هذه القطيعة على هذه الدنيا الحقيرة وعلى الحظوظ الفانية ، فكم رأينا من الناس من لا يعرف قرابته بصلة ولا إحسان لا بالمال ولا بالجاه ولا بالخلق ، لا يشاركهم في أفراحهم ، ولا يواسيهم في أتراحهم ، ولا يقابلهم بالبشر وحسن الكلام ، تمضي الشهور وربما الأعوام وما زار أرحامه ولا أقاربه ، ولا وصلهم ، وربما لم يسلموا من إساءته إليهم بالقول والفعال .
ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله * على قومه يستغنى عنه ويذمم
ومن ذا الذي ترجوا الأباعد نفعه * إذا كان لم يصلح عليه الأقارب
عباد الله : إن مما يبعث على الأسى والحرقة أن نرى اشد أنواع الخصومات في هذه الأزمان لا تقع إلا بين الأقارب والأرحام فبمجرد هفوة أو زلة أو عتاب ، يبادر المرء إلى القطيعة والهجران ، وينسى حق الأقارب والأرحام ، وكم تساوي هذه الدنيا إذا هجر الإنسان الأقربون ، وقطعه أولو الأرحام فأصبح بينهم غريباً منبوذا بعيداً .
أيها المسلمون : إن الواصل الحقيقي لأقاربه وأرحامه هو الذي يصلهم لله تعالى يرجو ثواب الله وفضله ، سواء وصلوه أم قطعوه ، وفي هذا يقول صلى الله عليه وسلم : ( ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها ) رواه البخاري .
وقد قال الأول :
وحسبك من ذل وسوء صنيعة * مناواة ذي القربى وان قيل قاطع
ولكني أواسيه وأنسى عيوبه * لترجعه يوم إلي الرواجع
ولا يستوي في الحكم عبدان * واصل وعبد لأرحام القرابة قاطع
بارك الله لي ولكم في القران والسنة .
الخطبة الثانيةعبد الله : هما طريقان فاختر أيهما شئت ، طريق الصلة الذي عجلت خيراته في الدنيا قبل الآخرة ، والطريق الآخر طريق العقوق طريق عجلت شروره وعواقبه في الدنيا قبل الآخرة، قال صلى الله عليه وسلم : ( ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم ) رواه الترمذي.
عبد الله : قطيعة الرحم سبب للعنة وللحرمان من الجنة [فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ] {محمد:22} * [أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ] {محمد:23} يقول الحسن البصري رحمه الله : إذا اظهر الناس العلم وضيعوا العمل وتحابوا بالألسن وتقاطعوا بالأرحام لعنهم الله فاصمهم وأعمى أبصارهم ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( لا يدخل الجنة قاطع - قال سفيان يعني قاطع رحمه - ) متفق عليه .
عبد الله : إن أعظم عقوبة معجلة تنتظر قاطع الرحم في الدنيا مع العمى واللعنة رد الأعمال والصالحة وعدم قبولها يقول أبو هريرة رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (إن أعمال بني آدم تعرض عليه كل خميس ليلة الجمعة قلا يقبل عمل قاطع رحمه ) أخرجه الإمام احمد .
عبد الله : لقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يستوحشون من الجلوس مع قاطع الرحم ، يقول أبو هريرة رضي الله عنه : أحرج على قاطع رحم لما قام من عندنا، وكان بان مسعود رضي الله عنه في حلقة بعد الصبح فقال : انشد الله قاطع رحم لما قام عنا فانا نريد أن ندعو ربنا ، وان أبواب السماء مرتجة ــ أي مغلقة - ، دون قاطع الرحم .
يا مسلمون : ان الرحم تعلقت بالعرش حتى أعطاها الله سبحانه عهداً عظيماً وميثاقاً غليظاً، فما هذا العهد ؟ وما هذا الميثاق ؟ جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً قال : ان الله خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت : هذا مقام العائذ بك من القطيعة قال : نعم ، أما ترضين أن أصل من وصلك واقطع من قطعك قالت : بلى ، قال: فذاك لك ) .
فاتقوا الله عباد الله وقوموا بحقوق الأقارب والأرحام ، أحسنوا إليهم واحذروا قطيعتهم لتفوزوا بالثواب في الدنيا والآخرة ثم صلوا رحمكم على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه .