خطب عيد الأضحى _شبكة شهادة الإسلام
عائض القرني الخطبة الأولى
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
لْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوتِ وَلأرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَـاتِ وَلنُّورَ ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام:1].
لْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ السَّمَـاوتِ وَلأرْضِ جَاعِلِ الْمَلَـائِكَةِ رُسُلاً أُوْلِى أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَـاثَ وَرُبَـاعَ يَزِيدُ فِى الْخَلْقِ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَىْء قَدِيرٌ [فاطر:1].
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكّر أو أراد شكوراً.
وتبارك الذي نزّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً، الذي له ملك السموات والأرض ولم يتخذ ولداً، ولم يكن له شريك في الملك، وخلق كل شيء فقدّره تقديراً.
الحمد لله خيراً مما نقول، وفوق ما نقول، ومثل ما نقول.
لك الحمد بالإيمان، ولك الحمد بالإسلام، ولك الحمد بالقرآن، عز جاهك، وجل ثناؤك، وتقدست أسماؤك، لا إله إلا أنت.
في السماء ما ملكت، وفي الأرض سلطانك، وفي البحر عظمتك، وفي الجنة رحمتك، وفي النار سطوتك، وفي كل شيء حكمتك وآيتك، لا إله إلا أنت.
اللهم لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا.
الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر
الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر
الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر الله أكبر.. كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً.
الله أكبر كلما لمع نجم ولاح، الله أكبر كلما تضوع مسك وفاح، الله أكبر كلما غرد حمام وناح.
الله أكبر كلما رجع مذنب وتاب، الله أكبر كلما رجع عبدٌ وأناب، الله أكبر كلما وسّد الأموات التراب.
الله أكبر ما وقف الحجيج بصعيد عرفات، وباتوا بمزدلفة في أحسن مبات، ورموا بمنى تلك الجمرات.
الله أكبر كلما ارتفع علم الإسلام، الله أكبر كلما طيف بالبيت الحرام، الله أكبر كلما دكدكت دولة الأصنام.
لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله.
كُلُّ شَىْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص:88].
لا إله إلا الله: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبّكَ ذُو الْجَلْـالِ وَلإكْرَامِ [الرحمن:26، 27].
لا إله إلا الله يفعل ما يريد، لا إله إلا الله ذو العرش المجيد، لا إله إلا الله رب السموات والأرض وهو على كل شيء شهيد.
سبحان الله.. سبحان الله.
سبحان من قهر بقوته القياصرة، وكسر بعظمته الأكاسرة، الذين طغوا وبغوا، فأرداهم ظلمهم في الحافرة.
اللهم صل على نبيك الذي بعثته بالدعوة المحمدية، وهديت به الإنسانية، وأنرت به أفكار البشرية، وزلزلت به كيان الوثنية.
اللهم صلّ وسلم على صاحب الحوض المورود، واللواء المعقود، والصراط الممدود.
اللهم صل وسلم على حامل لواء العز في بني لؤي، وصاحب الطود المنيف في بني عبد مناف بن قصيّ، صاحب الغرة والتحجيل، المذكور في التوراة والإنجيل.
اللهم صل على من رفعت له ذكره، وشرحت له صدره، ووضعت عنه وزره.
اللهم صل وسلم على من جعلته خاتم الأنبياء، وخير الأولياء وأبر الأصفياء، ومن تركنا على المحجة البيضاء، لا يزيغ عنها إلا أهل الأهواء، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أيها الناس، سلام الله عليكم ورحمته وبركاته. نعم، نعيش هذه المناسبة الكبرى يوم نتذكر فضل لا إله إلا الله، وعظمة لا إله إلا الله، وقدسية لا إله إلا الله.
أي أمة كنا قبل الإسلام، وأي جيل كنا قبل الإيمان، وأي كيان نحن بغير القرآن.
كنا قبل لا إله إلا الله أمة وثنية، أمة لا تعرف الله، أمة تسجد للحجر، أمة تغدر، أمة يقتل بعضها بعضاً، أمة عاقة، أمة لا تعرف من المبادئ شيئاً.
