الخطب المكتوبه بر الوالدين
الأسرة والمجتمع
الوالدان
سعيد بن يوسف شعلان
ملخص الخطبة
1- فضل الوالدين على الأبناء ورعايتها له حال طفولته. 2- عظم حقهما يستوجب عظم شكرها وبرهما. 3- النصوص تأكد على منزلة الوالدين. 4- بعض صور عقوق الوالدين. 5- البر والعقوق للوالدين جزاؤها في الدنيا قبل الآخرة.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فإن بر الوالدين فريضة عظيمة وعقوقهما حرام، والبر هو الصلة الحسنة والخير، وهو اسم جامع للخير.
وأما عقوق الوالدين فهو أذاهما ومعصيتهما والخروج عليهما، ولا ينكر فضل الوالدين إلا متوغل في النذالة، ولن يستطيع الأبناء والبنات مجازاة الآباء والأمهات على ما قاموا به نحوهم من الطفولة إلى الرجولة من عطف ورعاية وتربية وعناية إلا أن يجد الولد الوالدَ مملوكاً فيشتريه فيعتقه، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه)) لو صح أن يجد الولد والده عبداً ومملوكاً فيشتريه فيعتقه لجزاه بما فعله معه وبما قام به نحوه من التربية والعناية والعطف والرعاية على أن الفضل دائماً للمتقدم بالفضل، للذي تقدم وبدأ، فشكر المنعم واجب، ولله سبحانه على عباده نعم، لا تحصى كما قال سبحانه في سورة إبراهيم والنحل: وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها من ذلك نعمة الخلق والإيجاد، وجعل سبحانه وتعالى للوالدين نعمة الوِلاد والتربية الفالحة والعناية التامة بالأولاد، وأكثر الخلق وأفضلهم نعمة على الإنسان بعد رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم الوالدان اللذان جعلهما الله سبباً لوجوده واعتنيا به منذ أن كان حملاً إلى أن كبر، فأمه حملته شهوراً تسعة في الغالب تعاني به في تلك الأشهر ما تعاني من آلام من مرض ووحم وثقل، وإذا حان وقت الوضع وجاءها المخاض شاهدت الموت وقاست من الآلام ما الله به عليم، فتارة تموت وتارة تنجو، ويا ليت الألم والتعب ينتهي بالوضع، كان الأمر إذاً سهلاً، ولكن يكثر النصب ويشتد بعده كما قال تعالى في سورة الأحقاف: حملته أمه كرهاً ووضعته كرهاً ثم ترضعه حولين كاملين غالباً فتقوم به مثقلة وتقعد به مثقلة، وفي أثناء ذلك صياح الليل يحرم الوالدين النوم، وكذلك بالنهار يقلق به راحتهما ويتعب قلبيهما ويذرف دموعهما، ومرض يصيب الولد من وقت لآخر ينخلع له قلبهما انخلاعا وتنهد به أبدانهما هداً، وتعهد من الأم لجسمه بالغسل ولثيابه بالغسل ولإفرازاته بالإزالة، ليس يوماً ولا يومين، ولا شهراً ولا شهرين، ولا سنة ولا سنتين، هما به في متاعب ليلاً ونهارً، ومشاق تصغر بجانبها متاعب المحكومين في الأعمال الشاقة، يضاف إلى ذلك امتصاص دمها الذي هو اللبن مدة الرضاع، ولو لم يكن منه إلا هدم بدنها وإضعافه وإذهاب قوتها لكفى، ومن أجل ذلك قدم بر الأم على بر الأب، وكان لها من البر ثلاثة أمثال ما للأب لأنها تشقى بالحمل والوضع والرضاع، ومما يدل على تقدمها عليه في البر ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن رجلاً جاء للنبي فقال يا رسول الله: ((من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أبوك)).
فإذا شب الولد وبرزت أسنانه وقويت معدته على قبول الطعام وهضمه وانفتحت شهواته له انفتح للوالدين باب فكر وكد لجلب طعامه وشرابه وسائر شئونه، وربما احتمل الوالد ألم الغربة والسفر إلى بلد بعيد لطلب المعيشة للأولاد، وكثيراً ما يضحي الوالدان في سبيل راحة الأبناء والبنات، وقد قال الشاعر:
أبى الله ألا تعبدوا غيره حتما فيا ويح شخص غير خالقه أمّاً([1])
فهذا تهديد لمن قصد غير خالقه.
