الخطب المكتوبة
عنوان الخطبة::موعظة رمضان
الخطيب::عبد المحسن بن محمد القاسم
ملخص الخطبة1- فضائل شهر رمضان. 2- منزلة الإخلاص في الدين. 3- أهمية الصلاة والزكاة. 4- فضل الجود وصنائع المعروف. 5- فضل القرآن الكريم. 6- الحث على الدعاء. 7- مشروعية الاعتكاف. 8- حفظ الصوم من اللغو والآثام.
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فاتَّقوا الله -عبادَ الله- حقّ التقوى, واستمسِكوا من الإسلام بالعروة الوثقى.
أيّها المسلمون، فضّل الله اللياليَ والأيامَ بعضَها على بعض, واصطَفى من الشّهور شهرًا جعَلَه غُرّةَ شهور العام, أنزل فيه القرآن, وفتح فيه أبواب الجِنان, وأغلق فيه أبواب النّيران, وصفّد فيه الشياطين، مَنْ صام نهارَه إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدّم من ذنبه, ومن قام ليلَه إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدّم من ذنبه، وفيه ليلةٌ خيرٌ مِن ألف شهر.
جعَلَه سبحانه موسمًا للعفو والغفران، شهرُ الفضل والرحمة يُستقبل بالفرح والاستبشار, قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ [يونس: 58].
شرعه الله لتحقيق التقوى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 183].
والإخلاص ركنٌ في قبول العمل, فإن دخله رياءُ فسد, وإن خالطَه دعاءُ أمواتٍ أو استغاثة بهِم حبط. والله سبحانه عزيز, لا يقبَل من أحَد عملًا كانت النيّة فيه لغيره, قال عزّ وجلّ في الحديث القدسي: ((أنا أغنى الشركاءِ عن الشرك, مَنْ أشركَ معي غيري تركتُه وشركَه)) رواه مسلم.
والعمل الصالحُ المصحوب بالتقوى يزيد ويبقَى, والعمل وإن كان صالحًا لكن فسَدَت في النيةُ يضمحلّ, قال سبحانه: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا [الفرقان: 23].
والصلاة عمود الإسلام وركنُه الثاني, مَنْ تركها لم تُقبَل منه بقيّةُ الأعمال مِنْ صيامٍ أو حجٍّ أو إحسان, قال عليه الصلاة والسلام: ((بين الرجل وبين الشرك والكفر تركُ الصلاة)) رواه مسلم. وَمَنْ أصلح نيَّته مع الله وأدى الصلواتِ كما أمر ووافق شهر الصيام وقام به حقَّ القيام فقدْ ظَفَر.
والزكاةُ قرينة الصلاةِ في كثيرٍ مِن آيِ القرآن, وأصلٌ مِن أصول الدين, تُطهّر النفسَ من البخل والشحّ, وتنمّي المال وتحفظه, وتنقُل المرء إلى مصافّ الأخيارِ الكرماء, قال جلّ شأنه: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا [التوبة: 103]. تقي المرءَ من عقوبات الذنوب, وتصرِف عنه عظيمَ المصائب والكروب, قال عزّ وجلّ: فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل: 5-10].
أداءُ الزكاة أمارةُ الفلاح وبرهانٌ على اليقين، وهي حقٌّ من حقوق الفقراء, يعطيها الغنيّ لهم بلا مَنٍّ ولا إذلال، يُكمّل المرءُ بها دينه, ويحفظ بها مالَه, قال عليه الصلاة والسلام: ((مَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ –أي: ثعبانًا-، لَهُ زَبِيبَتَانِ, يُطَوَّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فيَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ –أي: بشِدْقَيْهِ-، فَيقُولُ: أَنَا مَالُكَ أَنَا كَنْزُكَ)), ثُمَّ تَلاَ النبي : وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران: 180]. رواه البخاري.
مِن الزكاةِ تُقضَى الديون, وتُدفع بها حاجةُ الفقير والمسكين, ويُعان بها المسافِر المنقطع, وتتألَّف القلوب, وهي مُدّخرة عند الله، قرضٌ مضاعفٌ للغني, قال عزّ وجلّ: وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ[سبأ: 39].
ورمضانُ موسمُ البذلِ والعطاء والبرّ والإحسان, وكان النبيُّ أجودَ النّاس, وأجود ما يكون في رمضانَ.
وإذا أراد الله بعبده خيرًا جعل قضاءَ حوائج العبادِ على يديه, قال عليه الصلاة والسلام: ((مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرب يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ في الدنيا والآخرة)) متفق عليه. قال ابن حجر رحمه الله: "ومما يُعلِمُك بعظيم الفضل في هذا أنّ الخلقَ عيالُ الله, وأحبُّهم إلى الله أرفقُهم بعياله".