فلما أراد الله أن يرفع رأسها، وأن يعلي مجدها؛ أرسل إليها رسول الهدى .
هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِى الأُمّيّينَ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَـاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَـابَ وَلْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَلٍ مُّبِينٍ [الجمعة:2].
إن البريـة يـوم مبعث أحمـدٍ نظـر الإله لهـا فبدّل حالها
بل كرّم الإنسان حين اختار من خير البريـة نجمها وهلالها
لبس المرقّع وهـو قـائد أمـةٍ جبت الكنوز فكسّرت أغلالها
لمـا رآهـا الله تمشـي نحـوه لا تنتظر إلا رضاه سعى لها
فأتى عليه الصلاة والسلام، فصعد على الصفا. ونادى العشائر والبطون، ثم قال لهم لما اجتمعوا: قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، فقامت دعوته على لا إله إلا الله، كما كانت دعوة الأنبياء من قبله: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَـاهَ إِلاَّ أَنَاْ فَعْبُدُونِ [الأنبياء:25].
ومعنى لا إله إلا الله؛ لا معبود بحق إلا الله.
ومعنى لا إله إلا الله؛ لا مطلوب ولا مرغوب ولا مدعو إلا الله.
ومعنى لا إله إلا الله؛ أن تعيش عبداً لله، فتكون حياً بقوة لا إله إلا الله، وتموت على لا إله إلا الله، وتدخل الجنة على لا إله إلا الله.
ومعنى لا إله إلا الله؛ أن ترضى بالله رباً وإلهاً فتتحاكم إلى شريعته، ولا ترضى شريعة غيرها. فمن رضي غيرها شريعة. فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. لا يقبل الله منه صرفاً، ولا عدلاً، ولا كلاماً، ولا ينظر إليه، ولا يزكيه، وله عذاب أليم.
ومعنى لا إله إلا الله؛ أن ترضى برسول الله قدوةً، وإماماً، ومربياً، ومعلماً، فتجعله أسوة لك: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَلْيَوْمَ الاْخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21].
ومعنى لا إله إلا الله؛ أن ترضى بالإسلام ديناً، فإنك إن لم ترض به ديناً غضب الله عليك، وكشف عنك ستره، ولم يحفظك فيمن حفظ، ولا تولاك فيمن تولى.
جاء بها فأعلنها صريحة؛ أنه لا إله إلا الله، فاستجاب له من أراد الله رفع درجته، وصمّ عنها من أراد الله عذابه في الدنيا والآخرة.
إِنَّهُمْ كَانُواْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَـاهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ [الصافات:35]. استجاب له أصحابه الأبرار، وأحبابه الأطهار، فقتلوا بين يديه.
يأتي عبد الله بن عمرو الأنصاري يوم أحد فيعلم أنه لا إله إلا الله، ويفيض حباً للا إله إلا الله، ويرفع طرفه قبل المعركة ويقول: اللهم خذ من دمي هذا اليوم حتى ترضى[1].
فيقتل، ويقطع، يقول جابر بن عبد الله عن أبيه: لما كان يوم أحد جيء بأبي مٌسجيّ، وقد مثل به، فأردت أن أرفع الثوب، فنهاني قومي، فرفعه رسول الله ، أو أمر به فرفع، فسمع صوت باكية أو صائحةٍ، فقال: ((من هذه؟))، فقالوا: بنت عمرو، أو أخت عمرو، فقال: ((ولم تبكي؟ فما زالت الملائكة تظلّه بأجنحتها حتى رُفع)).
وفي رواية قال جابر: فجعلت أكشف الثوب عن وجهه وأبكي، وجعلوا ينهونني، ورسول الله ، لا ينهاني، قال: وجعلت فاطمة بنت عمرو تبكيه. فقال رسول الله : ((تبكيه أو لا تبكيه، ما زالت الملائكة تظلّه بأجنحتها حتى رفعتموه))[2].