ببرهما فالأجر في ذاك والرحما
وكم منحا وقت احتياج من نعما
تواصل ممـا شقها البؤس والغم
مشقا يذيب الجلد واللحم والعظم
وأكبادها لهفاً بجمر الأسى فحما
حنـوا وإشفاقاً وأكثرت الضـم
وضقت بها زرعاً وذوقتها سما
مكباً على اللذات لا تسمع اللوم
تلين بها مما بها الصخرة الصما
لأنت ذو جهلٍ وأنت إذا أعمـى
وأوصـاكم بالوالـدين فبـالغـوا
فكـم بـذلا مـن رأفـة ولطافـة
وأمـك كـم باتت بثقلك تشتكـي
وفي الوضع كم قاست وعند ولادها
وكم سـهرت وقتا عليك جفونهـا
وكـم غسلت عنـك الأذى بيمينها
فـضيعتهـا لمـا أسـنّت جهالـة
وبت قريـر العين ريـان ناعمـا
وأمك في جـوع شـديد وغربـة
أهـذا جزاهـا بـعد طول عنائهـا
وفي القرآن الكريم آيات تدل على مكانة الوالدين أمر الله فيها بالإحسان إليهما، منها قوله تعالى في الآية السادسة والثلاثين من سورة النساء: واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وقوله تعالى في الآية الحادية والخمسين بعد المائة من سورة الأنعام: قل تعالوا أتلو ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وقوله تعالى في الآيتين الثالثة والعشرين والرابعة والعشرين من سورة الإسراء: وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيراً.
وقوله تعالى في الآية الثامنة من سورة العنكبوت: ووصينا الإنسان بوالديه حسناْ وقوله تعالى في الآية الرابعة عشر من سورة لقمان: ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن وفصاله في عامين أن أشكر لي ولوالديك إلي المصير وقوله تعالى في سورة الأحقاف في الآية الخامسة عشر منها: ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً حملته أمه كرهاً ووضعته كرهاً وقد فصل سبحانه وتعالى ما يجب من الإحسان للوالدين في الآيتين السابقتين من سورة الإسراء بقوله: إما يبلغن عندك الكبر إلى آخر الآيتين. والمعنى إذا وصل الوالدان أو أحدهما إلى الكبر حال الضعف والعجز وصارا عندك في آخر العمر كما كنت عندهما في أوله وجب عليك أن تحنو عليهما وتشفق عليهما وتلطف لهما وتعاملهما معاملة الشاكر لمن أنعم عليه، على أن الفضل للمتقدم كما سبق.
ويتجلى ذلك بأن تتبع معهما أموراً خمسة أذكرها بعد جلسة الاستراحة إن شاء الله وقدر.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
(([1] أمّ يأم أي قصد يقصد.
الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى أصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فإن أول هذه الأمور الخمسة التي يجب عليك أن تتبعها مع الوالدين وفيها يتجلى إحسانك إليهما.
أولاً: ألا تتأفف من شيء تراه أو تشمه من أحدهما أو منهما مما يتأذى به الناس ولكن اصبر على ذلك منهما واحتسب الأجر عليه من الله جلا وعلا، واحذر الضجر والملل القليل والكثير وعليك بالرفق واللين معهما والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
ثانياً: أن لا تنغص ولا تكدر عليهما بكلام تزجرهما وتنهرهما به، وفي هذا منع من إظهار المخالفة لهما بالقول على سبيل الرد عليهما والتكذيب لهما، يمتنع تماماً أن تخالفهما بقولك رداً عليهما أو مكذباً لهما. يمتنع هذا تماماً ويمتنع عليك أن تنغص وتكدر عليهما بكلام تنهرهما وتزجرهما به.
ثالثاً: أن تقول لهما قولاً كريماً حسناً طيباً مقروناً بالاحترام والتعظيم مما يقتضيه حسن الأدب وترشد إليه المروءة، كأن تقول: يا أبت ويا والدي أو يا أماه ويا والدتي، ولا تدعوهما بأسمائهما ولا ترفع صوتك أمامهما ولا تحدق فيهما بنظرك، بل يكون نظرك إليهما نظر لطف وعطف وتواضع.
رابعاً: أن تدعو الله أن يرحمهما برحمته الواسعة كفاء رحمتهما بك وجميل شفقتهما عليك.
