خطب الحج والعمره
الخطيب::عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
فضل يوم عرفةملخص الخطبة1- فضل العمل الصالح. 2- أهمية العمل الصالح. 3- ثواب العمل الصالح. 4- التوسل بالعمل الصالح. 5- فضل حسن الخلق. 6- فضل يوم عرفة.
الخطبة الأولى
أما بعد: إخوة الإيمان، العمل الصالح عُدة كل مؤمن، وسبيل كل مخلص، وذخيرة كل وجِل خائف من ربه عز وجل، وصلاح العمل معناه أن يكون العمل خالصا لله تعالى وأن يكون موافقا لما جاء به رسول الله ، والعمل الصالح هو العمل الذي يرضاه الله سبحانه ويحث عليه ويرغب فيه رسوله ، وهو في نفس الوقت كل عمل يعود على المسلمين بالنفع والبركة، هذا هو العمل الصالح الذي يحبه الله ويرضاه.
وكثيرا ما يستهين بعض الناس بالعمل الصالح ولا يعدونه أمرا مهمًّا، بل يقول قائلهم: العبرة بما في القلب، أي: إن كان قلبي سليما صافيا فأنا على خير، وما دمت مؤمنا بقلبي فهذا يكفي، ونسي هذا المسكين أن العمل الصالح دليل الإيمان، وأن الله سبحانه وتعالى ما ذكر الإيمان في أغلب آيات القرآن إلا ذكر معه العملَ الصالح، وفي هذا إشارة إلى أن الإيمانَ والعملَ الصالحَ متلازمان متّحدان لا ينفصل أحدهما عن الآخر، فالله سبحانه يقرن في كثير من الآيات بين الإيمان والعمل الصالح ليبين لنا سبحانه أن الإيمان يقتضي العملَ الصالح، من ذلك قوله سبحانه عن الفائزين من عباده: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ [يونس:9]، كما يستثني سبحانه أهل الإيمان والعمل الصالح من الوعيد في أكثر من آية من آيات كتابه، من ذلك قوله سبحانه: وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [سورة العصر]، إلى غير ذلك من الآيات الكريمات التي يجمع فيها سبحانه بين الإيمان والعمل الصالح، والتي يبلغ عددها في القرآن أكثر من خمسين آية، فالعجب العجب ممن يريد أن يفصل بين شيئين جمعهما الله سبحانه وتعالى، فهل يُتصور إيمان بدون عمل صالح؟!
إذا كان إيمانك صحيحا ـ أيها المسلم ـ فلا بد أن يدفعك إلى العمل الصالح، أما إذا كان الإيمان ادعاءً أو كان ضعيفا هشا فإن الإنسان لا يجد رغبة في العمل الصالح، فالمداومة على العمل الصالح والتفاني فيه علامة على صلاح المرء في هذه الدنيا، فلا يختلف اثنان من الناس على تقدير العمل الصالح وتقدير أهله خاصة إذا كان هذا العمل متعلقا بمصالح الناس، صح عنه أنه قال كما في صحيح الجامع: ((أحب العباد إلى الله أنفعهم لعياله)) أي: لعباده.
وثواب العمل الصالح وبركته يناله الإنسان في الدنيا وفي الآخرة، ففي الدنيا العمل الصالح سبب مباشر في الحياة الطيبة يقول سبحانه: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهم أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [النحل:97]، وهو سبب في الأمن والتمكين في الأرض يقول سبحانه: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُم وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا [النور:55]، إلى غير ذلك من ثمار في هذه الحياة.
أما في الآخرة ففضل الله أكبر وكرمه أوسع، يقول سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً [الكهف:107]، ويقول سبحانه: الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ [الرعد:29]، وطوبى ـ على قول المفسرين ـ شجرة في الجنة عظيم ظلها، ورد ذكرها في الحديث الذي أخرجه أحمد وابن حبان من حديث أبي سعيد حيث يقول : ((طوبى شجرة في الجنة مسيرة مائة عام، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها))، وعن أنس قال: قال رسول الله : ((إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها، إن شئتم فاقرؤوا: وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ)) أخرجه البخاري عن أنس. هذا قليل من كثير من الآيات والأحاديث التي تبين فضل العمل الصالح ومنزلة أهله في الحياة الدنيا وما أعد الله لهم في جناته من نعيم لا ينفد وقرة عين لا تنقطع، جعلنا الله جميعا ممن يؤمنون به حق الإيمان ويعملون صالح الأعمال.