فجعل الله روحه، وأرواح إخوانه، في حواصل طير خضر ترد الجنة، فتأكل من أشجارها، وتشرب من أنهارها، وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش، حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
أي أمةٍ كنا، وأي أمة أصبحنا!! وأي أمة سوف نكون!!.
الله أكبر كبيراً.. والحمد لله كثيراً.. وسبحان الله بكرةً وأصيلاً.
عباد الله، يا من لبس الجديد، يا من اغتسل بالماء البارد، يا من أتيتم إلى هذا المصلّى، هل ذكرتم من صلى معكم في العام الماضي من الآباء والأجداد، من الأحباب والأولاد؟ أين ذهبوا؟ كيف اختطفهم هادم اللذات؟ آخذ البنين والبنات، مفرق الجماعات.
أسكتهم فما نطقوا، وأرداهم فما تكلموا، والله لقد وُسدوا التراب، وفارقوا الأحباب، وابتعدوا عن الأصحاب، فهم من الحفر المظلمة مرتهنون بأعمالهم، كأنهم ما ضحكوا مع من ضحك، ولا أكلوا مع من أكل، ولا شربوا مع من شرب.
اختلف على وجوههم الدود، وضاقت عليهم ظلمة اللحود، وفارقوا كل مرغوب ومطلوب، وما بقيت معهم إلا الأعمال.
فهل ذكر ذاكر ذاك القدوم؟ وهل أعدّ لذاك المصير؟ وهل أعد العدة لذلك الموقف الخطير؟
الله أكبر كبيراً.. والحمد لله كثيراً.. وسبحان الله بكرة وأصيلا.
أيها الناس، أذكركم ونفسي بتلك الشعيرة العظيمة، بتلك الفريضة الجليلة، بالصلوات الخمس؛ لاحظ في الإسلام لمن تركها، من تركها فعليه لعنة الله، من تركها خرج من دين الله، من تركها انقطع عنه حبل الله، من تركها خرج من ذمة الله، من تركها أحل دمه وماله وعرضه.
تارك الصلاة عدو الله، عدو لرسول الله، عدو لأولياء الله.
تارك الصلاة محارب لمنهج الله، تارك الصلاة مغضوب عليه في السماء، مغضوب عليه في الأرض.
تارك الصلاة تلعنه الكائنات، والعجماوات، تتضرر النملة في جحرها من تارك الصلاة، وتلعنه الحيتان في الماء لأنه ترك الصلاة.
تارك الصلاة لا يؤاكل، ولا يشارب، ولا يجالس، ولا يرافق، ولا يصدّق، ولا يؤتمن.
تارك الصلاة خرج من الملة، وتبرأ من عهد الله، ونقض ميثاق الله.
تارك الصلاة يأتي ولا حجة له يوم العرض الأكبر.
الله الله في الصلاة، فإنها آخر وصايا محمد قبل فراق الدنيا، وهو في سكرات الموت.
عباد الله، لاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، أوصيكم ونفسي بصلاة الجماعة، والمحافظة عليها في المساجد، فمن صلاها بلا عذر في بيته فلا قبلها الله، فإن من شروط صحتها صلاتها في جماعة، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: ((والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم أخالف إلى أناس لا يشهدون الصلاة معنا فأحرّق عليهم بيوتهم بالنار))[3].
الله أكبر كبيراً.. والحمد لله كثيراً.. وسبحان الله بكرة وأصيلاً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي بعد تقوى الله – عز وجل – بصلة الرحم؛ فإن الله تبارك وتعالى لعن قاطعي الأرحام، فقال عز من قائل: وَلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَـاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِى الأرْضِ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوء الدَّارِ [الرعد:25].
وقال جل ذكره: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى الأَرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ أَوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَـارَهُمْ [محمد:22، 23].
فقاطع الرحم ملعون، لعنه الله في كتابه، وصح عنه أنه قال: ((لما خلق الله الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، فقال: ألا ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى يا رب، قال: فذلك لك))[4].
فعهد الله أن يصل من وصل رحمه، وعهد الله أن يقطع من قطع رحمه.
