البدع في الدين "خطب مكتوبة"
الخطبة الأولى
أما بعد..
أيها المؤمنون أوصيكم بتقوى الله جل وعلا في الغيب والشهادة والسر والعلن واتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً فإن الله تبارك وتعالى أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين وحجة على العباد أجمعين ؛ أرسله الله على حين انقطاع من الرسل فهدى الله به إلى أقوم الطرق وأوضح السبل وبصّر به من العمى وأرشد به من الغي فتح الله به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً فأكمل الله به الدين وأتم به النعمة ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً﴾(1).
أيها المؤمنون لقد أمركم الله تعالى باتباع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ونهاكم عن مخالفته قال الله تعالى: ﴿اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ﴾(2). وقال جل وعلا: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾(3). وقال تعالى: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً﴾(4). وقال: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾(5).
فاتقوا الله أيها المؤمنون واستمسكوا بهدي النبي صلى الله عليه وسلم فقد جعله الله لكم أسوة حسنة وأمركم بالتأسي به والاستنان بسنته قال الله تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً﴾(6). وقد تهدد الله سبحانه وتعالى الذين يخالفون أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بالفتنة والعذاب الأليم فقال تعالى: ﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾(7). وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً﴾(8).
ألا وإن من مخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومشاقّته صلى الله عليه وسلم الابتداع في الدين فإن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار وقد أنكر الله عز وجل الابتداع في الدين وجعله تشريعاً لما لم يأذن به الله فقال تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّه﴾(9).
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من البدع وبين بطلانها فقال صلى الله عليه وسلم: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد))(10). وقال صلى الله عليه وسلم في وصيته لأصحابه: ((فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة))(11). فاتقوا الله عباد الله وعليكم بلزوم السنة فإنها لكم بإذن الله نجاة وعصمة.
أيها المؤمنون أتدرون ما البدعة التي نهاكم الله ورسوله عنها؟ إنها الدين الذي لم يأمر به الله ورسوله فمن دان ديناً أو فعل فعلاً يقصد به التقرب إلى الله تعالى ولم يأمر به الله ورسوله فقد ابتدع في دين الله وشرع فيه ما لم يأذن به الله فانظر أيها المؤمن إلى ما تقوم به من العبادات هل أنت ممن التزم فيها هدي النبي صلى الله عليه وسلم وسنته أم أنت ممن هجروا هديه وقلوا سنته؟ ثم انظر في هذه العبادة هل هي مما شرعه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته أو لا؟ فإن كنت ملتزماً هديه صلى الله عليه وسلم وما شرعه فأنت على السنة وإن كانت الأخرى فإياك إياك فإنه ((من أحدث في أمرنا هذا)) أي في ديننا هذا ((ما ليس منه فهو رد))(12) ((فإن شر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة))(13).
أيها المؤمنون إن البدع ضررها عظيم وأثرها خطير قال الإمام مالك بن أنس: من أحدث في هذه الأمة شيئاً لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن رسول الله خان الرسالة. فالبدع مضادة للشرع ومراغمة للشارع حيث إن المبتدع نصب نفسه مستدركاً على الشريعة مكملاً لها فاتقوا الله عباد الله فإن البدعة لا تزيد صاحبها من الله إلا بعداً قال ابن القيم رحمه الله: " وكل عمل بلا اقتداء ـ أي بالنبي صلى الله عليه وسلم ـ فإنه لا يزيد عامله من الله إلا بعداً فإن الله تعالى إنما يعبد بأمره لا بالآراء والأهواء "(14).
فاحرصوا عباد الله على ترك البدع صغيرها وكبيرها ومتابعة النبي صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً فإنه بحسب متابعتكم للرسول صلى الله عليه وسلم تكون لكم الهداية والصلاح والنجاح فإن الله سبحانه وتعالى علق سعادة الدارين على متابعته صلى الله عليه وسلم وجعل شقاوة الدارين في مخالفته فلأتباعه الهدى والأمن والفلاح وطيب العيش في الدنيا والآخرة ولمخالفيه الذلة والصغار والضلال والشقاوة في الدنيا والآخرة.
فأقبلوا يا عباد الله على كتاب ربكم وسنة نبيكم وزنوا أقوالكم وأعمالكم بما فيهما فما وافق ذلك قبل وما خالفه فهو مردود على قائله وفاعله كائناً من كان.
الخطبة الثانية
أما بعد..
فاتقوا الله عباد الله فإنكم في شهر من أشهر الله الحرم التي نهاكم الله فيها عن ظلم أنفسكم قال الله تعالى: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾(15). وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأشهر فقال: ((إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم: ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة ومحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان))(16). فاتقوا الله عباد الله فإنكم في شهر حرام وقوموا بما أمركم الله به من تعظيم شعائره فإن ذلك من تقوى القلوب.
أيها المؤمنون إن مما أحدثه الناس في هذا الشهر شهر رجب تخصيصهم هذا الشهر بأنواع من البدع والمحدثات فمن ذلك تخصيصهم أول جمعة من هذا الشهر بصلاة يسمونها صلاة الرغائب ومن ذلك أيضاً صيام هذا الشهر أو أيام منه ومن ذلك أيضاً تخصيصهم شهر رجب بالعمرة فيه يسمونها الرجبية. ومن ذلك أيضاً الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج في الليلة السابعة والعشرين من هذا الشهر فكل هذه من المحدثات التي لا تزيد أهلها من الله إلا بعداً فعلى العبد أن يتقي الله تعالى وأن يلزم سنة النبي صلى الله عليه وسلم فقد قال محذراً من ترك سنته قال صلى الله عليه وسلم: ((فمن رغب عن سنتي فليس مني))(17). واعلموا أيها المؤمنون أنه لم يرد في فضل شهر رجب ولا في صيامه ولا في صيام شيء منه معين ولا في قيام ليلة مخصوصة فيه حديث صحيح يصلح للحجة بل كل ما ورد من ذلك فهو ضعيف لا حجة فيه.
(1) سورة : المائدة: آية (3) .
(2) سورة الأعراف: آية (3) .
(3) سورة الأنعام: آية (153).
(4) سورة النساء: آية (80).
(5) سورة الحشر: آية (7).
(6) سورة الأحزاب: آية (21 ).
(7) سورة النور: آية (63) .
(8) النساء: 115.
(9) الشورى: 21.
(10) أخرجه : البخاري: (2499)، مسلم (3242).
(11) أخرجه:أحمد (16569) ؛ وابن ماجه (43) من طريق عبدالرحمن بن مهدي عن معاوية بن صالح عن ضمرة بن حبيب عن عبدالرحمن بن عمرو السلمي عن العرباض بن سارية ، وأخرجه : الترمذي : (2600 ) من طريق بقية بن الوليد عن بحير بن سعد عن خالد بن معدان عن عبدالرحمن به ، وأخرجه : ابن ماجه (42) من طريق الوليد بن مسلم عن عبدالله بن العلاء عن يحي بن أبي المطاوع عن العرباض ولا تخلو هذه الطرق من مقال لكن يجبر بعضها بعضاً على قاعدة التقوية بمجموع الطرق فأقل أحواله أنه حسن لغيره .
(12) متفق عليه : البخاري (2499) ، ومسلم (3242) .
(13) أخرجه : مسلم (1435) .
(14) مدارج السالكين: (1/96).
(15) سورة : التوبة :آية (36 ) .
(16) متفق عليه : البخاري (2958) ، مسلم (3179) .
(17) أخرجه : البخاري (4675) ، و مسلم : (2487).