عبير المحرمين إلى البلد الأمين
ماجد بن عبد الرحمن الفريان
ملخص الخطبة
1- روعة منظر الحجيج. 2- تحقيق وعد الله عز وجل لإبراهيم عليه السلام بجعل البيت العتيق مهوى أفئدة الناس.3- بيان فرضية الحج وشروط وجوبه. 4- استحباب تكرار الحج والمتابعة بين الحج والعمرة. 5- فضائل الحج. 6- فضل العمل الصالح في العشر الأوَل من ذي الحجة وما يُشرع فيها من الأعمال.الخطبة الأولى
أما بعد: اتقو الله حقّ التقوى.
معاشر المسلمين، إن الله فرض فرائض فلا تضيّعوها، وسن سننًا فلا تتركوها، وإن الله تبارك وتعالى قد فرض على عباده الحج فريضة من أكبر وأعظم الفرائض. وهو تلك الرحلة الفريدة في عالم الأسفار والرحلات، ينتقل المسلم فيها بروحه وبدنه إلى البلد الأمين لمناجاة رب العالمين.
ما أروعها من رحلة، وما أعظمه من منظر يأخذ الألباب ويشد الأفئدة، فهل شممتَ عبيرًا أزكى من غبار المحرمين؟! وهل رأيت لباسًا قط أجمل من لباس الحجاج والمعتمرين؟! هل رأيت رؤوسًا أعزُّ وأكرم من رؤوس المحلقين والمقصرين؟! وهل مر بك ركبٌ أشرفُ من ركب الطائفين؟! وهل سمعت نظمًا أروع وأعذب من تلبية الملبين وأنين التائبين وتأوه الخاشعين ومناجاة المنكسرين؟!
قف بالأباطح تسـري في مشارفهـا مواكب النور هامت بالتقى شغفا
من كـل فـج أتـت لله طـائعـة أفواجها ترتجي عفو الكريم عفـا
صوب الحطيم خطت أو للمقام مشت مثل الحمائم سربًا بالحمـى اعتكفا
مشى الحجيج بها ركبا حدته ضحـى أسلافنـا فحدونا ركـبه خلفـا
توسّـد الأمـن غاديـها ورائحهـا ونـام في كنف الرحمن حيث غفا
إخوة الإسلام، في كل عام نرى وفود الحجيج وضيوف الرحمن يلبّون نداء الله بالحجّ إلى بيته الأمين، أقبلوا بقلوب طائعة مختارة ملبية تريد رضا ربها، ومن لم يتيسر لهم الحج من المسلمين الباقين يلبّون بقلوبهم ويتطلّعون بأنظارهم إلى هذه البقاع التي شرفها الله ببيته الحرام.
معاشر المسلمين، لقد عرَّف الله إبراهيم مكان البيت ليقيمه على التوحيد ثم يؤذّن في الناس بالحج، ووعده أن يلبي الناس دعوته فيتقاطرون على البيت من كلّ فج، رجالاً يسعون على أقدامهم، وركوبًا على كل ضامر جهَدَه السيرُ فضمر من الجهد والجوع.
وما يزال وعد الله يتحقق منذ إبراهيم عليه السلام وإلى اليوم بل وإلى ما بعد اليوم، وما تزال أفئدة من الناس تهوي إلى البيت الحرام، وتحنّ إلى رؤيته والطواف به، وتتذكّر أصفى نفس أحرمت وأزكى روح هتفت وأفضل قدم طافت وسعت وأطهر شفة نطقت وكبّرت وهللت وأشرَف يد رمت واستلمت.
ولا تزال القلوب تثوب إلى البيت بعد أن رجعت منه متلهفة لمتابعة الحج والعمرة بعد أن أذن إبراهيم عليه السلام في الناس بالحج، وبعد أن أوجبه الله على كل مسلم وجعله ركنا من أركان الإسلام، قال الله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97].
وتبوأ الحج في الإسلام منزلة عظيمة، فكان ركنًا من أركانه التي لا بد منها، فلما سئل رسول الله عن الإسلام قال: ((أن تشهد إلا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتحج البيت إذا استطعت إليه سبيلاً)) رواه مسلم. وهو مع كونه فريضة لا يستقيم إسلام المرء دونها فهو لا يجب في العمر إلا مرة واحدة، فعن أبي هريرة قال: خطبنا رسول الله فقال: ((يا أيها الناس، إن الله فرض عليكم الحج فحجوا))، فقال رجل: أكلَّ عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثًا، فقال رسول الله : ((لو قلت: نعم لوجبت ولما استطعتم)) رواه مسلم.
معاشر المسلمين، والحج لا يجب إلا بشروط أعظمها الاستطاعة بالمال والبدن بعد حاجات الإنسان وضروراته الأصلية، وذلك بأن يملك الزاد والراحلة اللتين تكفيانه ذهابًا وإيابًا من مأكول ومشروب وكسوة بنفقة وسط لا إسراف فيها ولا تقتير. ويعتبر في الزاد والراحلة أن يكونا فاضلين عن نفقة عيالِه ومن تلزَمه نفقتهم من حين ذهابه للحج وحتى رجوعه إلى أهله، وأن تكون ملكية الزاد والراحلة فاضلةً عمّا تمس إليه حاجته الأصلية كقضاء الديون ونحوها، وأن تكون الراحلة مما يصلح لمثله بشراء أو استئجار.
ومما يعتبر لهذه الاستطاعة المشروطة أيضًا أن يكون الإنسان صحيح البدن غير مريض ولا مصاب بعاهة دائمة أو شيخوخة طاعنة لا يستطيع معها أن يثبت على الراحلة بنفسه، وهذا مما لا خلاف فيه بين أهل العلم لقوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً.