وهذا العيد ـ يا عباد الله ـ من أكبر الفرص للعودة إلى الحي القيوم، فمن لم يعد إلى الله فما استفاد من العيد، ومن لم يتفقد أرحامه بالصلة والزيارة والبر فما عاش العيد.
العيد أن تصل من قطعك، العيد أن تعطي من حرمك، العيد أن تعفو عمن ظلمك، العيد أن تسلّ السخيمة من قلبك، العيد أن تخرج البغضاء من روحك، العيد أن تعود إلى جيرانك بالصفاء والحب والبسمة، العيد أن تدخل الطمأنينة في قلوب المسلمين، العيد ألا يخافك مسلم، قال : ((والله لا يؤمن، والله لا يؤمن والله لا يؤمن))، قيل: ومن يا رسول الله؟ قال: ((الذي لا يأمن جاره بوائقه))[5].
الله أكبر كبيراً.. والحمد لله كثيراً.. وسبحان الله بكرة وأصيلاً.
عباد الله، أذكركم ونفسي آلاء الله، ونعم الله، وعطاء الله، فاشكروه سبحانه وتعالى يزدكم، فإنه من لم يشكر الله عز وجل، أصابه موعوده سبحانه وتعالى من الهلاك والدمار: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَلْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ [النحل:112].
انظروا أي نعمة نعيشها؛ نعمة الأمن في الأوطان، والصحة في الأبدان، وتحكيم الشريعة والقرآن.
انظروا جيراننا من الدول والشعوب، يوم تركوا تحكيم شرع الله، وكتاب الله، غضب الله عليهم، فأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
منهم من ابتلاه الله بالحروب فدكدكت منازله بالمدافع والقنابل والصواريخ، وقتل أطفاله وشرد عياله، فلم يعلم يمينه من شماله وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِىَ ظَـالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102].
ومنهم من ابتلاه الله بالأمراض والأسقام التي لم تكن من قبل، لأنه ارتكب الفاحشة، وابتعد عن منهج الله، وترك شريعة الله، فعاش الخوف والغضب، والمقت في الدنيا والآخرة.
فاذكروا هذه النعم، وتصدقوا عنها بالشكر والبذل والعطاء، وأداء ما افترض الله، فإن كثيراً من الشعوب التي ترونها تعيش الفقر والجوع، كانوا في أرغد العيش وأهنئه، لكنهم كفروا بنعمة الله، وبدلوا دين الله، وجحدوا شرع الله.
وهذه البلاد لما أنعم الله عليها بتحكيم الشريعة، رغد عيشها، وكثر خيرها، وهنأ شعبها، فليس لنا ـ والله ـ إلا أن نتمسك بهذا الدين، وأن نعضّ بالنواجذ على هدي سيد المرسلين، فهذا هو السبيل الوحيد لاستبقاء النعم وعدم زوالها.
الله أكبر.. والحمد لله كثيرا.. وسبحان الله بكرة وأصيلاً.
أيها المسلمون، تعيش الأمة الإسلامية اليوم صحوة إسلامية مباركة، تعيش الأمة عوداً حميداً إلى الله. نسأل الله أن يبارك هذه الصحوة، وأن يحفظها، وأن يثمرها، وأن يوجهها، وأن يهديها سواء السبيل.
لكننا نخاف على هذه الصحوة من صنفين:
• متشدد في دين الله، نفسُه نفسٌ خارجي، علم ظاهر القرآن، وأخذته العبادة عن حقائق الإيمان، فكفّر من شاء، وشهد لمن شاء بالإيمان، وأدخل في الدين من شاء، وأخرج من الدين من شاء. فهذا أول ما نخافه على هذه الصحوة المباركة.
فليست العبادة كل شيء، صح عنه أنه قال عن الخوارج: ((يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية))[6]. وذلك لأنهم أخذوا ببعض النصوص وتركوا بعضها، فلم يتمكنوا من الاستنباط الصحيح، ولا عرفوا دلائل الألفاظ، ومقاصد الأدلة، فضلوا وضلوا حتى كفّروا كثيراً من الصحابة واستحلوا دماءهم.
