دماء مجاهدين تسيل في فلسطين في 1948, ودماء إمام ومؤسس تسيل في 1949, ودماء قيادات تسيل في المعتقلات في 1965 و1981, ودماء شباب طاهر ما عرف للذل طريقا, تسيل في ميدان العزة والتحرير في 2011, لا سيما في أربعاء الجمل المشهود..
هذا غيض من فيض تضحيات جماعة الإخوان المسلمين منذ نشأتها, ثم تمر الأيام والسنين والعقود, حتى يأتي يوم نرى فيه من بشائرالتمكين لهذه الجماعة الصابرة في الأرض ما لا تخطئه العين, فنظرة إلى واقع الجماعة التي طالما وُصمت (بالمحظورة) قبل 25 يناير, تتلوها نظرة إلى حال من نبزهم بهذا اللقب, وكيف حل ضيفا على استقبال طرة! ثم نظرة ثالثة إلى حال الجماعة أثناء الثورة وكيف طلب عمر سليمان لقاءهم فإذا بهم يملون شروطهم عليه, ثم رابعة إلى حالهم بعد سقوط الطاغية, وخيرت الشاطر وحسن مالك قد استقرا ينعمان بدفء بيوتهما, ومؤتمرات الإخوان تنعقد في كل محافظات مصر تتخللها دعوة مباركة إلى تطبيق الشريعة, وحزب ينشأ وبرنامج يطرح, والأزهر يدعوهم إلى حوار لإقرار خطاب مشترك, والبرادعي وسائر القوى تخطب ودهم, بل ويتهمهم بعض العلمانيين (بالعجرفة والتعالي) –الكلام عن "المحظورة" سابقا.. تخيل!- ووزير الخارجية الفرنسي يعرض استعداده للحوار مع الإسلاميين ويدعي أنه كان مخدوعا من النظام البائد, فيوافق الدكتور بديع!
ثم يشغب بعض السحرة ويتهم الجماعة بمناقضة تصريحاتهم لدعوتهم إلى دولة مدنية, فيرد عليهم الأستاذ صبحي صالح بكلمات تلقف ما صنعوا, ويقول: "من كان لديه حرج من القرآن فليخبرنا بصراحة"!
كل هذا كاف وزيادة لكل ذي عينين حتى يقر بأن الحال غير الحال, وأن إخواننا أضحى لهم نصيبٌ من قوله تعالى: ((
الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر)), وبقدر التمكين يكون الاختبار من الله لعباده: هل يقومون بمراده إذ مكَّنهم أم لا.
فرغت كنانة خصومكم من السهام, فلا القمع والاعتقال عاد له مكان, ولا الإرهاب الفكري أضحى له وزن يعتبر, والفضل عليكم من الله وحده..
نعيش زمانا تنسم فيه المصريون عبير الحرية بعد تسمم تام للأجواء دام لما يربو على ربع القرن!
زمان لا يَحسُن بشريف أن يتذرع بما تذرع به من قبل من مفاسد متوهمة كم ضاعت بسببها مصالح متيقنة.
زمان يطالب فيه شيخ الأزهر رأس المؤسسة الرسمية بإطلاق سراح الدكتور عمر عبد الرحمن من سجون أمريكا! شيء كان العقل يعجز أن يتصوره ولو في المنام..لكنه قد حدث!
إنه زمان يفرض علينا جميعا تكاليف جديدة, نخشى أن نكون مقصرين إن تعاملنا مع مستجداته بمعطيات زمان ما قبل الثورة, وقد قال ربنا (
عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون)
وقال: (ليبلوكم فيما آتاكم) فما آتانا الله بعد الثورة, فهو مبتلينا فيه, ناظرٌ كيف نعمل..
فلا يليق بعاقل فضلا عن مؤمن يعمل لنصرة دين الله ألا يتغيرموقفه في قضية ما, وقد اختلفت معطياتها بهذه الصورة الجذرية..
انظر كيف صبر النبي صلى الله عليه وسلم وهو يرى أصحابه يعذبون في رمضاء مكة, وما زاد على أن بشرهم بالجنان وأوصاهم بالصبر, حتى قتلت سمية بطعنة حربة في فرجها, ثم انظر كيف جيَّش جيشا ليحاصر بني قينقاع نصرة لامرأة مسلمة تكشفت, يوم أظهر اليهود حقدهم وغيظهم أن نَصَر الله المسلمين في بدر وكسر شوكة صناديد قريش! ولم يكن قد مكَّن الله للمسلمين حينئذ, بل حوصروا بعدها بسنين يوم الأحزاب وكاد الإسلام أن يزول من الأرض بالكلية لولا أن الله سلَّم, فما انتظر النبي صلى الله عليه وسلم تمكينا تاما حتى يهب لنصرة الموحدة العفيفة الطاهرة..