والعمل الصالح ـ عباد الله ـ من أفضل ما يتوسل به العبد إلى مولاه، ومن أفضل ما يقدم العبد بين يدي ربه عز وجل في قضاء حاجاته، فهو من أنواع التوسل الثلاثة المتفق عليها بين علماء الأمّة، وهي التوسل بأسماء الله الحسنى وصفاته العلى والتوسل بدعاء الرجل الصالح والتوسل بالأعمال الصالحة، فللأعمال الصالحة بركة عظيمة على العبد إن هو فعلها لوجه الله رغبة فيما عند الله مخلصا فيها قدر الإمكان، وهذا ما سرده علينا رسول الله في حديث أصحاب الغار الثلاثة الذين أطبقت عليهم صخرة وحبستهم داخل الغار، فاتفقوا على أن يذكر كل واحد منهم عملا صالحا عمله لوجه الله لعل الله أن يفرج عنهم ما هم فيه، ففعلوا ففرج الله عنهم وخرجوا من الغار يمشون، والحديث أخرجه الشيخان عن ابن عمر، يقول : ((انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم حتى أووا المبيت إلى غار، فدخلوه فانحدرت عليهم صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم; قال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا ـ أي: لا أشرب أنا ولا أهلي لبن المساء حتى يشرب منه والدي، فالغبوق هو ما يُشرب في المساء، وعكسه الصبوح وهو ما يُشرب في الصباح ـ، ثم يقول هذا الرجل: فنُئيَ بي في طلب شيء يوما فلم أرح عليهما حتى ناما ـ أي: تأخرت عنهما في يوم من الأيام حتى ناما ـ، فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين فكرهت أن أغبق قبلهما أهلا أو مالا ـ أي: كرهت أن أشرب أنا أو أهلي من اللبن قبلهما ـ، فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئا لا يستطيعون الخروج. وقال الآخر: اللهم كانت لي ابنة عم كانت أحب الناس إلي، فأردتها على نفسها فامتنعت مني حتى ألمت بها سنة من السنين ـ أي: تعرضت لسنة قحط وجدب ـ فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها ففعلت، حتى إذا قدرت عليها قالت: لا أحلّ لك أن تفض الخاتم إلا بحقه فتحرجت من الوقوع عليها، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إليّ وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها. وقال الثالث: اللهم استأجرت أجراء فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله، أدّني أجري، فقلت له: كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق فقال: يا عبد الله، لا تستهزئ بي! فقلت: إني لا أستهزئ بك، فأخذه كلّه فاستاقه فلم يترك منه شيئا، اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون)).
فانظروا ـ عباد الله هداني الله وإياكم ـ إلى بركة العمل الصالح، انظروا إلى عظمة أثر بعض الأعمال الصالحة التي قد يستهين بها بعض الناس، انظروا ـ رحمكم الله ـ إلى سرعة استجابة الرحيم الرحمن لدعاء هؤلاء القوم المكروبين وكيف سمع مناجاتهم من فوق سبع سماوات وهم في داخل غار مظلم مغلق عليهم وأزال همهم، فلماذا لا نُنزل حاجاتنا بالله؟! ولماذا نلتجئ لغيره ولا نلتجئ إليه إذا عز الناصر وقل الظهير وضاقت علينا الأرض بما رحبت؟! ولماذا نحقر العمل الصالح ونهمله ونزهد فيه؟!
إن للعمل الصالح ـ عباد الله ـ أثرا كبيرا ولو كان هذا العمل صغيرا في ميزان البشر، يقول في الحديث الذي رواه أبو هريرة: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)) أخرجه مسلم وأبو داود. فهل نعجز عن عمل مثل إماطة الأذى عن الطريق؟! أم هل نعجز عن بسمة صادقة نتبسمها في وجوه إخواننا؟! يقول في الحديث الذي أخرجه مسلم من حديث أبي ذر: ((لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق)).