وما سعى ابنُ آدم في إصلاحِ شيء أعظمَ من سعيِه لإصلاح قلبه, ولن يُصلِح القلبَ شيءٌ مثلُ القرآن, فهو النّور والهداية والشفاء، تلاوته من أجلّ الطاعات وأفضلِ القرُبات, من قرأ حَرفًا منه فله حسنة, والحسنة بعشرِ أمثالها, والماهِر به مع السَّفَرة الكرام البررة, والذي يقرؤه ويتتعتَع به وهو عليه شاقٌّ له أجران.
ورمضانُ شهر القرآن, كان جبريل يُدارِس النبيَّ القرآنَ في هذا الشهر. والقرآن أُنزل ليلًا, وتلاوته ليلًا أشدّ لمواطأة القلب مع اللسان, فاجعلوا لبيوتكم حظًّا من قراءته في ليلكم ونهاركم.
وأفضلُ الصلاة بعد المفروضة صلاةُ الليل, ومَنْ قامَها مع الإمام حتى ينصرفَ كُتب له قيام ليلة, ومَنْ قامَها في ليالي رمضان غُفر له ما تقدّم من ذنبه، وكان النبي يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، والصحابة رضي الله عنهم سيماهم في وجوههم من أثر السجود.
وما سجَد عبدٌ لله سجدةً إلاّ رفَعه الله بها دَرجةً, ومن كان من أهل الصلاة دُعي يوم القيامَةِ من باب الصلاة، وأقرب ما يكون العبد من ربِّه وهو ساجد. فأقبلوا على صلاتكم فرِحين بها, مستبشرين بما وعدَكم الله بأدائها.
والعبدُ لا غِنى له عن ربّه طرفةَ عين, والسعيد مَنْ قَرُبَ من الله بإنزال حوائجه إليه؛ بطلَب مرغوبٍ أو زوال مرهوب, مع تحرّي أزمان وهيئات الإجابة, كالسجود ووقت السحر ونهار رمضان، وهو سبحانه قريب مِنْ سائليه, ووعد بإعطاء السائل حاجته, وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: 60]. والإكثار من دعاء الله مِنْ كمال العبوديّة له, ورفعةُ العبد على قدرِ انكساره بين يدَي الله.
والاعتكافُ في رمضانَ مِن سنن النبيّ , لتطهيرِ القلبِ من الأدرانِ والخطايَا, ولمحاسبةِ النفسِ مِن التقصيرِ والتفريط, ولتُقبِل النفسُ على الله لترتقي عنده درجات، فاجعل لشهرك من الاعتكاف نصيبًا.
ورمضانُ مَغنَمٌ للتوبةِ والإنابة, يُقيل الله فيهِ العثراتِ, ويمحو فيه الخطايَا والسيِّئات, فأقبلْ على الله فيه بالندم على التفريط, والعزمِ على مجانبةِ الآثام, وهو سبحانه يُحبّ الآيِب إليه, ويفرَح بتوبة التائِب.
فتعرَّضوا لنفحات ربِّكم, واستنزِلوا الرزقَ بالاستغفار, فأيّام رمضان مَعدودة؛ اليومَ نستقبله, وغدًا نودِّعه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ [البقرة: 183، 184].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم, ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, أقول ما تسمَعون, وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كلِّ ذنب, فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانيةالحمد لله على إحسانه, والشّكر له على توفيقه وامتنانِه, وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريك له تعظيمًا لشأنه, وأشهد أنّ نبيَّنا محمَّدًا عبدُه ورسوله, صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه, وسلّم تسليمًا مزيدًا.
أيّها المسلمون، الدّنيا سريعةُ الزوال وشيكةُ الارتحال, وزوال بعضِها مؤذنٌ بزوالها جميعِها. ورمضان موسِم للرجوعِ إلى الله والندمِ على التفريط وما مضى مِن سيئ الأعمال والعزمِ على استدراك ما فات، وتعرَّضوا لنفحات ربكم فكم فيه من عتيق لله من النار, وكم فيه مِن فائز بالرحمة والرضوان.
واحفَظوا صومَكم من الكذب والغيبةِ والرفَث والفسوق, وطهّروا قلوبَكم من الحسَدِ والحِقد والضغائن, واجتهدوا في طاعةِ ربكم, واحذروا ضياعَ أزمانكم في اللهو والمحرمات, وليكُن شهرُكم موسما لفعل الخيرات والبعد عن السيِّئات.
ثمّ اعلموا أنّ الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيِّه..
المصدر:: موقع المنبر