ورجل مستهتر مستهزئ منافق جعل عباد الله فاكهته، فاستهزأ بهم في المجالس، وحقرهم في المنتديات، وجعل الدعاة غرضاً له؛ يقع في أعراضهم، ويسخر من حركاتهم وسكناتهم وهيآتهم.
قُلْ أَبِللَّهِ وَءايَـاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَـانِكُمْ [التوبة:65، 66]. ولذلك كان هذا منافقاً معلوم النفاق، لأنه جعل أولياء الله عرضة للاستهزاء والاستهتار، فسموا الصالحين والدعاة متطرفين، ومتزمتين، وعصابة مشبوهة، وما أطلق ذلك إلا الصهيونية العالمية، والصليبية العالمية، وأتباعهم من العلمانيين والمستغربين.
عباد الله، إن هذه الصحوة ينبغي علينا تجاهها أمران: أولهما: أن نبارك وندعو لمن قام عليها من ولاة الأمور العاملين بكتاب الله وسنة رسوله، ومن العلماء المخلصين الناصحين للأمة، ومن الدعاة الأبرار الذين وجهوا الجيل إلى الطريق الصحيح.
والأمر الثاني: أن نتواصى بيننا في مساعدة أبنائنا وشبابنا في هذه المسيرة، فقد وُجد في البيوت من الآباء من حارب أبناءه يوم استقاموا، ويوم اتجهوا إلى الله، وهذه حربٌ صريحة على الله، ومحادة مكشوفة لدينه.
الله أكبر كبيراً.. والحمد لله كثيراً.. وسبحان الله بكرة وأصيلاً.
عباد الله، أوصيكم بكتاب الله، أحلوا حلاله، وحرموا حرامه، واعملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه.
كتاب الله، حبل الله المتين، وصراطه المستقيم، كتاب الله، النور الذي لا ظلمة فيه. كتاب الله الهداية الذي لا ضلال بعده. قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَلْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـاذَا الْقُرْءانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء:88].
كتاب الله: لاَّ يَأْتِيهِ الْبَـاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42].
كتاب الله من استمسك به بلّغه الله منازل السعداء، ومن صدف عنه كبّه الله على وجهه في دركات الأشقياء، اقرؤوه آناء الليل والنهار، ضوعوا به بيوتكم تدارسوه مع أبنائكم، اجعلوه قربة تتقربون بها إلى ربكم.
الله أكبر كبيراً.. والحمد لله كثيراً.. وسبحان الله بكرةً وأصيلاً.
عباد الله، أوصيكم بالتوبة النصوح، وبالاستغفار من الذنوب والخطايا، يقول سبحانه وتعالى: قُلْ ياعِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53]. ويقول جل ذكره: وَلَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَـاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُوْلَـئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مّن رَّبّهِمْ وَجَنَّـاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنْهَـارُ خَـالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَـامِلِينَ [آل عمران:135، 136].
عباد الله، إن من المعاصي التي انتشرت بصورة كبيرة في أوساط الشباب وغيرهم؛ جريمة تعاطي المخدرات، وما انتشرت هذه الجريمة إلا بسبب البعد عن الله وعن كتابه وسنة رسوله فامتلأت السجون بالشباب، لأنهم تركوا طريق المسجد، وتركوا تلاوة القرآن، وتركوا حلقات العلم، فابتلوا بهذه الخبيثة: فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَـاسِقِينَ [الصف:5].
ومن المعاصي كذلك تلك المجلات الخليعة، التي أظهرت المرأة معبوداً وصنماً فافتتن بها شباب الإسلام، زنت أبصارهم قبل فروجهم، فجعلوا الصورة الخليعة ـ إلا من رحم الله ـ معبودهم، فأخذهم الهوى، وأصابهم الوله، وضلوا بالعشق، لأن قلوبهم لم تمتلئ بذكر الله، ولم تعمر بلا إله إلا الله.
ومن المعاصي كذلك ـ عباد الله ـ ذلك الغناء والموسيقى الذي ملأ البيوت ـ إلا بيوت من رحم الله ـ من أصوات المغنين والمغنيات، والماجنين والماجنات، الأحياء منهم والأموات، وهذه معصية ظاهرة حورب الله بها تبارك وتعالى.
فالله الله في التوبة النصوح، وفي العودة إلى الواحد الأحد سبحانه وتعالى.
الله أكبر كبيراً.. والحمد لله كثيراً.. وسبحان الله بكرةً وأصيلاً.
العيد يا عباد الله معناه كما سلف؛ العودة إلى الله، ثم العودة إلى كتابه ثم العودة إلى سنة رسوله .
العيد يا عباد الله ليس بصف الموائد الشهية، ولا بركوب المراكب الوطية ولا بسكنى الفلل البهية.
العيد لمن خاف يوم الوعيد. العيد لمن استعد للعرض على الرب سبحانه وتعالى، العيد لمن اتقى الله في السر والعلن.
العيد لمن استعرض صحيفته فاستغفر من السيئات، وسأل الله التوفيق للأعمال الصالحات.
العيد لمن وصل ما بينه وبين الله، وما بينه وبين العباد، العيد لمن عمر بيته بالقرآن، وأخرج آلات اللهو ومغريات الشيطان.
العيد لمن أقام في بيته منهج القرآن، العيد لمن ضوع منزله بالأذكار الحسان.
إذا مـا كنت لي عيـداً فمـا أصـنع بالعيـد!!
جرى حبك في قلبـي كجري الماء في العود
الله أكبر كبيراً.. والحمد لله كثيراً.. وسبحان الله بكرة وأصيلاً.
عباد الله، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله.. الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وإمام المتقين، وحجة الله على الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
عباد الله:
كان من هدي المصطفى في العيدين؛ أنه كان يؤخر صلاة عيد الفطر، ويعجل الأضحى، وكان يخرج في الأضحى قبل أن يأكل شيئاً، بخلاف عيد الفطر فإنه كان يأكل تمرات كما أخبر أنس عنه . وفي رواية: يأكلهن وتراً[1].
وكان يخرج لابساً أحسن ملابسه، متطيباً بالمسك، يمشي بسكينة ووقـار، يكبر ربـه ـ تبارك وتعالى ـ.
وكان عليه الصلاة والسلام يخرج للعيد من طريق ويعود من طريق آخر.
قال جابر بن عبد الله: كان النبي إذا كان يوم عيد خالف الطريق[2]. وذكر العلماء لذلك حكماً جليلة.
منها: إظهار قوة الإسلام والمسلمين في كل مكان.
ومنها: أنك تمر على أكبر عدد من المسلمين فتسلم عليهم.
ومنها: إغاظة أعداء الإسلام.
ومنها: قضاء حوائج من له حاجة من المسلمين.
ومنها: أن يشهد لك الحفظة والملائكة الذين يقفون على الطرق.
الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر.
لا إله إلا الله.. والله أكبر.
الله أكبر.. ولله الحمد.
وكان إذا وصل إلى المصلّى يبدأ بالصلاة قبل الخطبة فيصلي ركعتين، يكبر في الأولى قبل القراءة سبع تكبيرات منها تكبيرة الافتتاح، ثم يقرأ الفاتحة: وسَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ الأَعْلَى [الأعلى:1]. وفي الركعة الثانية يكبر خمس تكبيرات ثم يقرأ الفاتحة: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَـاشِيَةِ[3][الغاشية:1]. وربما قرأ في الأولى: ق وَلْقُرْءانِ الْمَجِيدِ. والثانية: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَنشَقَّ الْقَمَرُ[4][القمر:1].
وكان إذا انتهى من الصلاة، وقف على راحلته مستقبلاً الناس، وهم صفوف جلوس، فخطبهم بخطبة جليلة، يبين فيها أسس العقائد والأحكام، ويأمر المسلمين بالصدقة، ثم يتوجه إلى النساء فيخطُبُهن، ويذكرهنّ.
عباد الله، يسن إذا رجع الإنسان من المصلى يوم الأضحى أن يبدأ قبل كل شيء بذبح أضحيته إن كان مستطيعاً فيسمي ويكبر، ويذبح الأضحية.