فانظر ـ أيها المسلم ـ إلى سعة فضل الله سبحانه، فببسمة تطلقها في وجه الناس متسامحا معهم تنال فضل الله ورضوانه، وكثير من الناس يتفانى في العمل الصالح ويداوم عليه إذا كان بينه وبين ربه كالعبادات من صلاة وصوم وذكر وغيرها، ولكنه لا يسعى بالقدر نفسه في العمل الصالح المتعلق بالناس رغم أنه مهمّ أيضا، فعبادتك لك ولا يستفيد منها الناس بشيء في الغالب، أما معاملتك للناس فإنهم يتأثّرون بها إما نفعا وإما ضرّا، لهذا كانت الأعمال الصالحة التي توسّل بها أصحاب الغار الثلاثة كلّها متعلقة بالناس والإحسان إليهم، وهذا يدلنا على أن من العمل الصالح المتعلّق بالناس ومصالحهم ما هو أهم من العمل الصالح الذي بين الإنسان وربه، وهذا الفهم غائب عن كثير من المسلمين.
فينبغي علينا جميعا أن نجتهد في صالح الأعمال قبل انفراط سنين العمر واقتراب الآجال، وقبل أن نعض أصابع الندم إذا نزلت بنا المنايا ونحن في أسوأ حال، يقول سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ [البينة:7، 8].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، والصلاة والسلام على عبدك ورسولك محمد أفضل رسلك وأنبيائك، وعلى آله وصحبه الذين أثنيت عليهم في محكم كتابك.
إخوة الإيمان، تكلمنا عن العمل الصالح وعن منزلته من ديننا الخاتم وعن بركته على من يقوم به مخلصا فيه لوجه الله تعالى، ولله سبحانه وتعالى أوقات فضلها على سائر الأوقات، له فيها نفحات يتفضل فيها على العباد ويفتح أمامهم أبواب الرحمة ويبسط في طريقهم بساط القبول والعطاء، فينبغي للعبد أن يستثمر هذه الأوقات ولا يجعلها تخلو من عمل صالح يقدمه بين يدي مولاه، ويوم غد يوم عظيم مشهود هو يوم عرفة، قال عنه رسول الله كما في صحيح مسلم من حديث عائشة: ((ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا أو أمة من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ماذا أراد هؤلاء؟)).
أفلا نتشوف ـ عباد الله ـ إلى أن نكون غدا من عتقاء الله من النار؟! ألا نخلص لله ونتوب إليه في هذا اليوم العظيم لعل أسماءنا تدرج في قائمة العتقاء فنكون من السعداء؟! إنه ـ والله ـ ليوم عظيم لمن عرف قدر الأيام العظيمة، يوم يجتمع فيه حجاج بيت الله على صعيد واحد، أتوا من كل فج عميق، يوم يتجلى الله فيه برحماته على عباده، ويؤتيهم من فضله العظيم وفيضه العميم، ويباهي بهم ملائكته وهو الغني عنهم سبحانه، لله في هذا اليوم نفحات، والسعيد السعيد من تعرض لهذه النفحات وأخذ منها بقسط وافر، هذا اليوم العظيم هو من الأيام التي يُستحب فيها العمل الصالح، ونحن نتكلم اليوم عن العمل الصالح، ويُضاعف فيها أجر هذه الأعمال الصالحة، وفيه من الفرص ما لا يوجد في غيره، يقول كما في صحيح الجامع من حديث أبي سعيد: ((صوم يوم عرفة كفارة السنة الماضية والسنة المستقبلة))، وهذا فضل عظيم لمن يرجو رحمة الله ويتتبع مواطنها.
فتوبوا إلى الله في هذا اليوم، وتضرعوا إلى الله بالدعاء، واعرضوا عليه همومكم وحاجاتكم، وتيقنوا أنه لن يخيبكم ما دمتم تتوجهون إليه بقلوب مخلصة وأنفس منكسرة، وعمروا يومكم بالذكر والصلاة والتهليل والتكبير، يقول : ((خير الدعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير)) أخرجه الترمذي عن ابن عمر. فأكثروا ـ وفقني الله وإياكم ـ من الدعاء والتهليل، فلا ندري لعل أعمارنا تقصر عن بلوغ هذا اليوم في العام التالي.
فاللهم يا رب العالمين ويا أرحم الراحمين وفقنا إلى ذكرك وشكرك وحسن عبادتك في يوم عرفة وفي سائر الأيام، اللهم ووفقنا إلى الأعمال الصالحة واجعلها ذخرا لنا يوم نلقاك...