الخطب المكتوبة"السيرة النبوية"
عبد الله الهذيل
ملخص الخطبة
1- منة الله علينا بإرسال الرسل وخاتمهم نبينا .
2- أهمية دراسة السيرة النبوية.
3- حالة البشرية قبل بعثة الرسول.
4- عبد المطلب يعيد حفر زمزم.
5- ولادة النبي وشأنه في بادية بني سعد.
6- بركته على حليمة السعدية.
7- وفاة أمه ونشأته عند جده ثم عمه.
8- شباب النبي وزواجه من خديجة.
الخطبة الأولى
أيها الأحبة في الله:
يقول الله تبارك وتعالى: لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين.
إنها لنعمة عظمى, ومنّة كبرى أن بعث الله رسوله رحمةً للعالمين, وهدىً للمستبصرين, ونورًا يبدد ظُلم الفتن والجاهليات, فأحيا به قلوبًا ميتة, وأسمع به آذانًا صمًا, وأنار به أعينًا عميًا, وجعل رسالته خاتمة خالدة, شاملةً لكل أسود وأبيض, وكل حرّ وعبد, وكل عربي وعجمي, فبلغ دينه ما بلغ الليل والنهار, ودخل كل بيت حجر ومدر..
فأعظم وأنِعم, وأجلّ وأكرم بذلك الرسول الذي بلغ الرسالة, وأدى الأمانة, ونصح غاية النصح, وجاهد حق الجهاد, فأبان الخير كله ودعا إليه, وأبان الشر كله وحذر منه, وسعى الجهد الجهيد وبذل الوسع والطاقة في هداية أمته والأخذ بأيديهم إلى سبل الفوز والنجاة, وصرفهم عن كل ما تسوؤهم عاقبته, وكما قال الله تعالى عنه: لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم.
أيها الأحبة في الله:
وإن الخير كلَّ الخير في اتباع سنته , واقتفاء أثره, وسلوك طريقته.
وسبيلُ ذلك معرفة هديه, وتعلمُ أقواله وأفعاله, وتدارسُ سيرته, فإنها المعين الذي لا ينضب, والروضة الندية التي لا ينقطع زهرها.
فكلما قلّب المرء النظر فيها, وأوعى قلبه لها نال من معاني الإيمان واليقين, والبصيرة والهدى ما تستقيم به خطاه, وتطيب به الحياة.
أيها الأحبة في الله:
وإن البعد عن سيرته, والجهل بسنته مزلقٌ يهوي بصاحبه إلى ظلمات يتخطبها, وجهالات يرضى بها.
وما تجرع أفراد من الأمة مرارات البعد عن جمال الحياة, وطيب معانيها إلا يوم أن بعدت نفوسهم عن تلك السيرة العطرة, فلم يرفعوا بمعالمها رأسًا, فصاروا يركضون وراء كل من أوتي ظاهرًا من الحياة الدنيا, يخلعون عليه لباس العظمة زعمًا وزورًا, فكم من صفيق وجه صفقوا له, وكم من سفيه نصبوه إمامًا يقتدى به, فأضحى الذي أملوه سرابًا بقيعة, وأضغاث أحلام.
أيها الأحبة في الله:
ومن هنا, فإنا سنتدارس تلك السيرة المباركة ـ إن شاء الله تعالى ـ سيرة نبينا في حديث تتواصل أطرافه, وسلسلة تتابع حلقاتها, نعيش فيها أيامه ولياليه, ونتنقل فيها بين الدروس والعبر من حين مولده إلى أن أسلم الروح إلى باريها, بعد أن أكمل الله به الدين وأتم به النعمة.
فإليكم الدرس الأول في تلك السيرة العطرة.
أيها الأحبة في الله:
في زمن عجب الأرض بالفتن, وخيم ظلامها على قلوب العباد كالليل البهيم سوادًا, ولفت شقاوة الجاهلية العالم بأسره, تسقيه كؤوس التخلف والوثنية, وتلصقه بالأرض ومطالب دنياه دون أن يتجاوزها.
وإندرست معالم الرسالات, فلم يستمسك بها إلا النزاع من الناس, يلجأون إلى الكهوف وقمم الجبال يفرون بما هم عليه.
فكانت الأمم على اختلاف أجناسها, وتباين لغاتها تعيش تلك الحِقبة المظلمة، وكما جاء في الحديث الذي أخرجه مسلم أن النبي قال: ((إن الله نظر إلى أهل الأرض عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب)) ولقد كان العرب إذ ذاك متفرقين في جزيرتهم, قد لفتّهم تلك الجاهلية حتى بلغت بهم شأوًا بعيدًا, فصرفوا عبادتهم للأحجار والأشجار, حتى إنهم كانوا يعبدون الحجر، فإذا وجدوا حجرًا خيرًا منه ألقوا الأول وعبدوا الآخر, وإذا لم يجدوا حجرًا جمعوا جَثوة من تراب ثم جاؤوا بالشاة يحلبونها عليه, ثم يطوفون عليه.