والأضحية في الإسلام شأنها جليل وحكمها نبيلة وعظيمة، منها: أنها فداء لإسماعيل عليه السلام.
ومنها: أنها قربة إلى الله الواحد الأحد بالذبح في هذا اليوم العظيم، فإذا ذبحتها فإن السنة أن تأكل ثلثها، وأن تتصدق بثلثها، وأن تهدي ثلثها، وإن فعلت غير ذلك فالأمر فيه سعة، ولكنه خلاف الأولى.
والأضحية ـ يا عباد الله ـ لابد أن تُستسمن، وأن تختار، وأن تصطفى؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، فلا تجزئ العوراء البيّن عورها، ولا المريضة البين مرضها، ولا العرجاء البين عرجها، ولا الهزيلة، ولا العضباء، التي كسر النصف من قرنها أو أكثر، ولا ما قطع نصف أذنها أو أكثر.
ويكره الشرقاء التي انشقت أذنها طولاً، أو الخرقاء التي خرقت أذنها.
والسنة ألا يضحّى من الضأن إلا بالجذع[5] فأكبر، وأما المعز فالثنية[6] فأكبر، سنة نبيكم عليه الصلاة والسلام.
فاذكروا الله على ما هداكم، وكبروه ـ سبحانه وتعالى ـ واحمدوه على النعم الجليلة، والمواهب النبيلة، فإنه ـ والله ـ ما حفظت النعم إلا بالشكر، وما ضيعت إلا بالكفر.
فنعوذ بالله أن نكون من قوم بدلوا نعمة الله كفراً، وأحلوا قومهم دار البوار.
ونعوذ بالله أن نكون من قوم أنعم الله عليهم بنعم، فجعلوها أسباباً إلى المعاصي، وطرقاً للشهوات والمخالفات.
____________
[1] لم أقف عليه.
[2] أخرجه البخاري في الجنائز، باب: ما يكره من النياحة على الميت (1293)، ومسلم في : فضائل الصحابة، باب : من فضائل عبد الله بن عمرو بن حرام (2471)، من حديث جابر رضي الله عنهما بنحوه.
[3] أخرجه البخاري في : الأذان، باب: وجوب صلاة الجماعة (644)، ومسلم في : المساجد ومواضع الصلاة، باب : فضل صلاة الجماعة وبيان التشديد في التخلف (651)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[4]أخرجه البخاري: في الأدب، باب : من وصل وصله الله (5987)، ومسلم في : البر والصلة، باب: صلة الرحم وتحريم قطيعتها (2554)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[5] أخرجه البخاري في : الأدب، باب : إثم من لا يأمن جاره بوائقه (6016) من حديث أبي شريح رضي الله عنه.
[6] أخرجه البخاري في : المناقب، باب : علامات النبوة في الإسلام (3610)، ومسلم في : الزكاة، باب: ذكر الخوارج وصفاتهم (1064) واللفظ له ، من حديث أبي سعيد الخدري.
[7] أخرجه البخاري في : العيدين، باب : الأكل يوم الفطر قبل الخروج (953).
[8] صحيح، أخرجه البخاري في: العيدين ، باب من خالف الطريق إذا رجع يوم العيد (986).
[9] صحيح، أخرجه مسلم: الجمعة – باب ما يقرأ به في صلاة الجمعة (878) من حديث النعمان بن بشير.
[10] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب صلاة العيدين – باب ما يقرأه في صلاة العيدين (891) من حديث أبي واقد الليثي.
[11] قال ابن الأثير في النهاية (1/250) : أصل الجذع : من أسنان الدواب ، وهو ما كان منها شاباً فتياً ، فهو من الإبل ما دخل في السنة الخامسة ، ومن البقر والمعز ما دخل في السنة الثانية ، وقيل: البقر في الثالثة ، ومن الضأن ما تمت له سنة ، وقيل أقل منها.
[12] النية من المعز : ما دخل في السنة الثالثة . ال
نهاية (1/226).