معاشر المسلمين، ومما يدخل في شرط الاستطاعة بالنسبة للمرأة أن يتيسّر لها محرم يحجّ معها، وأن لا تكون المرأة معتدّةً، فإن لم يتيسر للمرأة محرم يسافر معها للحج سواء كان زوجها أو أحدَ محارمها فلا يجب عليها الحجّ على الصحيح من أقوال أهل العلم؛ لأنها غيُر مستطيعة للحج، والله شرط لوجوبه الاستطاعة، وكذا إن كانت المرأة في العدّة؛ لأن الله نهى المعتدّات عن الخروج من بيوتهن فقال تعالى: لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [الطلاق:1]، والحج يمكن أداؤه في وقت آخر غيرِ وقت العدة، فلا تلزم به في وقت العدة.
إخوة الإسلام، فإذا توفرت شروط وجوب الحج في الإنسان بأن كان مسلمًا بالغًا عاقلاً حرًا مستطيعًا فهنا تجب المبادرة بأداء هذا الركن العظيم من أركان الإسلام، ويحرم عليه التأخير بعد توفر شروط الوجوب إلا لعذر، يقول رسول الهدى : ((تعجلوا بالحج؛ فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له)) رواه أحمد بسند صحيح، وقد ثبت عن عمر أنه قال: (ليمت يهوديًا أو نصرانيًا ـ ثلاثًا ـ رجل مات ولم يحجّ، وجد لذلك سعة وخليت سبيله) رواه البيهقي بسند صحيح كما قال الحافظ ابن حجر رحمه الله.
معاشر المسلمين، فإذا أدى الإنسان ما وجب عليه من حجة الإسلام فإنه يسنّ في حقه تكرار الحجّ والعمرة متى تيسّرت له السبل، وأفضل من ذلك المتابعة بين الحج والعمرة كما قال رسول الله في حديث ابن مسعود : ((تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة جزاء إلا الجنة)) رواه أحمد والترمذي والنسائي بسند صحيح، و عن أبي هريرة أن النبي قال في حديث طويل: ((والعمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما إذا اجتنبت الكبائر)) متفق عليه.
وللحج فضائل كثيرة متنوعة نصت عليها الأحاديث منها:
أن الحاج يعود من ذنوبه كيوم ولدته أمه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه)) متفق عليه.
ومن فضائل الحج أنه أفضل الأعمال بعد الإيمان والجهاد، عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله : أي العمل أفضل؟ قال: ((إيمان بالله ورسوله))، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله))، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((حج مبرور)) متفق عليه.
ومن فضائل الحج أنه أفضل الجهاد، عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله، نرى الجهاد أفضل الأعمال، أفلا نجاهد؟ قال: ((لا، لكن أفضل الجهاد حجّ مبرور)) رواه البخاري.
ومن فضائل الحج أن المبرور منه ليس له جزاء إلا الجنة كما تقدم في حديث أبي هريرة في الصحيحين: ((والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)).
ومن فضائل الحج أنه يهدم ما كان قبله، فعن عمرو بن العاص أن النبي قال له: ((ألم تعلم أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله؟!)) رواه البخاري ومسلم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.
الخطبة الثانيةأما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله، واعلموا أنكم في هذه الدنيا في دار ممرّ، وما زلتم في سفر، وأن إلى ربكم المستقر، وأنها تمر بكم مواسم عظيمة تضاعف فيها الحسنات وتكفر فيها السيئات، ومن المواسم شهر ذي الحجة، فقد جمع الله فيه من الفضائل ونوّع فيه من الطاعات، ففيه الحجّ وتنحر فيه الهدايا ويتقرب من لم يحج بالأضحيات، وفيه أيام مفضّلة غرّ، فيها عظيم الثواب والأجر، ألا وهي أيام العشر التي قال فيها
: ((ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام)) يعني أيام العشر، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟! قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجلاً خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء)) رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما. وقد دل هذا الحديث على أن العمل في هذه الأيام العشر أحب إلى الله من العمل في أيام الدنيا بلا استثناء، وأنه أفضل من الجهاد في سبيل الله إلا جهادًا واحدًا هو جهاد من خرج بنفسه وماله فلم يرجع بشيء من ذلك، فهذا الجهاد بخصوصه يفضُل على العمل في هذه العشر، وأما بقية الجهاد فإن العمل في هذه العشر أفضل وأحب إلى الله منها.
ولتعلموا ـ يا عباد الله ـ أنّ بعض العلماء فضّل هذه الأيام العشر على العشر الأواخر في رمضان، ومن توسط فضّل أيامها على أيام العشر الأواخر وفضل ليالي العشر الأواخر على ليالي عشر ذي الحجة، فاغتنموا خيرات هذا الشهر الذي تنوّعت فيه الفضائل والخيرات التي أعظمها إيقاع الحج فيه إلى بيت الله الحرام والأضحية. فعلى من نصح نفسه أن يجتهد في عمل الخير أيام العشر من الذكر والصيام والصدقة والبر.
إخوة الإسلام، ويسن التكبير المطلق في كل عشر ذي الحجة في جميع الأوقات وصفته: "الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد". قال البخاري رحمه الله: "وكان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما".
إخوة الإسلام، ويشرع لمن أراد الأضحية أن لا يأخذ من شعره وأظفاره شيئًا من بداية هذه العشر إلى أن يذبح أضحيته، وهذا خاص بالأضحية، فمن أراد الحج وله هدي ينحره فإنه يأخذ من شعره وأظفاره بلا حرج في ذلك.
تقبل الله من المسلمين حجهم، ووفقهم لتعلّم أحكام دينهم.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك...