خطب مكتوبه نظرات في الأسماء والصفات
خالد بن عبد الله المصلح الخطبة الأولى
أما بعد...
فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن من أعظم وسائل وأسباب تحقيق التقوى معرفة العبد ربه فإنه من عرف الله تعالى اتقاه وأحبه ورجاه وتوكل عليه وأناب إليه واشتاق إلى لقائه وأنس بقربة وأجلّه وعظّمه. فمعرفة الله تعالى منها تتفجر ينابيع الخيرات وعنها تصدر أحسن العبادات وأكمل المقامات: لذا لما كان النبي صلى الله عليه وسلم أكمل الأمة معرفة بالله تعالى كان أتقاهم له وأخشاهم قال صلى الله عليه وسلم: ((أما والله إني لأتقاكم لله وأخشاكم له))(1) رواه مسلم.
فمعرفة الله سبحانه بها تحيا القلوب وتزكو الأرواح وتقبل على الله تعالى وتشتغل به فليس عند أولي العقول والنهى أحلى و لا ألذ ولا أطيب ولا أنعم من معرفة الله سبحانه وإنما يحصل تمام المعرفة وكمالها برؤية الله سبحانه فليس الخبر كالمعاينة، ولو شاهد العباد ربهم سبحانه ورأوا جلاله وجماله وكماله لكان لهم في عبادته وحبه وتعظيمه شأن آخر وقد قال الله في الحديث القدسي عن الذين اجتمعوا لذكره: ((كيف لو رأوني؟ قالت الملائكة: لو رأوك كانوا أشدَّ لك عبادة وأشدَّ لك تحميداً وتمجيداً وأكثر لك تسبيحاً))(2) رواه الشيخان.
لكن لما كانت رؤيته سبحانه وتعالى ممتنعةً في هذه الدار وهي لا تناسب قدرة الخلق وطاقتهم وحالهم فتح الله لعباده طريقاً أخرى يتعرفون بها عليه فذكر سبحانه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم كثيراً من أسمائه وصفاته وما يجب له وما يستحقه فمن رام تحصيل المعرفة بالله تعالى فعليه أن يديم النظر في كتاب الله تعالى وما فيه من الأسماء والصفات.
فأسماء الله تعالى وصفاته ومعرفته وإثباتها وتعلق القلب بها وشهودها هو مبدأ طريق العبودية ووسطه وغايته. فمعرفة أسماء الله تعالى وصفاته هي الروح التي يسير بها السالكون إلى الله تعالى وهي حاديْهم في سيرهم ومحركُ عزيمتهم إذا فتروا ومثير همهم إذا قصروا.
وقد بعث الله رسله ليعرفوا به وبأسمائه وصفاته فجاؤوا به معرفين وإليه داعين قال ابن القيم رحمه الله في بيان ما قامت به الرسل: "فعرفوا الرب المدعو إليه بأسمائه وصفاته وأفعاله تعريفاً مفصلاً حتى كأن العباد يشاهدونه سبحانه وينظرون إليه فوق سماواته على عرشه يكلم ملائكته ويدبر أمر مملكته ويسمعُ أصوات خلقه ويرى أفعالهم وحركاتهم ويشاهد بواطنهم كما يشاهد ظواهرهم يأمر وينهى ويرضى ويغضب ويضحك من قنوطهم وقرب غِيره ويجيب دعوة مضطرهم ويغيث ملهوفهم ويعين محتاجهم ويجبر كسيرهم ويغني فقيرهم ويميت ويحيي ويمنع ويعطي، يؤتي الحكمة من يشاء. مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء يعز من يشاء ويذل من يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، كل يوم هو في شأن يغفر ذنباً ويفرج كرْباً ويفك عانياً وينصر مظلوماً ويقصم ظالماً ويرحم مسكيناً ويغيث ملهوفاً ويسوق الأقدار إلى مواقيتها ويجريها على نظامها. . . . وهذا مقصود الدعوة وزبدة الرسالة"(3) انتهى كلامه رحمه الله.
وقد أمر الله سبحانه عباده بأن يتعرفوا عليه فقال تعالى: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا)(4) وقال: (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى)(5) والأمر بدعائه بأسمائه يتناول دعاء المسألة والطلب ودعاء الحمد والعبادة والثناء ولا يتم امتثال هذا الأمر إلا بالتعرف على أسمائه الحسنى وصفاته العُلا.
وقد رتب الله سبحانه على معرفة أسمائه وإحصائها الأجر العظيم والثواب الجزيل ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة))(6) وإحصاؤها يتحقق بحفظ ألفاظها وفهم معانيها والتعبد لله بها.
وكل هذا يوضح لنا ما لأسماء الله وصفاته من أثر في تحقيق العبادة وإقامة الدين، إذ لا تستقر للعبد قدم في الإيمان إلا بمعرفة الله الواحد الديان فالإيمان بأسماء الله وصفاته ومعرفتها وإثباتها أساس دين الإسلام وقاعدة الإيمان وثمرة شجرة الإحسان ولا تستقيم للعبد محبة الله سبحانه إلا بهذه المعرفة وإنما تفاوتت منازل عبادات الناس ومراتبهم في محبة الله تعالى وتعظيمه بسبب تفاوت منازلهم ومراتبهم في معرفة الله تعالى وأسمائه وصفاته فكلما أدام العبدُ النظر في أسماء الله والتأمل في صفاته، ازدادت محبته لربه وإقباله على طاعته وتحققت له لذة عبادته فأنس بربه واشتاق إلى لقائه.
ومعرفة أسماء الله وصفاته تحمل العبد على الإكثار من ذكر الله وشكره والثناء عليه ومدحه والحمد له. وذكر الله سبحانه ومدحه من أعظم ما يقرب إليه فإنه لا أحد أحب إليه المدح من الله تعالى من أجل ذلك مدح نفسه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
ومهما بلغ العبد من تمجيد الله تعالى وتقديسه فإنه لم يوفه حقه ولم يقدره حق قدره قال تعالى: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)(7) ولذلك كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم ((لا أحصي ثناء عليك))(8) فهو سبحانه فوق ما يثني عليه المثنون وفوق ما يحمده الحامدون كما قال الأول:
وما بلغ المهدون نحوك مدحةً وإن أطنبوا إن الذي فيك أعظم
لك الحمدُ كلُ الحمد لامبدأ له ولا منتهى واللهُ بالحـمد أعلم
ومعرفة أسماء الله وصفاته سبيل يَستدل بها الخواص من أولي البصائر والألباب على أفعال رب الأرباب وشاهدُ هذا ومثاله ما أخرجه أحمد و ابن ماجه والطبراني بسند يقبل ((فيه لين وهو قابل)) التحسين عن أبي رَزين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ضحك ربنا من قنوط عباده وقرب غيره)) قال: قلت يا رسول الله أويضحك ربنا؟ قال: ((نعم)) قلت: لن نعدم من رب يضحكُ خيراً))(9) فهذا أبورزين رضي الله عنه استدل على جميل فعل الله تعالى بصفة من صفاته وهذا باب مهجور ودرب متروك قل سالكه وشذ طارقه ولا يركبه إلا الخلص من المؤمنين.
الخطبة الثانية أما بعد ...
فاعلموا بارك الله فيكم أنه لما غفل كثير من الناس وذهلوا عن هذا الباب العظيم من أبواب معرفة الله الجليل حجب أكثر الخلق عن تحقيق الإيمان بالله تعالى، فإن صفاته إذا أغفلها الناس ووضعوا أعلامها عن القلوب وطمسوا آثارها وعطلوا معانيها، ضربوا بسياط البعد عن الله وأسبل دونهم حجاب الطرد والإبعاد وتخلفوا مع المتخلفين وقعدوا مع القاعدين، ولذا فإن كثيراً من الناس يسمعون أسماء الله وصفاته فلا يؤثر ذلك في قلوبهم ولا يزيد في عبادتهم ولا يُصلح أقوالهم ولا أعمالهم ولا أحوالهم فقد ضرب بينهم وبين الله ومعرفته حجاب من الشبهات والشهوات والجهل والغفلة.
واعلموا أيها الإخوة الكرام أن لكل اسم من أسماء الله تعالى معنى يُتعبد لله به ويتقرب إليه بمقتضاه وقد أطال ابن القيم رحمه الله في نونيته في بيان معاني بعض أسماء الله تعالى التي يتعبد الله تعالى بها وقد اخترت بعض الأسماء التي ذكرها رحمه الله لأبين أثر معرفة أسماء الله تعالى على العبد فمما قال رحمه الله:
وهو السميع يرى ويسمع كل ما *** في الكـون من سـر ومن إعـلان
ولكل صوتٍ منه سمــعٌ حـــاضــر *** فالســر والإعـــلان مستـويـــان
وهو البـصـير يرى دبيب النمــــــ *** ـلة السوداء تحـت الصـخرِ والصوَّانِ
وهو العليـم أحــاط علـماً بالــذي *** في الكـون من ســـر و من إعـــلان
وبكل شيء علمُــه سبــحــــــانـه *** فهـــو المحــيـــط وليس ذا نســيـــان
وهو الحليــ،ـم فلا يعـــاجـل عبـده *** بعقــوبـــة ليتـــــوب من عـصيـــــان
وهو العفــو فعفــوه وسـع الورى *** لولاه غـــــــار الأرضُ بالسكـــــــان
وهو الرقيب على الخواطرِ واللوا *** حظ كيــــف بالأفعـــــال بالأركـــــان
ومضى رحمه الله يذكر أسماء الله تعالى الحسنى وما فيها من المعاني العظيمة العليا وهذا يبين لنا المنهج السليم في باب الأسماء والصفات وهو أن يقرن الإثبات للأسماء والصفات بالتعبد لله تعالى بمعانيها، وقد ظن أقوام أن السلف رحمهم الله إنما اعتنوا واهتموا بإثباتها فحسب، لذا انحصرت جهود هؤلاء في جانب الإثبات والرد على من ضل في هذا الباب من معطلة لصفات الله أو ممثلة لله سبحانه وتعالى بخلقه ولا شك عند من لديه معرفةٌ بمنهج السلف، أنهم رحمهم الله لم يقتصروا على جانب الإثبات النظري بل اهتموا كثيراً بجني ثمار هذا الإثبات في عبادتهم لله تعالى، فعلى من أراد سلوك سبيل السلف الصالحين و الأئمة المهديين أن يجتهد في إحياء التعبد لله تعالى بأسمائه وصفاته وألا يكتفي منها بمجرد الإثبات العلمي والدراسة النظرية فإن من سمات السلف الظاهرة أنهم كانوا أشد الأمة لله تعظيماً وتمجيداً وثناء وعبادة فأثمر ذلك أنهم كانوا خير الأمة علماً ودعوةً وعملاً، فالإثبات النظري للأسماء والصفات يجب أن يرتبط بالشعور الإيماني والسلوك العملي، ومن الخطأ اختزال منهج الصحابة والتابعين وتابعيهم في باب الأسماء والصفات على جانب الإثبات النظري المجرد فإن الله سبحانه وتعالى ذكر أسماءه وصفاته ليعبده بها المؤمنون دعاء وطلباً ومسألة وثناء وحمداً، لذا لما كان الضلال في باب الأسماء والصفات يفضي إلى تخلف هذه الثمار وتعطيل ما أراد الله من معرفة الخلق به سبحانه وعبادتهم له اشتد نكير السلف على المعطلة والممثلة قال ابن القيم رحمه الله: " فلما تم للمعطلة مكرهم ترتب عليه الإعراض عن الله وعن ذكره ومحبته والثناء عليه بأوصاف كماله ونعوت جلاله وانصرف كثير من الخلق بحبهم وعباداتهم إلى غير الله تعالى إذ القلوب مفطورة على محبة المحسن المتصف بصفات الكمال فلما جرده المعطلون عن أسمائه وصفاته شُغل الخلق بغيره وانصرفوا عنه "(10).
ــــ
(1) مسلم ( 1108) .
(2) البخاري (6408) .
(3) مدارج السالكين :3/364
(4) الأعراف : آية ( 180) .
(5) الإسراء : آية (110) .
(6) متفق عليه : البخاري (2736) ، ومسلم ( 2677) .
(7) الزمر : آية (27).
(8) مسلم (486) .
(9) أخرجه : أحمد (15754) ، وابن ماجه ( 181) وفيه وكيع بن حدس عن أبي رزين وحسنه الألباني.
(10) مدارج السالكين :3/367 المصدر: موقع الشيخ/ المصلح