وأصبحت كل قبيلة تتخذ صنمًا لها, فكانت الأصنام حول البيت العتيق ثلاثمائة وستين صنمًا.
وكانت تحكم علاقاتهم العصبية الممقوتة، فتنشأ الحروب بينهم لأدنى سبب, وكانت الأمراض الجاهلية مستشرية فيهم من وأد للبنات وشرب للخمر وميسر وربا وأنكحة فاسدة ونحو ذلك.
وكان أهل مكة هم أوسط العرب ولهم مزية على غيرهم, ومكانة يحفظها لهم غيرهم.
ومع ذلك لم تنج من تلك الجاهليات الجهلاء, وكان عبد المطلب بن هاشم مسوّدًا في أهل مكة, ولقد كانت السقاة والرفادة صائرة إليه بعد عمه.
وكانت عين زمزم مدفونة من أعقاب جرهم حين طردوا من مكة, فرأى عبد المطلب في منامه أنه أمر بحفر زمزم, فما كان له من ولد إلا الحارث, فنذر إن وهبه الله عشرة من الولد أن يفدي بأحدهم قربانًا, فكان ما أراد وحفر بئر زمزم حيث يمنعه أبناؤه.
وحين أراد الوفاء بالنذر قدم أبناءه ليذبح أحدهم, فكتب أسماءهم في القداح, فخرج قدح ابنه عبد الله, فأخذه ليذبحه, فمنعته قريش, واستقر الأمر على الذهاب إلى كاهنة, فكان من أمرها أن قالت بأن تضرب القداح بين عبد الله وبين عشر من الإبل حتى تخرج على الإبل, فضربوا القداح بين عبد الله وبين الإبل فخرجت على عبد الله حتى عشر مرات ثم خرجت على الإبل ثم ذبحت الإبل فداءً عن عبد الله.
وما مرت أيام قلائل حتى تزوج عبد الله بآمنة بنت وهب, وبعد ليال من الزواج ليست طويلة سافر عبد الله في رحلة قريش إلى الشام, وفي عودته أصابه مرض اضطره إلى البقاء في يثرب عند أخواله بني النجار, وما هي إلا أيام وتوفي.
فما أسرع ما بين فدائه وبين موته, ومن تأمل ذلك يدرك أنها مهلة أمهلها ليضع الأمانة التي في صلبه, لتحملها آمنة في أعماقها.
لتكون علامة البشرى لتبديد تلك الظلمات التي غشيت الأرض وأهلها.
أخرج الإمام أحمد عن أبي أمامة قال: "قلت: يا نبي الله ما كان أول بدء أمرك؟ قال: ((دعوة أبي إبراهيم, وبشرى عيسى, ورأت أمي نورًا أضاءت منه قصور الشام)).
فولد يوم الاثنين, والتُمس له بعد ولادته مرضعة من مرضعات أهل البوادي, فكانت المرضعات تعرض عنه ليتمه, وما كانت إحداهن تدري أنه ولد مبارك, سينالها من البركة ما لم يكن لها بحسبان, حتى كانت حليمة السعدية هي صاحبة الحظ الأوفر بذلك المولود.
قد ورد من حديث عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما قال: "لما ولد رسول الله قدمت حليمة بنت الحارث في نسوة من بني سعد بن بكر يلتمسون الرضعاء بمكة, قالت حليمة: فخرجت في أوائل النسوة على أتان لي, قمراء, ومعي زوجي الحارث بن عبد العزى, أحد بني سعد بن بكر, ثم أحد بني ناضرة, قد أدمت أتاننا, ومعي بالركب شارف والله ما تبض بقطرة لبن في سنة عجفاء, قد جاء الناس حتى أخلص إليهم الجهد, ومعي ابن لي, والله ما ينام ليلنا, وما أجد في ثدي شيئًا أعلله به, إلا أنا نرجو الغيث, وكانت لنا غنم, فنحن نرجوها, فلما قدمنا مكة فما بقي منا أحد إلا عرض عليها رسول الله فكَرِهَتْهُ, فقلنا: إنه يتيم, وإنما يكرم الظئر ويحسن إليها الوالد, فقلنا: ما عسى أن تصنع بنا أمه أو عمه أو جده, فكل صواحبي أخذ رضيعًا, فلما لم أجد غيره, رجعت إليه وأخذته, والله ما أخذته إلا أني لم أجد غيره, فقلت لصاحبي: والله لآخذن هذا اليتيم من بني عبد المطلب, فعسى الله أن ينفعنا به, ولا أرجع من بين صواحبي ولا أخذ شيئًا, فقال: قد أصبت. قالت: فأخذته, فأتيت به الرَّحل, فوالله ما هو إلا أنت أتيت به الرَّحل, فأمسيت أقبل ثدياي باللبن, حتى أرويته, وأرويت أخاه, وقام أبوه إلى شارفنا تلك يلمسها فإذا هي حافل, فحلبها, فأرواني وروي, فقال: يا حليمة, تعلمين والله لقد أصبنا نسمة مباركة, ولقد أعطى الله عليها ما لم نتمنّ, قالت: فبتنا بخير ليلة شباعًا, وكنا لا ننام ليلنا مع صبينا.