إنني لو كنت مسلما مستضعفا أسيرا –والحمد لله الذي عافاني وعافاكم- في مكان ما حتى اللحظة, لارتقى سقف آمالي على الفور إلى أن يُحاكم من ظلمني وحرمني من حريتي, ولم أكتف بأن يُفك قيدي لأجهر بعقيدتي.
ولو كنت باحثا عن جهة تنصر قضيتي بعد الله عز وجل, لما ترددت في طلب نصرة جماعة الإخوان, تلك الجماعة التي رفعت شعار الفخر والعزة (الإسلام هو الحل) منذ قرابة القرن من الزمان!
ونحن إذ نُذَكَِر أساتذتنا وإخواننا من جماعة الإخوان ببعض نصوص الشريعة, كقول الله تعالى: ((وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر)), وقول النبي صلى الله عليه وسلم ((فكوا العاني)), لا ندَّعي أبدا أنها قد غابت عن أذهانهم حين أخذوا موقفهم من قضية كاميليا شحاتة, ولكننا فقط نروم بعرضها أن يظهر لهم بتأملها اليوم ما لم يظهر لهم قبل الثورة..
كم يؤذيني أن تخرج الصحف بعد كل وقفة لنصرة أختنا وتقول: "سلفيون يتظاهرون من أجل كاميليا" وأقول في بالي: أي علاقة بين السلفيين وكاميليا تلك التي انقطعت أو لم تخلق بينها وبين آبائنا وإخواننا من الإخوان المسلمين؟
كاميليا ما انتمت يوما لسلفية ولا لإخوان! هي ما أن رأت نور الإيمان إلا وزُجَّ بها في قبو الدير, وحسبنا الله وحده..
غاية ما أفهمه, أنها يوم أسلمت وجهها لربها, فقد صارت أختا لنا, من جملة جماعة المسلمين, وإن شئت فقل: صارت من جملة جماعة الإخوان المسلمين, فوجب عليكم نصرتها ما استطعتم كما وجب على غيركم..
لا إخالكم تشكون في إسلامها حتى يومنا هذا بعد أن توالت الأدلة في الظهور, ولكن إن كانت الحال هذه, فدونكم إخوانكم المهتمون بالقضية, طالعوا بأعينكم ما لديهم من وثائق يأتكم الخبر اليقين, قبل أن تندموا ولات حين مندم.
إن كنتم تخشون اتهامكم بإثارة الفتنة في زمن تكاتف فيه المسلمون والنصارى لإسقاط الطاغية, فتأكدوا أن هذا التشغيب سيكون على أقصى تقدير من جنس تشغيبهم على تصريحاتكم في إمبابة عن تطبيق الشريعة -وأجزم أنها لن تصل إلى هذا الحد, لا سيما ولستم أنتم أول من طالب بذلك- وقد رأيتكم بأعين رؤوسكم كيف كنتم في السماء, وخصمكم في أغوار الأرض عامه!
اجعلوا هذه الحجة هي أول ما تصكون به وجوه الحاقدين, أن تقولوا: أليس الأولى أن تُخرج الكنيسة كاميليا إلى النور, وتجتث هذه الفتنة من جذورها؟
أيُتهم بإثارة الفتنة من يدعو إلى إنهائها بصورة سلمية؟!
أنُتهم نحن بإثارة الفتنة ورصيد الأقباط من حوادث إزهاق الدماء في الأيام الأخيرة مشرف للغاية!
فالحل هاهنا -وقد علمتم طبيعة من سيعترض عليكم- ليس إلا في قول الله تعالى: (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) وقوله تعالى:
(ولا يستخفنك الذين لا يوقنون), وإلا فعقلاء الأقباط يؤيدونكم كعقلاء المسلمين تماما, وإن لم يبوحوا بذلك..
وهل تُنصر قضية في الدنيا دون أن يتعرض صاحبها للوم اللائمين؟ هذا لم يخلق في تاريخ البشر, ولكن انظر كيف امتدح الله من قال الحق وصبر عليه مع تعرضه للوم اللائمين, فخصهم بمحبته وشهد أنهم يحبونه –وياللشرف-, ذلك أنهم (يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم), وجعل لهم من الأجر ما لم يجعله لمن قال الحق ولم يتعرض للوم, فما أعذبه من ابتلاء, وما ألذ الصبر عليه, وقوم يرفعهم الله إذ أحبهم وأحبوه, هل تظنون أحدا يخفضهم, ولو اجتمع عليهم من بأقطارها؟
إن هذا من عزم الأمور يا أبطال الإخوان, لا يقوم به إلا رجال باعوا الدنيا وطلبوا الآخرة, فقويت عزائمهم حين خارت عزائم غيرهم..