خامساً: أن تتواضع لهما وتتذلل وتطيعهما فيما أمراك به ما لم يكن معصية لله وتشتاق وترتاح إلى ما يطلبانه وبذله وتشتاق وترتاح إلى ما يطلبانه منك من حطام الدنيا الفانية رحمة منك بهما وشفقة عليهما وعلى ضعفهما، فقد أكد جلا وعلا التوصية على الوالدين من وجوه كثيرة وكفاهما أن شفع الله الإحسان إليهما بالأمر بتوحيده، ونظمها في سلك واحد قضى بهما معاً.
وأما ما جاء في سنة رسول الله من الحث على بر الوالدين فهو كثيرٌ كثير، من ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((رغم أنف ثم رغم أنف ثم رغم أنف من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كلاهما فلم يدخل الجنة)) أي رغم أنف من أدرك والديه في سن الكبر فلم يفعل معهما ما يوجب دخوله الجنة بل عقهما وفعل معهما ما يوجب تعذيبه وما يوجب سخط الله تبارك وتعالى وغضبه عليه. رغم أنفه إلى غير ذلك من الأحاديث التي أكد فيها رسول الله ما أكده الله عز وجل في الآيات السابقة من كتابه تبارك وتعالى من التوصية ببر الوالدين.
وليس بر الوالدين مقصوراً عليهما في الحياة فقط بل يتعدى إلى ما بعد وفاتهما، ففي سنن أبي داود وفي صحيح ابن حبان عن أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله إذا جاء رجل من بني سلمة فقال: يا رسول الله هل بقي علي من بر والدي شيءٌ أبرهما به بعد موتهما؟ قال: ((نعم، الصلاة عليهما، يعني الدعاء لهما والاستغفار لهما وإنفاذ عهدهما وصلة الرحم التي لا صلة لك إلا من قبلهما وإكرام صديقهما)).
ولذلك جاء عن ابن عمر أنه وهو في طريقه إلى مكة ومعه من بين من معه من التابعين عبد الله بن دينار، فلقي ابن عمر أعرابياً، فنزل عن حماره، وأركبه إياه، وأعطاه عمامته،فقال له ابن دينار: يا أبا عبد الرحمن يرحمك الله إن هذا من الأعراب، وهم يكفيهم القليل. فقال له ابن عمر: إن أبا هذا كان وداً لعمر بن الخطاب، كان صديقاً له وصاحباً له وكانت بينهما مودة وإن رسول الله قال: ((من بر الولد لوالديه أن يبر أهل ودهما أو كما قال عليه الصلاة والسلام)).
فيا عباد الله أحسنوا إلى الوالدين ما أمكنكم الإحسان، وكونوا معهما في غاية الأدب والاحترام واحذروا سوء الأدب معهما وإلا هويتم في هوة شقاء ما لها من قرار، وكونوا معهما على أفضل ما يكون إجلالاً واحتراماً، وإن حصل منهما لكم ظلم فلا تبادلوهما بظلمهما، بل عليكم ببرهما مهما حصل منهما، إنما الذي يرخص لك يا عبد الله فيه ألا تطعهما إن أمراك بمعصية لله عز وجل، وما عدا ذلك فبرهما واجب لا يزول مهما حدث منهما، نعم، لأنهما هما اللذان لولا الله ثم إياهما لما خرجت إلى هذا الوجود، وهما اللذان سخرهما الله لك، فصبرا على ما لقيا من الأهوال، فالله الله في الوالدين وفي برهما، فمن كان الوالدان في حاجته اليوم منا، غداً يكون في حاجة أبنائه، وكما تدين تدان.
وقال الله في الآية الرابعة والأربعين من سورة الروم: من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحاً فلأنفسهم يمهدون.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا تجعل مصيبتنا في ديننا واغفر لنا ما مضى من ذنوبنا وارزقنا عملاً زاكياً ترضى به عنا وخذ إلى الخير نواصينا واختم لنا بخير واجعل عواقب أمورنا إلى خير وتوفنا وأنت راضٍ عنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا وآمنا في أوطاننا ودورنا وانصر المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك في كل مكان واشف مرضانا وارحم موتانا وعليك بمن عادانا وبلغنا بما يرضيك آمالنا واختم بالباقيات الصالحات أعمالنا وصلِ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.