ثم اغتدينا راجعين إلى بلادنا أنا وصواحبي, فركبت أتاني, فحملته معي, فوالذي نفس حليمة بيده لقطعت الركب حتى أن النسوة ليقلن: أمسكي علينا, أهذه أتانك التي خرجت عليها؟ فقلت: نعم, فقالوا: إنها كانت أدمت حين أقبلنا فما شأنها؟ قالت: فقلت: والله حملت عليها غلامًا مباركًا. قالت: فخرجنا, فما زال يزيدنا الله في كل يوم خيرًا حتى قدمنا والبلاد سِنَةٌ, ولقد كان رعاتنا يسرحون ثم يريحون, فتروح أغنام بني سعد جياعًا, وتروح غنمي شباعًا, بطانًا, حفلاً, فنحتلب, ونشرب, فيقولون: ما شأن غنم الحارث بن عبد العزى, وغنم حليمة تروح شباعًا حفلاً, وتروح غنمكم جياعًا؟ ويلكم اسرحوا حيث تسرح غنم رعائهم, فيسرحون معهم, فما تروح إلا جياعًا, كما كانت, وترجع غنمي كما كانت.
قالت: وكان يشب شبابًا ما يشبه أحد من الغلمان, يشب في اليوم شباب الغلام في الشهر, ويشب في الشهر شباب السنة, فلما استكمل سنتين أقدمناه مكة, أنا وأبوه, فقلنا: والله لا نفارقه أبدًا ونحن نستطيع, فلما أتينا أمه, قلنا: أي ظئر! والله ما رأينا صبيًا قط أعظم بركة منه, وإنا نتخوف عليه وباء مكة وأسقامها, فدعيه نرجع به حتى تبرئ من دائك, فلم نزل بها حتى أذنت, فرجعنا به, فأقمنا أشهرًا ثلاثة أو أربعة, فبينما هو يلعب خلف البيوت هو وأخوه في بُهْم, إذا أتى أخوه يشتدُّ, وأنا وأبوه في البدن, فقال: إن أخي القرشي, أتاه رجلان عليهما ثياب بيض, فأخذاه واضطجعاه, فشقَّا بطنه, فخرجت أنا وأبوه يشتدُّ, فوجدناه قائمًا, قد انتقع لونه, فلما رآنا أجهش إلينا, وبكى, قالت: فالتزمته أنا وأبوه, فضحكناه إلينا, فقلنا: مالك بأبي أنت؟ فقال: أتاني رجلان وأضجعاني فشقا بطني, وصنعا به شيئًا, ثم رداه كما هو, فقال أبوه: والله ما أرى ابني إلا وقد أصيب, إلحقي بأهله, فرديه إليهم قبل أن يظهر له ما نتخوف منه. قالت: فاحتملناه, فقدمنا به على أمه, فلما رأتنا أنكرت شأننا, وقالت: ما رجعكما به قبل أن أسألكماه, وقد كنتما حريصين على حبسه؟ فقلنا: لا شيء إلا أن قد قضى الله الرضاعة، وسرّنا ما نرى وقلنا نؤويه كما تحبون أحبَّ إلينا, قال: فقالت: إن لكما شأنًا فأخبراني ما هو, فلم تدعنا حتى أخبرناها, فقالت: كلا والله, لا يصنع الله ذلك به, إن لابني شأنًا, أفلا أخبركما خبره, إني حملت به, فوالله ما حملت حملاً قط, كان أخف علي منه, ولا أيسر منه, ثم رأيت حين حملته خرج مني نور أضاء منه أعناق الإبل ببصرى, فوالله ما وقع كما يقع الصبيان لقد وقع معتمدًا بيديه على الأرض رافعًا رأسه إلى السماء فدعاه عنكما فقبضته وانطلقنا".
ولما بلغ ست سنين توفيت أمه, وهي عائدة من زيارة قبر أبيه عبد الله, فعاش بعد ذلك في كنف جده عبد المطلب, ثم في كنف عمه أبي طالب.
وكان في حياته قبل بعثته محفوظًا من جميع أعمال الجاهلية, فكان مبغضًا للأصنام, فلم يخرّ لها يومًا, ولم يهمس بتعظيمها حرفًا.
وكان على خلق عظيم يشهده له كل أهل مكة, حتى أطلقوا عليه الصادق الأمين, وكانوا يودعون عنده ودائعهم, ويرضونه في التحكيم بينهم.
شب وتزوج بخديجة رضي الله عنها, ورزقه الله تعالى منها الولد, وشارك في بناء الكعبة, بل لقد كان محكمًا لقريش في اختلافها في رفع الحجر.
ومضى في حياته تلك حتى حبب إليه الخلاء, فكان يخرج إلى غار حراء, يتعبد لله تعالى فيه.
وهناك في ليلة من ليالي رمضان جاءه جبريل ليكون ذلك اليوم مبدأ لتاريخ الرسالة التي قضى لها أيامه وأسهر من أجلها لياليه.