يقول ربنا:
(لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور)
بل لو استقرأنا مواقف التاريخ, لوجدنا تلك الحقيقة القطعية, أن الدفاع عن القضايا العادلة هو أكثر الأعمال أثرا في قلوب العامة, إذ قد فطر الله عباده على محبة وتقدير من ينصر المظلوم, وتأملوا كيف أسَر أردوغان قلوب العالمين يوم لم يخش أصدقاء اليهود وأذنابهم في أوروبا وأمريكا وناصر القضية الفلسطينية, واقفا في نفس الخندق مع حماس وغيرها من أعضاء القائمة السوداء عند جبابرة الغرب!
ومع كل ما سبق, فلم نطالبكم بتجييش خمسة آلاف مقاتل –كما فعلتم يوم موقعة الجمل- للهجوم على دير وتحرير أسيرة تأنّ في قبوه منذ تسعة أشهر بالتمام والكمال, بل غاية ما يراد منكم: أن يخرج رجلكم –وأنعم بكم من رجال- فيطالب بإخراج كاميليا إلى النور, خشية على البلد من فتن تكاد تعصف بها..وكفى الله المؤمنين القتال!
بهذا, لن تضعوا أنفسكم في موقف المدافع عن قضية ربما لم تبلغوا مبلغ اليقين في عدالتها, وفي نفس الوقت تكونون قد ضربتم بسهم في نصرة أختكم..
فإن ثبت لا قدر الله أنها قد رجعت إلى دينها الأول, فما خسرتم شيئا, إذ لم تدعوا ابتداء إلا لإخماد الفتنة! وقد خمدت!
وإن خرجت مسلمة: فقد كتب الله لكم الأجر ونلتم سهما من الغنيمة.
هذا مطلب لو نادى به قبطي عاقل, فلن ينكر عليه إلا من حُرم المروءة من القوم, فهل ينكر عليكم شعب مصر المتدين بالفطرة المحب للإسلاميين على طول الخط الغيور على حرمات المسلمين بطبيعته؟
أما رأيتكم بأعينكم وزن التيار العلماني الذي أتى بحده وحديده يوم الاستفتاء, وسخر قنواته وصحافته, ثم رجع بخفي حنين؟ أتخشونهم بعد أن فضحهم الله؟
هل تعلمون أن الكنيسة قد طلبت حل القضية بصورة سلمية بعيدا عن المحاكم! فماذا يعني هذا؟
إن لم ندافع عن قضية بهذا الوضوح, وتداعياتها ليست بالتي تخفى عليكم, فمتى ندافع يا كرام؟
إنه عز الدنيا والآخرة, أن ننصر كاميليا وإن شنع من شنع, ورمانا بالطائفية وبالفراغ! وبعدم المسئولية من رمانا, ليفتّوا في عضدنا, ودونهم ودون نيل مرادهم القتاد المخرَّّط.
وفي النهاية, نتلو عليكم آية من كتاب الله, يا أحبابنا يا من لم تطلبوا الحكم والتمكين إلا لتقيموا دين الله في أرضه فيورثكم جنان الخلد, يقول ربنا تعالى:
(ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين), قالوا فيها: وفًّى يوسف عليه السلام مقام الإحسان, فأعطاه الله الحكم بين الناس والعلم الكثير والنبوة.
فتأمل يا أخي كيف جعل الله جزاء الإحسان: الحكم والتمكين وسيادة الدنيا, وإن لم يطلبه المحسن ولا خطر له على بال, فما ظن يوسف عليه السلام يوما أن يجعله الملك على خزائن الأرض, ولكنه الإحسان! ومن معانيه:الإحسان إلى الخلق, وأخصه: الإحسان إلى المسلمين, وأعلى درجاته: فكاك أسراهم ودفع بغي من يفتنهم في دينهم, فينالوا الحرية في الدنيا والجنة في الآخرة, وكم رفع الله أقواما بصدق أخوتهم وبذلهم في نصرة المستضعفين, والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون, والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.
والحمد لله رب العالمين.
المزيد من المقالاتهل يجوز للمحامى أن يدافع عن أعداء الشعب؟